كثيرا ما يرتبط  تعبير “النسوية الإسلامية”في عقلي بفيلم عادل إمام “واحدة بواحدة” والاختراع الذي لم تكن له هوية طول الفيلم والذي قرروا تسميته بـ”الفنكوش”.  فلا يمكن أن تكون النسوية “إسلامية” أو “مسيحية” أو بوذية”، لأن الربط بين حقوق النساء وحرياتهن بالحدود والقواعد الدينية سيصب حتما في اتجاه تحجيم تلك الحقوق والحريات باسم الدين. بينما السبب الحقيقي في أغلب الأوقات هو “التفسير الذكوري” للأديان ونصوصها.

النسوية نظريا هي الطريق لإعادة تفكيك طريقة التفكير السائدة والوعي الجمعي الذي يرسخ للتمييز بين النساء والرجال، ويكرس هيمنة الذكور. هذا الوعي الجمعي لم يؤثر فقط على الأفراد العاديين في حياتهم اليومية ولكنه ترك أثرا عميقا على العلماء والفلاسفة وأيضا رجال الدين واللاهوت الذين خرجت تحليلاتهم ونظرياتهم العلمية متشبعة بالذكورية.

ففي الفلسفة كان غالبية الفلاسفة كانوا ينطلقون من قاعدة يعتبرونها من الحقائق المسلم بها وهي أن المرأة في مرتبة أدنى من الرجل على سلم التطور الإنساني. وفي مجال البحث العلمي تم تكريس وقت وجهد أكبر بكثير لدراسة الرجال وتأثير كل شيء عليهم بينما تم إهمال النساء لأزمان طويلة. ومن نفس المنطلق يتحرك رجال الدين، فهم يفسرون الأديان المختلفة  وفقا لرؤاهم التي تأثرت حتما بالتمييز ضد النساء والتسليم بحتمية سيادة الذكور.

لدى طرح تساؤل ساخر عن أوجه الشبه والاختلاف بين النسوية الإسلامية والفنكوش، ردت صديقتي هند سالم مديرة دار هن للنشر والتوزيع بأنها بالفعل تختلف مع “النسوية الإسلامية” أو أى نسوية تلصق اسمها بالدين لأن هناك تيار يُدعى “نسوية مسيحية مستندة على تفسير الكتاب المقدس من منظور نسوي”. إلا أن النسوية الإسلامية انتجت جهدا نظريا كبير مهم الاطلاع عليه.

فكتابات آمنة ودود -على سبيل المثال- ورغم كونها “مربكة” لكنها مهمة. كما أن “حركة مساواة”بذلت جهودا ممكن أن ينتج عنها تحقيق مكاسب على مستوى قوانين الأحوال الشخصية والممارسات المتعلقة بالأسرة في البلدان الإسلامية أو التي تستند قوانينها إلى الشريعة. هذا بالإضافة لكتابات زيبا ميرحسيني.

ظهر ما يُعرف باسم “النسوية الإسلامية” فى النصف التاني من القرن العشرين على يد ناشطات إيرانيات عقب الثورة الإسلامية في إيران لانتزاع حقوق النساء في ظل المنظومة الفقهية الشيعية. وحاول هذا التيار إعادة تفسير النص الديني من منظور النسويات “الإسلاميات” والاستناد إلى اجتهادات وقراءات لتنوريين رجال أعادوا قراءة النص الديني.

تأتي كتابة هذا المقال وسط حملة تدعو إلى “نصرة رسول الله” ضد “الإهانة الفرنسية”. القصة كلها بدأت بإقدام متطرف إسلامي على ذبح رجل فرنسي.. غضبت فرنسا وتمسكت بحرية التعبير وأطلقت حملة اعتقالات وتفتيشات مشددة ضد الإسلاميين. على إثرها انطلقت دعوات الغضب للدفاع عن الإسلام “دين التسامح” ضد عدم احترام “مشاعر المسلمين” ومن أجل “الدفاع عن رسول الله”. ونسيت الغالبية الغاضبة القصة الأصلية الخاصة بفعل الذبح وبرروا له بكونه نتيجة لـ”الاستفزاز” الذي حدث للإرهابي القاتل بعدما شعر بإهانة دينه المقدس.

هذا التشنج اللاعقلاني في علاقة شريحة كبيرة من المسلمين بالدين مرعب إلى أقصى درجة ويمكن أن يوضح كيف تسيطر الجماعات الأكثر تطرفا على قطاعات واسعة من أنصار دين ما لصالح استمرار الربط بين هذا الدين وبين العنف والإرهاب. فبدلا من مناقشة لانتهاكات حقوق الإنسان خلال الحملة الفرنسية ضد الإسلاميين، أو إدانة ازدواجية معايير صحيفة “شارلي إبدو” مع الديانة اليهودية وإسرائيل حيث تسخر من جميع الديانات بينما حين يتعلق الأمر باليهودية أو إسرائيل يجري العصف بصاحب الانتقاد الساخر تحت سيف قوانين معاداة السامية.

جاءت إدانة العنف والإرهاب بكل أشكاله خافتة. وبدلا من السعي الحقيقي وكشف الخلل الذي يجعل شريحة كبيرة من المسلمين تتجه إلى التطرف والإرهاب، انطلقت الجموع لإدانة “إهانة” الدين الإسلامي. وبدت الرسالة التي تبعث بها تلك الشريحة من المسلمين هي أن “الإرهاب” طريقة مقبولة للدفاع عن القناعات الدينية.

ذلك القطاع من المسلمين يثير الرعب سواء كان الحديث عن الحريات الدينية أو حرية التعبير أو النسوية وحقوق المرأة. فمن يقتنعون بشرعية “الإرهاب” والذبح” لن يتورعوا عن ممارسته ضد النساء. وبالتالي يأتي الرعب من الربط بين حقوق النساء وبين الدين الإسلامي أو أي دين آخر.

فحين يجري تناول قضايا النساء عادة ما يقفز الآلاف إلى الربط بين أي رؤية يجري تقديمها وبين الفهم الفردي لماهية الأديان المختلفة وتفسيرها. المشكلة هنا أنه لا يوجد دين واحد لا في الأديان الإبراهيمية الثلاثة ولا في الأديان الوضعية، فالتفسير الشخصي للدين يختلف من فرد لآخر أحيانا والتفسير السائد للدين يختلف في أغلب الأحيان من مجتمع لآخر، فالإسلام المصري ليس الإسلام السعودي وليس هو الإسلام الباكستاني.. ألخ.

وقبل أن يخرج شخص ما ليجادل بأن الإسلام “صالح لكل زمان ومكان”، فتفسيري الشخصي لهذا هو أنه دين مرن يحمل تفسيرات متعددة مما يجعله قابلا لخدمة كل المجتمعات في كل الأزمان، وليس لأنه ذو تفسير واحد ثابت لا يتغير.. وهو ما يؤكد فكرة العدد الللانهائي من التفسيرات أو النسخ المتباينة للدين الإسلامي حسب المجتمعات والأزمان وأيضا الأفراد.

الأديان المختلفة، أو بمعنى أكثر دقة التفسير والفهم البشري للأديان والنصوص الدينية  متغير ويختلف من شخص لآخر ومن طائفة دينية للثانية ومن دين لدين، ومن زمن لآخر. بما يعني أن كل دين ممكن اعتباره مجموعة أرفف عليها “كل حاجة وعكسها” ولكل فرد حسب دماغه طريقة تفكيره وحسب مصلحته وأيضا أهواؤه الشخصية.

وإذا اقتربنا من قضايا النساء وعلاقتها بالدين في مصر سنجد مثلا أن الموقف الرسمي من المؤسسات الدينية الإسلامية في مصر من قضايا ختان الإناث والتحرش، تباين على مر الزمن. فلعقود طويلة اختار الموقف الرسمي للمؤسسات الدينية سحب الأدلة الشرعية من على الرف الذي يسمح بختان الإناث والتحرش بهمن باعتباره “تكريم” أو لأن الخطأ سببه الأنثى غير الملتزمة.

المجتمج كمجموعة بشرية تغيرت مواقفها إلى حد بعيد (أو على الأقل مواقف شريحة كبيرة من الفئات الفاعلة) وبدأت الواقف الرافضة لختان الإناث وللتحرش تنتشر. وتغيرت قناعات كثير من البنات والشباب من الأجيال الجديدة. وأصبحوا يتعاملون مع التبريرات الدينية للختان والتحرش باعتبارها ليست دينا ولكن تفسير بشري خاطئ ليس أكثر. ومع الضغوط المجتمعية تم سن تشريعات ضد ختان الإناث وضد التحرش والاعتداءات الجنسية. وفي النهاية تغير موقف المؤسسات الدينية الرسمية وبدأت تظهر الأدلة الشرعية على تجريم ختان الإناث والتحرش دون أية تبريرات لها علاقة بشكل المرأة أو زيها أو سلوكها.

رغم هذا التغير الواضح في الاتجاه الإيجابي إلا أنه لم يتم بعد التغلب على نتاج عقود وقرون من انتهاك أجساد النساء برعاية التفسيرات الدينية الخاطئة. فغالبية المصريين لا يزالون يختنون بناتهم، كما أن ملايين الرجال لازالوا يتحرشون بالنساء.

الزمن حتما يلعب دوره في تغيير احتياجات البشر وبالتالي طريقة تفكيرهم، لكن ما يرتبط بالعقائد الدينية يقاوم التغيير أمدا أطول، ومن هنا تأتي خطورة الربط بين حقوق النساء وبين الأديان.  بالطبع لا يمكن رفض تفسيرات أكثر عصرية للأديان وللنصوص الدينية لتتوافق مع الزمن ومتغيراته. ولا يمكن أيضا رفض محاولات القراءة النسوية للنصوص الدينية، فالأديان التي لا تتوافق مع تغيرات العصر تندثر ولا يبقى إلا الديانات التي تراعي متغيرات مصالح البشر من معتنقيها.

 

الخطر هو استغلال تعبير “النسوية الإسلامية” وتحويله إلى سياج يضع حدودا لا يمكن تجاوزها فيما يتعلق بحقوق النساء والمساواة. أو بمعنى آخر استغلاله كطريقة “حديثة” لتغليف التمييز ضد المرأة على أساس ديني. الخطر هو عدم الانتباه إلى أن “النسوية الإسلامية” ليست سوى بداية طريق لتحرير التفسيرات الدينية من سطوة العقل الذكوري. أو مرحلة وسيطة انتقالية نحو مساواة حقيقية بين الرجال والنساء دون قيود التفسيرات الذكورية للدين.