عندما يحدثك أحدهم عن الرياضة الأكثر شعبية في العالم، لن تتوقف كثيرًا لتفكر أي الرياضات يقصد، ستعرف على الفور أنها كره القدم، الساحرة المستديرة معشوقة الجماهير الأولى في العالم.
المفارقة المدهشة/المحزنة أن الرياضة “الجماهيرية” الأولى في العالم، باتت الغلبة فيها بالدوري المصري لأندية بلا جماهير. لا نتحدث هنا بالطبع عن منع الجماهير من حضور المباريات، بل نتحدث عن أندية بلا ظهير جماهيري.
كيف حدث هذا؟ وما تأثيره على كرة القدم المصرية؟
خريطة الدوري المصري
يتكون الدوري المصري من 18 فريق، ومع الموسم الجديد وبعد صعود أندية البنك الأهلي وسيراميكا كليوباترا للدوري الممتاز سيصبح لدينا 11 ناديًا (من أصل 18) أندية شركات.
أما الأندية الشعبية فلم يتبق لها سوى 7 مقاعد وهي النسبة الأقل منذ انطلاق الدوري المصري منتصف القرن الماضي. وهو الأمر الذي بدأ يمثل هاجس كبير عند أغلب المهتمين بمنظومة الكرة المصرية وصناعها وقطاع كبير من جماهيرها، لا سيما مع عدم تقديم تلك الأندية غير الجماهيرية لأي إضافة للكرة المصرية سواء على صعيد البطولات أو المنتخبات الوطنية، فضلًا عن كونها لم تساهم في رفع مستوى التنافسية أو حتى تقديم ملاعب جديدة للكرة المصرية.
بالعكس ساهمت تلك الأندية في زيادة الفجوة مع الأندية الجماهيرية أكثر، وإبعادها عن الساحة، لعدم التكافؤ المادي و”اللوجيستي” بينهما، ما أدى لإضعاف المسابقة فنيًا، وابتعدت مصر عن صدارة الساحة العربية والأفريقية مخلية مكانها لدوريات وليدة قفزت عليها واحتلت مرتبة أعلى من حيث التنافسية والمتعة الكروية ونسب المشاهدة.
تغلب أندية الشركات على الفرق الجماهيرية
بدأت الظاهرة بعدد بسيط من الأندية في المسابقة إلا أنها استفحلت حتى أنه لم يتبق من الأندية الشعبية ذات الظهير الجماهيري سوى “الأهلي والزمالك والإسماعيلي والمصري والاتحاد وأسوان وغزل المحلة” والأخير رغم أنه يتبع لشركة مصرية لكنه يأخذ الطابع الجماهيري الخالص لتشجيع أغلب سكان المحلة للفريق منذ ظهوره بالدوري العام.
ومع تصاعد سيطرة الرأسمالية على المشهد المصري، زاد تواجد الأندية الخاصة وأندية الشركات على حساب الأندية الشعبية في الدوري الممتاز، التي تآكلت حظوظها مع فقرها وعدم دعمها بالشكل المناسب وتتابع عليها مسؤولين ورؤساء يفتقدون للحس الرياضي والكروي، فكانت النتيجة فشل ذريع. وهو ما ساهم في طمس أندية شعبية بعينها كان لها تواجد كبير فيما مضى، مثل منتخب السويس والمنصورة والمنيا وآخرين كثر.
محمد مصيلحي رئيس نادي الاتحاد السكندري زعيم الثغر في المدينة الساحلية العريقة، يؤكد في حديثه لنا أن الأمر وصل للذروة وأصبح كارثيًا على المسابقة بشكل عام والأندية الشعبية بشكل خاص، فلقد عانى الاتحاد طوال السنوات الماضية من هذه الظاهرة، وصلت إلى معاناته من خطر الهبوط بشكل جدي في أكثر من مناسبة.
يضيف مصيلحي، أن تلك الأندية، قلصت رقعة اللاعبين المميزين بالسوق لاستحواذها على أغلبهم لقدراتها المالية المرتفعة واستقرارها النسبي على عكس الوضع داخل الأندية الجماهيرية، وبالتالي أصبح المتاح من الفئة الثانية والثالثة من اللاعبين الأقل من مستوى الأندية الشعبية وهو ما لا يرضي طموحات جماهيرها.
المال يقضي على روح المسابقة
أدى هذا التدفق الكبير للأموال والاستثمار في أندية بعينها، إلى القضاء على روح هذه البطولة العريقة التي لطالما كانت مساحة واسعة للأندية الشعبية وجماهيرها في كل المحافظات حتى لو بأقل التكاليف، وكان لكل فريق من كل محافظة نجوم كبيرة تمثله قبل عصر الاحتراف، أمثال عائلة أبو جريشة في الإسماعيلي وبوبو والديبة في الاتحاد والشاذلي ورياض في الترسانة وعماشة في المحلة، وغيرهم من نجوم كبار صنعوا تاريخها مع فريقها المحلي وناديها الشعبي كلٍ في منطقته وفريقه الذي برز فيه وبالتالي كانت هناك حالة من الانتماء والوفاء لتلك الأندية وعلاقة خاصة مع جماهيرها، وهنا كانت روح المسابقة والبطولة الكبيرة، التي فقدت تدريجيًا مع ظهور الاتجاه الرأسمالي في الرياضة.
وتمثل تجربة بيراميدز “الأسيوطي سابقًا” والذي كان مملوكًا لـ تركي آل الشيخ رئيس هيئة الترفيه السعودية قبل انتقال ملكيته لشركة إماراتية، خير دليل على توحش تلك الظاهرة وضررها الكبير للكرة المصرية.
فدخول المستثمر الخليجي بأمواله التي لا تنضب، والعروض والرواتب الخيالية التي قدمت للاعبين، دمرت التنافسية تمامًا وقضت على معايير السوق المحلي.
يقول حسن المستكاوي، الناقد الرياضي، والذي شغل منصب رئيس نادي وادي دجلة في فترة انتقالية سابقة، إن الدوري المصري ظل يكتسب قوته من الأندية الشعبية والجماهيرية منذ بدايته، واستمر ذلك حتى مع ظهور أندية الشركات في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ولكن في السنوات الأخيرة ذات ظاهرة الأندية الخاصة وأندية الشركات بشكل كبير.
لكنه يرى، أنه على الرغم من ذلك فإن استثمارات بعض تلك الأندية الخاصة وأندية الشركات، يمكن أن تحقق إضافة للدوري المصري والكرة المصرية، إذا ما أديرت بشروط واضحة يكون هدفها الصالح العام للكرة المصرية وليس مصالح خاصة ضيقة تضر أكثر ما تنفع، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال زيادة التنافسية وتوسيع رقعة إظهار المواهب وضم نجوم جدد للكرة المصرية والمنتخبات وكذلك ملاعب جديدة، وهو ما حققه بشكل خاص وادي دجلة في سنوات ظهوره بالدوري الممتاز، وربما لم تحققه أندية أخرى تنطبق عليها شروط ومعايير أندية الشركات أو الأندية الخاصة. فالظاهرة من وجهة نظر المستكاوي “لها وعليها”.
غضب إدارات الأندية الشعبية
بعد معاناتها الكبيرة في الدوري الممتاز طوال السنوات الماضية وتحديدًا في آخر عقدين منذ بداية الألفية الجديدة وانتشار تلك الظاهرة بشكل واسع، هاجمت إدارات الأندية الشعبية تلك الظاهرة، لتأثيرها المباشر والقوي على حظوظ فرقها في المنافسة أو الحفاظ على مكان لها بالمسابقة المصرية العريقة، وصل الأمر بالاستنجاد بالرئيس عبد الفتاح السيسي قبل 3 أعوام من قبل رئيس نادي أسوان آنذاك، لإنقاذ فريقه الذي لا يقدر على دفع ثمن تذاكر الطيران لنقل فريقه من عاصمة الجنوب لمواجهة الفرق المختلفة في وجه بحري.
“هي أكبر عدو للكرة المصرية” هكذا وصفها علاء وحيد، المتحدث الرسمي لنادي الإسماعيلي، مؤكدًا أن ظاهرة الأندية الخاصة وأندية الشركات لم تفد الكرة المصرية بأي شيء مطلقًا، بل تسببت في ضعف المسابقة وتفريغ الأندية الجماهيرية من لاعبيها المميزين وطمس الهوية والروح والتنافسية للدوري العام العريق.
ويضيف وحيد أن التجربة إما كانت طريقًا لكسب الأموال كتجربة الأسيوطي، أو للشهرة وتلميع رجال أعمال معينين من خلال شراء وإنشاء الأندية، كسموحة مع فرج عامر أو دجلة مع ماجد سامي وسيراميكا الصاعد حديثًا لرئيسه محمد أبو العينين.
وتساءل وحيد عن الفائدة التي سيقدمها ناديي البنك الأهلي وسيراميكا كليوباترا للكرة المصرية، على أي مستوى فني أو متعلق بالبنية التحتية للمنشآت الرياضية، خاصة على مستوى الملاعب فليس لديهم ملعب من الأساس يصلح للعب مباريات الدوري الممتاز، حيث سيؤجر كلاً منهما ملعب موجود بالأساس، فسيلعب مثلًا سيراميكا على ملعب السويس الذي يلعب عليه فريقين آخرين وهو ما سيدمر البنية التحتية للملعب.
ويطالب وحيد تلك الأندية بتقديم أية فائدة للكرة المصرية حتى لو على مستوى الملاعب، مثلما فعل نادي القناة بإنشائه ملعبًا بموصفات عالمية سيتم افتتاحه يناير المقبل.
أندية الشركات ترد
وفي رد لأندية الشركات على الهجوم الموجه إليها، تحدثنا إلى أحد مسؤولي نادي سيراميكا كليوباترا الصاعد حديثًا للدوري الممتاز، والذي قال إن الأندية الخاصة وأندية الشركات صنعت حراكًا كبيرًا بالمسابقة بالسنوات الماضية وكذلك في السوق وأظهرت نجومًا كثيرة أفادت المنتخبات وانتقلت بعد ذلك لهذه الأندية الشعبية وعلى رأسها الأهلي والزمالك، واحترفت في أوروبا، والأمثلة كثيرة وأبرزها محمد صلاح ومحمد النني من “المقاولون العرب”، وحسين الشحات من الشرقية للدخان والذي أصبح أبرز نجوم الأهلي وأغلى صفقاته تاريخيًا.
وعن عدم إسهام تلك الأندية في إنشاء ملاعب جديدة وتدميرها الملاعب الموجودة بالفعل، ينفي مسؤول نادي سيراميكا كليوباترا والذي فضل عدم ذكر اسمه، هذا الكلام، مؤكدًا، أن فريقه يلعب على استاد السويس الجديد منذ العام الماضي من خلال تعاقد مع “شركة استادات”، ولن يلعب على هذا الملعب أي فريق في الدوري الممتاز بالموسم الجديد سواه.
عزوف الجماهير عن المشاهدة
عندما تجد مباراة في الدوري الممتاز بين فريقي البنك الأهلي وسيراميكا كليوباترا أو بين الإنتاج الحربي وطلائع الجيش، لن تقدر على مشاهدتها من الأساس أو لو غامرت وشاهدتها لن تقدر على إكمال اللقاء لنهايته، هنا تفقد البطولة تنافسيتها وحماسها المنشود، لدى الجماهير، بوصفهم المحرك الأساسي لنجاح أي بطولة أو رياضة وكرة القدم تحديدًا، فما بالك بوضع مثل الذي لدينا نلعب المسابقة بدون جماهير من الأساس، فكيف سيشاهد على شاشات التلفاز مباريات من هذا المستوى؟ وهو ما سيؤثر على نسب المشاهدة والبث التلفزيوني كذلك، ويؤثر سلبًا على قيمة حقوق الرعاية، وهو ما سيضر بأغلب الفرق الشعبية قليلة الموارد.
وجهة النظر تلك يؤيدها أحمد سليمان رئيس نادي أسوان، فيؤكد على معاناة فريقه الكبيرة بالسنوات الأخيرة في ضعف الموارد وعدم قدرته على الإيفاء بتعاقداته ورواتب لاعبيه ومدربيه وهو ما يجعل اللاعبين يذهبون دائمًا لتلك الفرق لقدرتها على تقديم تعاقدات ورواتب أعلى من الأندية الشعبية الفقيرة.
ورغم تلك الظروف الصعبة فإن بعض الفرق الشعبية تقدم مستويات عالية، وهو ما فعله أسوان هذا الموسم بالدوري العام حيث استطاع الفوز على الزمالك واحتلال مركز في وسط ترتيب الجدول، وهو ما يثبت في المقابل فشل تجربة الأندية التابعة للشركات والمؤسسات ومنها من هبط رغم وجود موارد كبيرة لديها مقارنة بنادي أسوان.
تراجع قيمة الدوري المصري
ستؤدي لا محالة، ظاهرة إحلال الأندية الخاصة وأندية الشركات محل الأندية الشعبية في الدوري العام إلى تراجع قيمة الدوري المصري على المستويين الفني والإعلاني وسط كل الدوريات العربية والإفريقية، وهو ما بدأ بالفعل، في الوقت الذي صعدت فيه دوريات السعودية والإمارات وقطر، وكذالك دوريات الشمال الأفريقي مثل تونس والمغرب والجزائر، والتي ترتفع قيمتها هي الأخرى على حساب الدوري المصري العريق والرائد في المنطقة بأكملها.
الناقد حسن المستكاوي يرى أن هذه النقطة شاركت فيها أمور أخرى كثيرة بخلاف هذه الجزئية، وهي إمكانات الخليج الكبيرة ماديًا، ما أدت للتعاقد مع نجوم عالميين ومدربين كبار أدوا إلى تلك الطفرة الفنية وخاصة على المستوى الدعائي لتلك الدوريات، وهو ما لم يقدر الدوري المحلي المصري على مجاراته فتراجع أمامهم، إضافة للبنية التحتية للمنشآت الرياضية لدول الخليج ذات المواصفات العالمية، وهو ما جعل تلك الدول تستضيف بطولات قارية وعالمية.
ربط أندية الشركات بالجماهير
تبنى إعلاميين رياضيين كبار ونجوم كرة سابقين، فكرة جيدة لتعزيز الروابط بين أندية الشركات والأندية الخاصة، وبين المنطقة التي تلعب بها، بأن تتخذ فرق بتروجت مثلًا اسم نادي السويس بما أنها تلعب هناك لإضافة عنصر الجماهير على تلك الأندية لتحسين الأمر وزيادة جماهيرها وإعانة تلك الأندية الشعبية على نهوض مجددًا، أو الدمج بين ناد شعبي وناد من أندية الشركات أو الأندية الخاصة.
ولكن في الواقع يصعب كثيرًا تطبيق تلك الفكرة لأمور كثيرة أهمها وأصعبها الجانب الإداري والروتين في مصر وتحويل ملكية بعض تلك الأندية للأندية الخاصة لا سيما وأن أغلب الأندية الشعبية تابع للدولة بشكل أو بآخر وهو مأزق كبير يجعل تنفيذ الفكرة أمر صعب جدًا.