تواجه إثيوبيا حاليا منعطفا خطيرا ومؤثرا على استقرارها السياسي وقدرتها على استمرار الصيغة الفيدرالية الحاكمة للعلاقات بين القوميات الإثيوبية المختلفة،حيث تزايدت الاضطربات الإثيوبية بين القوميات، ربما إلي حد غير مسبوق فقد شهدت الصيغة الفيرالية للدولة تحديات أساسية اعتبارا من عام ٢٠١٤ ،وذلك لأسباب متباينة منها مايرتبط بمشكلات الحدود بين الأقاليم ومنها مايرتبط بالأداء السياسي لرئيس الوزراء ومنها مايرتبط ثالثا بالصراعات علي مكامن السلطة والنفوذ .
في هذه البيئة المتشابكة والمركبة سياسيا وعرقيا تكون خيارات آبي أحمد رئيس الوزراء معقدة، وتواجه تحديات أساسية ، كما تثير العديد من الأسئلة بشأن مدى قدرة إثيوبيا كدولة علي إدارة هذا التركيبة الصعبة، وطبيعة الدور الغربي في إنجاح استمرارها.
في هذا السياق ربما يكون من المهم الإشارة أن تصاعد التوتر في إثيوبيا في أحدث دوراته هي الاضرابات والتي أوقعت ٢٧ قتيلا هي بين منطقتي قومية العفر والقومية الصومالية، وذلك بسب نزاع حدودي بين الإقليمين تسبب فيه قرار من الحكومة الفيرالية بتعديل الخذ الحدودي بينها وضم ثلاث قري إلى المنطقة الصومالية، وهو ما أنتج مقاومة مسلحة للقرار الحكومي من العفر.
مقاومة قرارات الحكومة الفيرالية ليس هو الأول من نوعه ذلك أن مقاومة إقليم أروميا لقرار الحكومة الفيدرالية لتوسيع العاصمة أديس أبابا علي حساب أراضي الأقليم كان قد فجر اضطرابات اعتبارا من عام ٢٠١٥، وهي الاضضرابات التي أسقطت رئيس الوزراء السابق ديسالين، وأتت بآبي أحمد كرئيس للوزراء من إقليم أروميا المتمرد.
وإذا كانت القرارات التنموية سببا من أسباب تمرد الأقاليم علي المركز في إثيوبيا، فإن القرارات السياسية أيضا تلعب دورا في إعلان تمرد ومقاومة للحكومة الفيدرالية أيضا، حيث اتجهت قومية تيجراي، ذات النفوذ السياسي والاقتصادي لعقود في إثيوبيا إلى سحب وزرائها من الحكومة الفيدرالية القومية، وذلك في أعقاب إجراء إنتخابات برلمانية منفردة في الإقليم وذلك بالمخالفة لتوجهات الحكومة الفيدرالية التي يقودها آبي أحمد والتي أجلت إجراء هذه الإنتخابات المقررة في أغسطس ٢٠٢٠ لأجل غير بسبب فيروس كورونا طبقا لما أعلنته أديس أبابا وذلك في وقت أقدم فيه المجلس الدستوري الإثيوبي علي اعتبار انتخابات التيجراي غير دستورية، ولايعتد بها.
وعلي الرغم أنه من الشائع في معظم التحليلات أن الأزمة بسبب تأجيل الاتخابات العامة إلا أن تقديرنا يذهب أن التفاعلات الأساسية المسببة للأزمة الراهنة هي نتيجة طبيعية لعمليات الإزاحة المنتظمة التي قام بها آبي أحمد لعناصر من قومية التيجيراي في مفاصل الدولة، على فترات متباعدة نسبيا خلال العاميين الماضيين ،خصوصا أن قومية التيجراي قد ظلت مسيطرة على الحكم في إثيوبيا لما يزيد عن ٢٠ عاما، وذلك رغم ضعف تمثيلها السكاني في مجمل عدد السكان ،وهي التي لاتتجاوز ال٦٪.
ولعل أهم مظاهر التوتر بين آبي أحمد والتيجراي قبل إعلان الأول عن تأجيل الانتخابات هي محاولة اغتيال رئيس الوزراء الإثيوبي في يونيو عام ٢٠١٨ ، وهي المحاولة التي تورط فيها قادة رفيعي المستوي في جهاز المخابرات الإثيوبي طبقا لما كشفه النائب العام الإثيوبي، بيرهانو تسيجاي، وذلك في نوفمبر من نفس العام، كما قام آبي أحمد تحت مظلة مكافحة الفساد في التوريدات الخاصة بسد النهضة، بإزاحة الكثير من جنرالات الجيش الذين ينتمون إلي قومية التيجراي.
ولعل السبب الثاني في بلورة الأزمة بين التيجراي والسلطة الفيدرالية، هي المخاوف المترتبة علي مشروع آبي أحمد السياسي والذي أعلنه في نوفمبر ٢٠١٩ بتكوين حزب جديد اسمه حزب الازدهار لايقوم علي المحاصصة العرقية التي تم إقرارها في المادة ٣٩ من الدستور الإثيوبي، وقد تجاوزت هذه المخاوف قومية التيجراي إلي قومية الأورومو التي ينتمي إليها رئيس الوزراء الإثيوبي أيضا، ولكن يبدو أن إقدام التيجراي على خطوة تنفيذ الانتخابات يعود إلي وحدتهم في هذا الموقف حيث سجلت نسبة الحضور الانتخابي في الإقليم نسبة ٩٨٪ من بين ٢.٧ ناخبا، وذلك مقارنة بانقسام قومية الأرومو بين فريقين أحدهما تابع لرئيس الوزراء.
كما يتميز التيجراي أيضا بامتلاك نخبهم خبرات متراكمة في ممارسة السياسية عبر آلياتها المتعددة.
في هذا السياق لاتبدو هناك آية مؤشرات لتراجع مستويات التوتر في الأفق بين الطرفين، ذلك أن زعيم إقليم تيجراي ديبريتسيون جيبريمايكل، قد صرح أنه لا إمكانية لتراجع الإقليم عن مأسماه الحق ”في تقرير المصير والحكم الذاتي”. وذلك بعد استعراض للقوة المسلحة قامت قوات الأمن الإقليمية التابعة للتيجراي وذلك بمسيرة عسكرية في ميكلي عاصمة الإقليم وغيرها من المدن الرئيسية الأمر الذى زاد من المخاوف بشأن المواجهة المسلحة بين التيجراي والجيش الإثيوبي الفيدرالي .
ويمكن القول إن تصاعد التوتر بين التيجراي ورئيس الوزراء يطرح الأسئلة بشأن طبيعة خيارات رئيس الوزارء للتعامل حالة إقليم تيجراي، وماهي تداعيات هذه الحالة علي مستقبل إثيوبيا من جهة وحالة الاستقرار الإقليمي في القرن الإفريقي من جهة أخري ؟.
أول الخيارات التي نفذها بالفعل آبي أحمد هي الإجراءات القمعية المعتادة في محاولة لتطويق تفاقم الأزمة وتصاعد قدرات التيجراي في المواجهة، ولكنه لم ولن يجرؤ علي استعمال الآلة العسكرية فيما يعتبره تمردا رغم استعراض القوة التي قام به التيجراي، ذلك أن مثل هذا الخيار يعرض إثيوبيا إلى حرب أهلية واسعة النطاق لها امتدادات إقليمية علي اعتبار أن قومية التيجراي التي تقع في شمال إثيوبيا لها امتدادت كبيرة ومؤثرة في إرتيريا، وعلي الأرجح لن يكون مسموحا لآبي أحمد مجرد اختبار هذا الاختيار من العواصم الإقليمية والعالمية المتحالفة مع إثيوبيا.
كما أن الجيش الإثيوبي ليس في أفضل حالاته علي المستوي الداخلي بعد عمليات الإقصاء التي تمت داخله علي أساس عرقي أو بسبب المواجهات الداخلية التي خاضها إعتبارا من عام ٢٠١٥ ، وهي المواجهات التي كانت مؤثرة علي معادلاته الداخلية.
أما ثاني الخيارات التي أقدم عليها رئيس الوزراء الإثيوبي فعليا هي حجب مساهمة المستوي القومي في ميزانية إقليم التيجراي وهي المساهمة التي تصل إلي نصف الموازنة العامة لإقليم تيجراي، وبطبيعة الحال قد تكون مؤثرة إلا إذا كانت هذه الأزمة بوابة لبعض الأطراف الإقليمية للتدخل ضد الحكومة الفيدرالية والتي تتمتع فيها كل من السعودية والإمارات بنفوذ كبير ، فمن غير المستبعد أن تتجه قطر لتمويل الإقليم في محاولة لدعم نفوذها تحت مظلة الإنقسام الخليجي الراهن
أما الخيار الثالث فهو إجراء الانتخابات، خصوصا وأن وباء كورونا لم يسفر عن أعداد كبيرة من الوفيات في إثيوبيا كما الحال في كل إفريقيا، ووضح أن تأجيل الانتخابات العامة هو بسبب ضعف الوزن الانتخابي لآبي أحمد نفسه لكن هذا الخيار يبدو بمثابة الانتحار السياسي للرجل، ذلك أن الإجراءات القمعية التي قامت بها حكومته خلال العام الماضي ضد معظم القوميات أسفرت عن تفاقم الأوضاع السياسية، وزيادة حجم الرفض له خصوصا وأنه لم يستجب لمحاولات رأب الصدع التي قامت بها قطاعات من نخب التيجراي ، لتطويق الأزمة.
وفي سياق مواز تصاعدت أزمة آبي أحمد مع إقليم أوروميا حيث رفضت قوي المعارضة فيه بزعامة منافسه الانتخابي جوهر محمد مبدأ تأجيل الانتخابات، وقتل مطرب مشهور هو هاتشالوا هوندسيا انحاز إلى هذا الموقف السياسي، وهو ما أسفر عن مواجهات بين القوات المسلحة لمقاتلى جبهة تحرير أورومو والقوات الحكومية. حيث اجتاحت الاحتجاجات معظم منطقة أوروميا وتم إحراق العديد من الشركات والمتاجر أو نهبها ووقع 178 شخصًا كضحايا لهذه الأحداث،كما احتجز 9000 آخرين دون اتباع الإجراءات القانونية اللازمة. وفُرض حظر تجول وإغلاق كامل للإنترنت. كما قام بفصل أكثر من 1700 مسئول محلى وموظف حكومى.
وكان من بينهم ليما ميجرسا، وزير الدفاع، الذى لعب دورًا محوريًا فى صعود رئيس الوزراء آبى أحمد إلى السلطة. وتحت مظلة هذه الأحداث تثار شكوك حول مسئولية الحكومة في حادث اغتيال المطرب. من هنا يبدو أن حجم الرفض لآبي أحمد قد اتسع ليشمل أجزاء واسعة من إثيوبيا خصوصا أن أوروميا هي الوزن السكاني الأكبر بين القوميات الإثيوبية.
في هذا السياق يبدو أن آبي أحمد لايجد سندا دوليا مناسبا له في هذه الأزمة المستحكمة علي الرغم من الحماس الغربي له في بدايه توليه الحكم قبل عامين تقريبا إلي درجة حصوله علي جائزة نوبل للسلام ويرجع عدم الإسناد الغربي لرئيس الوزراء الإثيوبي حاليا في تقديرنا لسببن الأول أن واشنطن قد مارست سياسيات عقابية ضد أديس أبابا، بتجميد مساعدات إقتصادية لإثيوبيا كانت مقررة بسبب موقفها المتعنت في مباحثات سد النهضة، ورغم أن القيمة الفعلية لهذه المساعدات علي المستوي الإقتصادي تبدو هزيلة ، ولكنها تحمل قيمة رمزية كبيرة.
أما السبب الثاني هو عمق الشرخ السياسي الذي سببته أزمة تأجيل الإنتحابات بين القوميات الإثيوبية، وهي التي لم تحظ مطلقا بتطورات مماثلة لبعضها البعض علي المستوي التاريخي،كما لاتمارس إبدا أفعال الإندماج الوطني في المناطق البعيدة عن العاصمة حتي علي المستوي الإجتماعي ،،ولعل هذه الحالة هي التي جعلت إمكانية إنفصال أي إقليم عن الدولة محميا دستوريا.وعلي ذلك فإن الإهتمام الدولي بالمجريات الإثيوبية ينحصر حتي الآن في الكونجرس الأمريكي الذي يدعو بعض أعضاءه لبلورة مبادرات لتهدئة الأوضاع في إثيوبيا.
إجمالا يبدو الهيكل الفيدرالي الإثيوبي محل نزاع بين أطرافه ولاصيغ مطروحة لإستقراره حتي اللحظة الراهنة وهو مايفتح الباب لسيناريوهين يبدو الأول مرجحا وهو تدخل إفريقي مدعوم دوليا خصوصا من واشنطن ولكن بعد الإنتخابات الأمريكية لإنقاذ الموقف وإيجاد تفاهمات سياسية بين أطراف الهيكل الفيدرالي،لإستمراره علي أسس جديدة وهي الترتيبات التي لابد وأن تفضي إالي إجراء الإنتخابات ، ولكن هذا السيناريو سوف يكون أول ضحاياه آبي أحمد نفسه نظرا لممارسته القمعية ومحاولته تجاوز نظام الفيدرالية العرقية نحو محاولة بلورة إندماج وطني وهو خيار لاتبدو إثيوبيا مؤهلة له حتي اللحظة الراهنة.
أما السيناريو الثاني فهو سيناريو المواجهات المسلحة بين القوميات المؤدي إالي تفكك إثيوبيا ، وهو سيناريو يبدو لنا أنه غير مسموح به دوليا لكون إثيوبيا نقطة إرتكاز للمصالح الغربية في القرن الإفريقي.