لم يشفع الإغلاق الذي شهده العالم خلال السنة الجارية بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد، لكوكب الأرض كي يلتقط أنفاسه ولو قليلًا، إذ يبدو أن التغير المناخي ماضٍ في طريقه نحو الأسوأ.
ولأوّل مرة منذ بدء تسجيل رقعة الجليد في القطب الشمالي الذي يفترض به أن يكون متجمدًا، أي منذ سنة 1979، لم يتجمد حتى الآن بحر لابتيف القريب من سيبيريا إلى الشمال، متأخرًا بنحو شهر عن موعد تجمده كل عام مطلع شهر أكتوبر، الأمر الذي يعتبره علماء وباحثون بمثابة تحذير شديد اللهجة من المناخ، بعد أن تسارعت وتيرة الاحترار العالمي بأكثر من التوقعات السابقة.
وكان العلماء يتوقعون الوصول إلى هذه الدرجة بداية من عام 2030، في حال استمر التغير المناخي على نفس الوتيرة، على أن يكون عام 2050 بداية خلو القطب الشمالي من الجليد تمامًا في بعض أوقات فصل الصيف.
رسم بياني يكشف سرعة وتيرة انحسار الجليد في بحر لابتيف خلال السنوات الأربع الماضية (الجارديان - Noaa)
عام 2020 كان جنونيا
بداية من التسعينات بدأ العالم رسميًا بالالتفات لقضية التغير المناخي؛ بدأ الاحترار العالمي يُشهد العالم بوجوده. لكن ما لم يكن متوقعًا هو الوصول إلى هذه اللحظة الحرجة بهذه السرعة، الأمر الذي دفع مدير المركز الوطني الأمريكي لبيانات الجليد، مارك سيريز إلى القول إن “هذا العام كان جنونيًا”، موضحًا: “2020 بمثابة علامة استغراب في الاتجاه التنازلي لحجم الجليد البحري في القطب الشمالي”.
هذا وحذرت دراسة سابقة، نشرت في يوليو الماضي، من ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة بالقطب الشمالي وسيبيريا. وقالت الدراسة التي أعدتها مؤسسة “world weather attribution“، إن الموجة الحارة الطويلة زادت هذا العام أكثر من 600 مرة بسبب الدور المباشر للإنسان في التغير المناخي، موضحةً أن التوقعات كانت تشير إلى احتمالية وقوع هذا الحدث مرة كل 130 عامًا، قبل أن تفاجئنا 2020.
الفترة من يناير إلى يونيو 2020 أكثر دفئًا بمقدار خمس درجات مئوية عن المتوسط خلال الفترة ما بين 1981 و2010 (المصدر: WWA)
وخلال نفس الفترة التي قيست فيها درجات الحرارة في منطقة سيبيريا، أي من يناير إلى يونيو، فبالمقارنة بعام 1900، أي قبل 120 عامًا؛ ارتفعت درجة الحرارة بمقدار درجتين مئويتين على الأقل. وبمد الخط على استقامته، من المحتمل أن ترتفع درجات الحرارة في 2050 بواقع 7 درجات مئوية.
تكشف هذه الخارطة الأماكن الأكثر دفئًا في مايو 2020 (باللون الأحمر) بما يوضح ارتفاع الحرارة في سيبيريا خلال تلك الفترة (ناسا)
ماذا يعني عدم تجمد مياه القطب حتى الآن؟
عدم تجمد بحر لابتيف حتى الآن ليس فقط تحذير شديد الهجة من تسارع الأزمة، بل له أيضًا آثار مباشرة تعزز من التغير المناخي.
ما يحدث عادة أن بحر لابتيف، حيث مسقط رأس الجليد لمحيط القطب الشمالي، يبدأ بالتجمد في موعده بداية فصل الخريف، أو مطلع شهر أكتوبر.
تنجرف الرقع الجليدية للبحر غربًا باتجاه القطب الشمالي، محمّلة بالعوالق والمغذيات (Nutrients)، قبل أن تتفكك على مدخل محيط القطب الشمالي عند مضيق فرام.
لكن مع تأخر تجمد بحر لابتيف، ومع وضع في الاعتبار مواقيت الفصول وحركة الجليد باتجاه القطب الشمالي، فإن طبقة جليد البحر ستكون أرق، ما يعني انخفاض مخزونها من العوالق والمغذيات التي تساهم بدرجة كبيرة في سحب ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، ما يعني في هذه الحالة مزيد من الاحتباس الحراري والذي يعني بدوره مزيد من الجليد الذائب، وهكذا.
وكيف تتأثر مصر بارتفاع حرارة بحر على بُعد 7200 كم؟
تعتبر مصر واحدة من أكثر مناطق العالم تأثرًا بالتغير المناخي على المدى المتوسط والبعيد. لكن بما أن وتيرة الاحترار أسرع، فقد تتقلص المدد التي كانت متوقعة.
بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للتكيف مع التغير المناخي (UNDP) ، تتضافر العديد من الظروف لتجعل مصر شديدة التأثر بالتغير المناخي، من ذلك الاكتظاظ السكاني، وتركزه في منطقة دلتا النيل بواقع أكثر من 40% من نسبة السكان.
وبالجملة، فإن دلتا النيل، التي من المتوقع أن تكون الأكثر تضررًا في مصر من الاحتباس الحراري، تمثل الثقل الاقتصادي والديمغرافي للبلاد، كما أنّ اعتماد مصر بأكثر من 95% من مواردها المائية على نهر النيل، يفاقم الأزمة المحتملة، بسبب أنه من المتوقع أن يتأثر نهر النيل بدرجة كبيرة بالتغير المناخي، وفقًا للبرنامج الأممي.
بالإضافة لذلك فإنّ الموقع الجغرافي لمصر يجعلها “هشّة مناخيًا” بتعبير أستاذ التغيرات المناخية بمركز البحوث الزراعية في وزارة الزراعة المصرية، محمد علي فهيم، ذلك أنّ مصر تعاني فقرًا في الأمطار التي لا تتجاوز في العادة 100 ملليمتر مكعب.
كانت مصر تمتاز بوضوح الفصول المناخية بالشكل الذي ساعد المزارع المصري على فهم البيئة والتعامل مع زرعها بسهولة.
لكن كل شيء اختلف بدرجة ملحوظة، أو كما قال محمد علي فهيم في حوار معScientific American عربي: “نتيجة للتغير المناخي حدث زيادة ارتباك في النظام المناخي” أدى لتقلبات مناخية حادة، مثل وصول درجة الحرارة في مصر إلى مستوى غير مسبوق وهو 50 درجة مئوية في مايو 2019، ومثل هطول أمطار غزيرة بدرجات كثيفة في فترات زمنية قصيرة جدًا، ما يفسر غرق بعض المناطق في مصر وحدوث سيول قوية على البحر الأحمر وجنوب الصعيد.
تسبب التغير المناخي في اختلال النظام المناخي بمصر
يمثل الأثر الأخطر للتغير المناخي على مصر، ما قد يصيب دلتا النيل. من هنا تظهر الرابطة بين بحر لابيف في محيط القطب الشمالي وبين مصر.
تأخر تجمد البحر هو من العلامات الكبرى على المعركة الأخيرة مع تغير المناخ، إذ يعتبر دليلًا قويًا على أثر شدة الاحتباس الحراري على جليد العالم، الذي بمزيد من ذوبانه تزداد نسبة مياه البحار، ما يعني أن اليابسة الأكثر انخفاضًا هي بالضرورة الأكثر عرضة للغرق، الأمر الذي ينطبق على الدلتا.
وأين تبدأ خسائر مصر من التغير المناخي؟
ومن المرجح أن تكون مدينة الإسكندرية أوّل الضحايا.
وبحسب أستاذ الدراسات البيئية بجامعة الإسكندرية، محمد الراعي، فإن ارتفاعًا بمقدار 50 سنتيمتر في منسوب مياه البحر المتوسط، كفيل بالتهام 30% على الأقل من مساحة الإسكندرية.
مساحات شاسعة من الإسكندرية مهددة بالغرق بسبب الاحتباس الحراري (UNDP)
وبالجملة، تعد منطقة الدلتا التي يسكنها أكثر من 40 مليون نسمة، مهددة بفقدان أكثر من 730 كيلومتر من مساحتها بحلول عام 2050، أي بعد ثلاثين سنة من الآن، وذلك فقط في حال حدوث انخفاضات معتدلة في انبعاثات الغازات الدفيئة المتسببة في الاحتباس الحراري، بمعنى أنّه في حال ارتفعت معدلات الاحتباس الحراري بشكل أسرع وأكبر من النماذج المعدة مسبقًا، فإن هذا قد يعني سيناريوهات أسوأ من المتوقع. ومع افتراض السيناريو السيء فقط دون الأسوأ، فإن حياة خمسة ملايين إنسان على الأقل، مهددة بمستويات مختلفة.
يُذكر أنه منذ عام 2012 سجلت اللجنة الدولية للتغيرات المناخية (IPCC) التابعة للأمم المتحدة، غرق دلتا النيل بمعدل 3.2 ملليمتر سنويًا.
وفقًا لخريطة معهد الموارد المائية في 2015، ستفقد مصر ما بين 10% إلى 20% من مواردها المائية الطبيعية بحلول 2040
ولا تتوقف المخاطر المحتملة للاحتباس الحراري على غرق الدلتا، بل تتجاوزها إلى الموارد المائية، سواءً بالتأثير المباشر على منابع نهر النيل الذي يمثل 95% من موارد مصر المائية، أو بزيادة معدلات التبخير للمسطحات المائية، والتي وصلت لنسبة 10% بخزان أسوان، وفقًا لأستاذ الدراسات البيئية بجامعة الإسكندرية، محمد الراعي.
وبالضرورة سينسحب هذا التأثير بشكل متتابع على مختلف القطاعات الحيوية، بما قد يؤدي إلى تضاعف معدلات الفقر والبطالة، ويُحدث تغييرًا في ديموغرافية البلاد وطبيعتها الإنتاجية.
وهكذا تصبح مصر، التي تعد من بين الدول الأقل مساهمة في التغير المناخي، من أكثر دول العالم تأثرًا بتداعيات التغير المناخي.