قبل 15 عاما، لم يكن الخروج من الوادي القديم إلى صحراء النوبارية سوى مغامرة مهنية بالنسبة لاستشاري الموالح أسامة العيسوي، أما الآن فهو الدليل لكثير من المزارعين الذين قرروا التخلي عن “الطين” من أجل خيرات “الرمل”.

بدأ العيسوى، الذي يمتلك خبرة 17 عاما كمهندس زراعي متخصص في الموالح، حياته في مزارع البحيرة قبل أن يشق طريقا في صحراء النوبارية، وهي مدينة تتبع البحيرة إداريا، تقع على طريق مصر/ إسكندرية الصحراوي، وهناك يتداخل اللونان الأصفر والأخضر بطول المدينة.

“الخروج من الوادي ليس سهلا على الإطلاق، لكننا هيأنا الأرض في الصحراء لأنها المستقبل، ولو فضلنا مكانا هنبيع الأرض ونبطل زراعة” يقول العيسوي الذي يعمل في مزارع مختلفة بالنوبارية ووادي البستان ووادي النطرون، التي تشتهر بمحاصيل الموالح على أطراف محافظة البحيرة.

النوبارية ضمن المحطات الرئيسية الآن لإنتاج الجزء الرئيسي لتصدير الموالح من البرتقال واليوسفي والليمون والجريب فروت، حيث تساهم محطة التعبئة والفرز بها في تداول الموالح بـ30 مليونا شهريا وتصدر وحدها لـ25 دولة حول العالم، هذا بجانب ما تنتجه محافظات أخرى تتميز بإنتاجها الوافر من الموالح مثل الإسماعيلية والشرقية والقليوبية.

تمر زراعة البرتقال والموالح بشكل عام بطفرة حقيقية خلال العامين الماضيين، إذ أصبحت مصر أكبر مصدر للبرتقال في العالم متفوقة لأول مرة على إسبانيا، المنافس المباشر لنا في السوق العالمي بإجمالي 1.3 مليون طن من البرتقال منذ مطلع العام الجاري.

صادرات البرتقال وحدها شكلت أكثر من نصف صادرات مصر الزراعية التي بلغت 2.2 مليون طن منذ بداية 2020، ما يعكس حجم الإنتاج الكبير لمزارع البرتقال في المحافظات المشار إليها.

الطفرة في الصادرات تمثل نجاحا بالطبع، لكن مصر مازالت تحتل المرتبة السادسة عالميا فى إنتاج الموالح بكميات بلغت 3.42 مليون طن فى موسم 2018- 2019. كما لا نغفل أن مصر استغلت إيقاف حركة الموانئ في معظم البلاد الأوروبية التي تفشى فيها فيروس كورونا، ومن ضمنها بالتأكيد إسبانيا، في تعزيز حركة صادراتها من المنتجات الزراعية لهذا العام.

حتى سنوات قريبة، لم يكن مزارعو البرتقال هم الأكثر حظا بين المحاصيل الزراعية، بل كان بعضهم يقلع أشجاره ويرفض جمع محصوله لقلة أرباحه مقارنة بما يصرف عليه بدءا من عملية التسميد إلى الحصاد، إذ كان لا يزيد سعر الطن الواحد عن 150 جنيها، يقتطع منهم 100 جنيه للعامل الذي يجمع المحصول، في ظل اعتماد قطاع كبير من المزارعين على الإنتاج المحلي فقط.

بحسب تقرير للهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات، سجلت صادرات الموالح خلال موسم 2014/2015 مليون و294 ألف طن، وارتفعت إلى مليون و490 ألف طن خلال موسم 2015/2016 ، ثم صعدت إلى مليون و553 ألف طن خلال موسم 2016/2017.

“أشجار البرتقال لم تدخل حيز الإنتاج الضخم المعروف به حاليا قبل سنوات، حيث كان بعض المزارعين يهجروا الشجر لقلة أرباحه حتى بدأت معدلات التصدير ترتفع مع زيادة جودة إنتاج الموالح في الصحراء” يقول نقيب الفلاحين حسين عبدالرحمن، في حديثه لـ”مصر 360″ عن التغير الذي طرأ على هذه الزراعة.

خطة النجاح

يعدد نقيب الفلاحين أسباب الطفرة في الآتي: جودة المحاصيل الزراعية في السنوات الأخيرة مما ساهم في زيادة الصادرات المصرية، فلا توجد دولة الآن تحظر استيراد المحاصيل المصرية، بجانب أن أسعار البرتقال المصري أقل سعرا مقارنة بالدولة المتنافسة في السوق الأوروبي، كما أن انخفاض قيمة العملة المصرية ساهم بشكل كبير في اتجاه الأسواق الأوروبية إلى مصر.

وتصدرت السعودية قائمة الدول الأكثر استيرادا للموالح من مصر بكميات وصلت إلى 300 ألف طن، وروسيا بنحو 298 ألف طن، والصين و217 ألف طن، وفقا لما أعلنته وزارة الزراعة.

وصول المحصول المصري إلى جودة عالية لم يكن وليد اللحظة، فكانت مهمة الحجز الزراعي الذي وضع معايير صارمة للحفاظ على سمعة المنتج المصري، وفقا لأحمد العطار رئيس الإدارة المركزية بالحجر الزراعي.

جودة البرتقال المصري تتمثل في تنوعه ما بين “أبو سرة والسكري والصيفي”، ويقيم المنتج بالمظهر الخارجي للثمرة من حيث اللون والحجم والشكل، ومستوى السكريات ونسبة حموضته.

يوضح العطار، في حديثه لـ”مصر 360″، أن مفتشي الحجر يتفقدون المزارع ومحطات التعبئة لضمان التزام المزارع بخروج المنتج المطابق للمعايير الدولية مما ساهم في فتح أسواق جديدة واكتساب المحصول المصري صفة الجودة العالمية.

العطار رفض الحديث عن أسباب انخفاض معدلات التصدير في أوقات سابقة، حيث تولى منصبه في 2017 ولا يعد مسؤولا عن سياسات سابقيه.

 

يلفت إلى أن الحجر الزراعي بدأ عام 2020 بدون أي حظر أو فحوصات إضافية على صادراتنا، بعد أن تعرضت صادراتنا الزراعية إلى الحظر في أكثر من 7 دول وفرض الاتحاد الأوروبي ودول أخرى فحوصات إضافية على منتجاتنا، حيث كانت الكويت آخر دولة ترفع الحظر والفحوصات الإضافية عن صادراتنا الزراعية.

“فوائد التربة الصحراوية”

ينصح العطار المزارعين بالخروج من الدلتا والاستصلاح في الصحراء، لزيادة مساحة الرقعة الزراعية من جانب، وخلو التربة الرملية من الأمراض النباتية التي تتسبب في إفساد المحاصيل من جانب آخر، حيث تزيد نسبة الإصابة في الطين عن الرمل.

وهنا يوضح نقيب الفلاحين أن خروج عدد كبير من الفلاحين من الدلتا لاستصلاح الأراضي الصحراوية أجبرهم على زراعة الموالح، لأنها تعتمد على معدلات مياه أقل وتتحمل الجو الحار، مما زاد من المساحات المخصصة للموالح وتضاعفت أشجارها المثمرة.

المساحات المنزرعة بالموالح ارتفعت بالفعل خلال السنوات العشر الأخيرة بنسبة 41، كما بلغت المساحة المثمرة لمحصول البرتقال 300 ألف فدان.

غير أن الفدان المستصلح في الصحراء ينتج ضعف ما ينتجه الفدان الطيني، فإذا كان معدل إنتاج الفدان في الدلتا من 8 إلى 10 طن يطرح الفدان الرملي من 20 إلى 25 طن. ولا ينكر أن الدلتا في البداية كانت ثمرتها أفضل ولا تقارن بأي تربة أخرى، لكن حاليا الأرض الصحراوية باتت مؤهلة لإنتاج ثمرة جيدة مطلوبة في التصدير بعد استحداث نظم جديدة في الري والتسميد، وفقا للعيسوي.

ختم الجودة الذي تحدث عنه العطار استغرق وقتا طويلا من المزارعين ما يفسر سبب تعثر إنتاج الموالح في فترة من الفترات، وهو ما يربطه العيسوي بالعشوائية التي تعامل بها البعض في الاعتماد علي مبيدات ضارة تؤذي ثمارهم.

العيسوي كان شاهدا على التحول الكبير في مزارع الموالح، حيث اعتمدت على مهندسين زراعيين أجانب أضافوا إليهم طرق جديدة في نظام الري والتسميد والتقليم والاطلاع على أنواع جديدة من المحاصيل التي يحتاجها السوق الأوروبي، بجانب اعتماد الحجر الراعي لنظام التكويد مما أعطى ميزة تنافسية لرغبة كل مزرعة في الحصول على كود التصدير بمحطات التعبئة.

“النوبارية عدوا العالمية”

بين  3.420 مليون طن أنتجتها مصر من البرتقال في 2019، أنتجت منطقة النوبارية لوحدها 639 ألف طن من مساحة مثمرة بلغت 59 ألفا و674 فدانا، بزيادة 200 ألف طن عن المنطقة التي تليها في الترتيب وهي محافظة الشرقية بـ440 ألف فدان.

في النوبارية، يبرز اسم رجل الأعمال شريف مغربي، الذي تلقبه الصحافة الأجنبية برجل البرتقال، حيث ما بين 60 ألف و85 ألف طن من الموالح سنويا، إلى سلاسل تجارية مختلفة في 57 دولة.

يفخر مغربي، الذي تمتد مزارعه على مساحة واسعة بمدينة النوبارية الجديدة، بما أنجزه على مدى 30 عاما في المجال الزراعي، حيث بدأ ثورته الزراعية بـ70 فدانا فقط إلى أن أصبح أكبر مصدري الفاكهة للولايات المتحدة الأمريكية، يقول: “أختار أنواع الزراعات كما أختار أسماء أبنائي، وأسير في حقلي كي أتذوق فاكهتي قبل زبوني”.

يتردد اسم شركة مغربي في الأوساط الزراعية كدليل نجاح في زراعة الحمضيات، وهو ما شجع مستثمرين صغار على اقتحام هذا المجال في العقد الأخير، لاستثمار السمعة الجيدة التي حققها البرتقال المصري في الأسواق العالمية.

أشرف العاصي، يمتلك مزرعة من 10 أفدنة بوادي البستان في محافظة البحيرة، أحد أولئك الطامحين بالاستفادة من السمعة الجيدة للبرتقال المصري.

العاصي يمتلك أرضا طينية في الفيوم يزرع بها الخضار، لكنه رأى مستقبلا أفضل لزراعة الموالح في صحراء البحيرة، خصوصا أنه يعتمد بشكل أساسي على التصدير وليس الإنتاج المحلي.

يقول العاصي الذي ورث الزراعة عن أجداده إن زيادة التصدير في السنوات الأخيرة وفتح أسواق جديدة أنعشت هذه الزراعة بعدم كان المزاعون يهملون أشجارهم بسبب ضعف المردود المادي، أما الآن يسعى الجميع إلى الحصول على كود التصدير للاستفادة من العروض الأوروبية.

مراعاة معايير الجودة جعلت المزارعين يهتمون بنظام الري والتسميد والقضاء على ذبابة الفاكهة أولا بأول، وهو ما يلجأ إليه العاصي في نظام اعتاده المزارع الستيني للحفاظ على سمعة مزرعته.

“ثقافة المزارعين تغيرت عن الأول، الآن الكل يسعى للمكسب معتمدا على النظم الحديثة وأصحاب الخبرات كل حسب مجاله” يقول العيسوي.