بينما يحتفل المسلمون حول العالم بذكرى المولد النبوي، كانت الدماء تخضب أرض كنيسة فرنسية في مدينة نيس جنوب البلاد، حيث قتل ثلاثة وجرح آخرين على يد رجل يحمل سكينا وهو يردد “الله أكبر”، في حادث ربطته الشرطة بوقائع الانتقام من حملة الرسوم المسيئة ضد نبي الإسلام محمد.

وبالتوازي مع حادث نيس، أعلنت السعودية، صباح الخميس، إصابة حارس القنصلية الفرنسية في جدة في اعتداء بآلة حادة على يد مواطن سعودي، وجرى اعتقال منفذ العملية.

وذكرت وكالة الأنباء الفرنسية أن اثنين من ضحايا الحادث الأول سقطا في كنيسة نوتردام بمدينة نيس، فيما توفي الثالث بعد إصابته بجروح خطيرة داخل حانة لجأ إليها بعد الاعتداء عليه.

الشرطة أعلت إن امرأة، ضحية من الثلاثة، نُحرت رقبتها خلال الاعتداء في نيس، وهو ما وصفه عمدة نيس كريستيان إستروزي، بالفاشية الإسلامية، حيث ظل مرتكب الجريمة يردد “الله أكبر” لحظة اعتقاله في موقع الحادث.

وبدأت النيابة العامة لمكافحة الإرهاب في فرنسا التحقيق في الحادث باعتباره يندرج ضمن الحوادث الإرهابية.

ورفعت أجهزة الأمن في نيس وفرنسا عموما من استعدادها وحيطتها تحسبا لأي هجمات مجددة، في انتظار ما سيسفر عنه اجتماع الأزمة الذي يقوده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع رئيس الوزراء جان كاستكس ووزير الداخلية.

الإسلام والعلمانية في صراع يتجاوز حدود فرنسا

حادث نوتردام في مدينة نيس أعاد الأذهان إلى حادث إرهابي آخر بالمدينة، لكن الضحايا حينها بلغوا 86 شخصا صدمهم رجل بشاحنته خلال الاحتفال بالعيد الوطني في 14 يوليو 2016، ضمن سلسلة عمليات جهادية تنفذها “الذئاب المنفردة” في أوروبا.

كما أن الشهر الأخير توترا كبيرا بين الحكومة الفرنسية والجالية المسلمة، التي يقدر عددها بنحو 6 مليون شخص، كأكبر جالية مسلمة في أوروبا، على خلفية ذبح مدرس  التاريخ صموئيل باتي على يد طالب شيشاني بعد عرضه رسوما مسيئة للنبي محمد على تلاميذه في الفصل الدراسي.

الرئيس الفرنسي انحاز للآلاف الذين تظاهروا في شوارع العاصمة تنديدا بالحادث، ليعلن بدء حملة كبيرة لقمع مصادر التطرف، وفق تعبيره، بإغلاق بعض المساجد والمدارس والجمعيات والمنظمات الإسلامية التي يثبت علاقتها بتمويل الإرهاب.

وأخد الحادث منحني “علماني- إسلامي” بعد إعلان ماكرون أن بلاده لن تتخلى عن الرسوم الكاريكاتورية باعتبارها ضمن أهم مكاسب حرية تعبير، معتبرا أن باتي كان يجسد القيم العلمانية والديمقراطية في الجمهورية الفرنسية.

تصريح ماكرون كان بمثابة ضوء أخضر لعرض رسوم شارلي إيبدو في الميادين العامة وعلى واجهة المؤسسات الحكومية، ما دفع حكومات إسلامية ومؤسسة الأزهر الشريف إلى الاشتباك مع القضية، كونها إهانة صريحة للمقدسات الإسلامية.

عربيا، وصف مجلس حكماء المسلمين التصريحات الأخيرة لماكرون بأنها حملة ممنهجة تسعى للنيل من نبي الإسلام والاستهزاء بالمقدسات الإسلامية تحت شعار حرية التعبير، معلنا تشكيل لجنة قانونية دولية لرفع دعوى قضائية ضد مجلة “شارلي إيبدو” بسبب ما اعتبره المجلس إساءة لنبي الإسلام.

المجلة الفرنسية كانت بطلة حادث إرهابي كبير في 2015، حين هاجم متشددون مقر الجريدة بالأسلحة النارية ما تسبب في مقتل 11 شخصا من هيئة تحريرها، وذلك بعد نشرها رسوما ساخرة من الرسول محمد.

فيديو: الهجووم الدامي على مقر مجلة شارلي إبدو

المجلة التي تصدر حاليا من مكان سري تحت حراسة من الشرطة أعادت نشر هذه الرسوم في الأسابيع الأخيرة بالتزامن مع محاكمة المتورطين في الحادث الذي راح ضحيته 11 من زملائهم.

ومن جهته، دعا الرئيس عبدالفتاح السيسي، خلال كلمته بالاحتفال بالمولد النبوي، إلى احترام مشاعر المسلمين وإدانة أي أعمال عنف ترتكب باسم الأديان، مؤكدا أن التطرف لا يقتصر على دين بعينه.

السيسي قال إن حرية التعبير يجب أن تتوقف عندما يصل الأمر إلى جرح مشاعر مليار ونصف شخص، في إشارة إلى حملة الرسوم المسيئة.

والموقف الفرنسي يضع المسلمين هناك في مأزق جديد

تبدو فرنسا في مأزق أيديولوجي الآن بين الدفاع عن حرية التعبير التي تشتهر بها عاصمة النور على مدار تاريخها، خصوصا بعد حديث ماكرون عن تجسيد المدرس للقيم العلمانية الفرنسية، وتكراره أن الديانة الإسلامية تعيش في أزمة حقيقية، وبين الاستجابة للضغوط الإسلامية والحكومات العربية التي دخلت بعض شعوبها في مقاطعة اقتصادية في الفترة الأخيرة لمنتجات فرنسا.

لا تملك فرنسا الآن حلولا كثيرة خصوصا أنها تتأثر اقتصاديا بسبب هذه الأزمة، وهو ما كشفته حث وزارة الخارجية الفرنسية الحكومات الإسلامية على عدم مقاطعة المنتجات الفرنسية، معتبرة أن دعوات مقاطعة المنتجات الغذائية في الشرق الأوسط يجب أن تتوقف كما يجب أن تتوقف العمليات الإرهابية في بلاده.

وعلى الجانب الآخر، فتبدو الخسائر محتملة في المقام الأول للمهاجرين العرب الذين يدفعون فاتورة “الإسلاموفوبيا”والجرائم الإرهابية العشوائية التي تكررت على فترات متباعدة منذ حادث شارلي إيبدو في 2015.

التصعيد مستمر إذا لم يبدأ حوار لاحتواء الأزمة

تتوقع فرح رمزي، الباحثة في علم الاجتماع السياسي بمعهد الدراسات السياسية في بوردو، استمرار حالة الشحن الفرنسي الرسمي ضد المؤسسات الإسلامية طالما زادت الحوادث الإرهابية في فرنسا وبحق مواطنيها في البلدان العربية، خصوصا أن الحوادث تتزامن مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية وصعود التيار اليميني.

رمزي،  ترى في حديثها مع “مصر 360” أن المؤسسات الإسلامية سواء الأزهر او الكيانات الإسلامية في فرنسا مطالبة بعدم تحفيز المسلمين على الرد على أي خطوات تصعيدية من قبل الحكومة الفرنسية، والسعي إلى خلق مساحة حوار من أجل احتواء الأمور.

ووشى وصف عمدة نيس للحادث الأخير بالفاشية الإسلامية بمزيد من التصعيد الخطابي تجاه المهاجرين، وتحديدا المسلمين منهم، في الفترة المقبلة، خصوصا أن تلك الحوادث تغذي مساحات انتشار وعلو أصوات اليمين المتطرف في السلطة وخارجها.

الباحثة في بوردو تشير إلى أن الحوادث الأخيرة ستدفع ماكرون إلى إعادة النظر في قرارته الأخيرة بإعادة تعريف علاقة الدولة بالمسلمين وتعليم الإسلام في فرنسا، ولا تستبعد توقفها لكنها ستأخذ مسارا مختلفا بسبب الأحداث الأخيرة.

والمزيد من العنف في فرنسا وأوروبا يدعم مواقف اليمين المتطرف

الباحث المغربي المهتم بالتجديد الديني سعيد ناشيد، يرى أن خطاب ماكرون في الأحداث الأخيرة كان متوازنا وهادئا بقدر ما كان عاطفيا بالنظر إلى المناسبة المؤلمة، “فطعن أستاذ كان يقوم بمهمته في تلقين التسامح انطلاقا من وضعية مسألة مستفزة للنقاش، أو هكذا كان يفترض، هو بمثابة طعنة في قلب المدرسة الفرنسية والتي هي العمود الفقري للجمهورية الفرنسية”.

أضاف ناشيد في حديثه إلى “مصر 360” أن الرسوم الساخرة من الديانات والمقدسات والسياسات أمر جار العمل به في الدول الأوروبية، وبصرف النظر عن حساسية شخصية رسول الإسلام (ص)، فالرد على الرسم لا يكون بالذبح بل بالقانون، والرد على الدرس لا يكون بالذبح بل بالنقاش التربوي.

برأي ناشيد فإن التهييج والتجييش لغرائز الجموع المهزومة حضاريا سيقود الأمور نحو الارتطام بالحائط، لافتا إلى أن النافخين في الرماد اليوم كثيرون يتاجرون بانفعالات المسلمين لأجل حسابات خاطئة في آخر الحساب.

“الاعتداءات الإرهابية في فرنسا وأوروبا اليوم ستصب الماء في دقيق اليمين المتطرف”، والمطلوب الآن، والكلام هنا لناشيد، إحداث نوع من التغيير في سياسة الهجرة والاندماج للتقليص من الجيتوهات التي تمثل خطرا حقيقيا على روح الجمهورية الفرنسية.