بترقب مشوب بالقلق، ينظر أهالي قرية برما بمحافظة الغربية إلى القرارات الحكومية المتعلقة بالدواجن، التي يتقنون تربيتها منذ قرابة القرنين. تسيطر عليهم ذكريات قديمة لقرارات عصفت بإنتاجهم حين ماضطروا قبل سنوات لقتل أسرابهم من الطيور بأيديهم، بعدما أصبحت عالة عليهم، وليس كما اعتادوا مصدر إنفاق لهم.

لا حديث للمنتجين حاليًا، إلا عن قانون منع تداول الدواجن الحية رقم 70 لسنة 2009 الذي تدرس الحكومة تفعيله قريبًا، ويعتبرونه مصدر تهديد لأرزاقهم في ظل عدم امتلاكهم مجازر، أو مبردات ضخمة لتجميد إنتاجهم، واعتمادهم على شبكة محال للبيع المباشر في الأسواق الشعبية التقليدية.

يعيش أهالي القرية، معضلة إنتاجية أعقد بكثير من حادثة “البيض” التي أدخلتهم التراث الشعبي، حينما تباروا في إحصاء مكونات سلة بيض وقعت من سيدة لا تعرف حصره إلا بتقسيمه لمجموعات عددية من (واحد إلى ستة)، وفي كل مرة تتبقى بيضة واحدة، إلا حال توزيعه كسباعيات لا يتبقى منه واحدة ليصلوا إلى الرقم ٣٠١ في النهاية.

تتضمن الحسبة حاليًا معضلات أعمق ترتبط بأسعار الأعلاف، وفعالية الأدوية البيطرية، وارتفاع تكلفة الطاقة، وأجرة العمالة، ونسبة النفوق من العدد الكلي للإنتاج، وخيارات البيع في السوق والعائد، وفوق كل ذلك القرارات الحكومية التي تفاقم عليهم أزمات الشتاء المعتادة.

تدفع الغرف التجارية، الممثلة للتجار، بقوة نحو تطبيق قانون حظر تداول الدواجن الحية، بعد إعلان مصر خالية من أنفلونزا الطيور التي توطنت بمصر من 2006 وحتى 2019، وتتوافق رؤيتها مع وزارة الزراعة التي تري أن مصر من الدول القليلة، التي يتم فيها تداول الطيور حية، وتغيير الأمر يمنع انتشار الأمراض ويوفر المنتج في صورة آمنة وصحية مع إمكانية إخضاعه لرقابة الأجهزة الصحية، ويساعد في تخفيض أسعار الدواجن للمستهلكين، وينهي “عشوائية الإنتاج”.

اقتصاد برما

يقول محمد مصطفى، تاجر دواجن بالغربية، إن برما تضم مئات المزارع الأخرى متوسط إنتاج الواحدة منها 4 آلاف دجاجة في الدورة الواحدة التي تستغرق 33 يومًا، لكنها لا يوجد فيها مجزر أو وحدات تبريد ضخمة، رغم تطبيقها جميعًا معايير الأمن الحيوي، وفي مقدمتها منع خروج العامل مع بدء دورة الإنتاج، حتى لا ينقل الأمراض الفيروسية المشتركة.

تستحوذ محال البيع المباشر على ٨٥% من الإنتاج المصري للطيور، وتتعامل معه بالذبح والبيع للجمهور، بينما لا يصل للمجازر التي تطبق الاشتراطات الصحية الكاملة سوى ١٥% فقط من إجمالي الإنتاج.

يخشى المربون أيضًا من فتح باب تصدير الدواجن للخارج، عقب توقف استمر لمدة 14 عاما، منذ تفشي مرض أنفلونزا الطيور، بعدما قفز سعر الكتكوت “عمر يوم واحد”، الذي يمثل قرابة 12.5% من إجمالي سعر بيع الدجاجة بعد تثمينها، الي ١٠ جنيهات مقابل جنيه واحد قبل ثمانية شهور، مسجلا أعلى مستوى سعري في تاريخه.

يدافع عبد العزيز السيد، رئيس شعبة الثروة الداجنة في غرفة القاهرة التجارية، عن التصدير بشدة، ويقول إنه يعمل على ضبط الأسعار محليًا بقصره على الشركات الكبرى الـ 14، ما يفتح الباب على مصرعيه أمام الشركات الصغيرة لزيادة إنتاجها وضخ استثمارات جديدة، وتعويض الكميات التي يتم تصديرها.

وفقا للشعبة، فإن عدد إنتاج الطيور يناهز 2.2 مليار طائر بعد توافر 15 مليون “دجاجة أمهات” (دجاجة كبيرة لإنتاج بيض التفريخ) مما يوفر فرصة للتصدير، سواء للأصناف المجمدة كاملة أو مجزئة لجميع أنواع الطيور الداجنة.

ويقول السيد إن السوق المصرية لديها فائض من الدواجن يناهز 800 مليوندجاجة يمكن تصديرها للخارج، وفتح الفرصة لصغار المنتجين لزيادة إنتاجهم، لكن تلك التصريحات تتنافي مع تقارير وزارة الزراعة التي تؤكد أن مصر على أعتاب الاكتفاء الذاتي لكنها لم تحققه، فإنتاجها لا يزال عند 90% من الاستهلاك.

تسويق الإنتاج

تدرس وزارة الزراعة حاليًا إنشاء شركة متخصصة في تسويق الإنتاج الداجني باستثمارات 300 مليون جنيه، وتبسيط إجراءات الحصول على القروض فائدة 5% والتوسع في التراخيص التي ارتفعت من 1500 إلى 56 ألفًا خلال 3 سنوات، لكن بعض القرى المنتجة مثل “برما” تشكو من عدم توفيق أوضاعها حتى الآن، فعدد المرخص بها لا يزيد عن خمسة من بين مئات المزارع.

لكن محمد عصام، صاحب مزرعة، يقول إن المشكلة ليست في التسويق ولكن في عشوائية الصناعة، فالأدوية البيطرية تأتي إليهم أحيانا منخفضة الكفاءة بسبب سوء حفظها، ما يرفع نسبة النفوق إلى 60% في بعض الدورات الإنتاجية، علاوة وجود أعلاف رديئة غير مكتملة العناصر الغذائية اللازمة للنمو، ونقص السلالات الجديدة أيضًا.

ويبلغ سعر طن الأعلاف المستوردة حاليًا نحو 7400 جنيه ليمثل مع الأدوية البيطرية قرابة 70 من مستلزمات الإنتاج الداجني، وتتزايد الأعباء في الشتاء مع حاجة العنبر الواحد بالمزرعة لأنبوبة بوتاجاز يوميًا سعر الواحدة منها ٧٥ جنيهًا لأغراض التدفئة.

وتؤكد دراسة بعنوان “اقتصاديات صناعة الدواجن بمصر”، للدكتور أيمن زيدان الباحث بكلية الاقتصاد الزراعي بعين شمس، أن صناعة الدواجن تواجه مشكلات مؤسسية وتسويقية وإنتاجية، موضحة أن أزمة إنفلونزا الطيور كشفت مدى ضعف هيكل صناعة فالخسائر التي أصابت القطاع بلغت 12 مليون جنيه يوميًا، بإجمالي 2 مليار جنيه خلال ستة أشهر، فضلاً عن توقف نحو مليون عامل بالمزارع حينها.

مأساة لا تنسي

قبل ١٤ عاما، فرضت الحكومة حجرا على “برما”، ومنع دخول أو خروج السيارات منها، فاضطر المربون حينها إلى قتل قطعانهم من الدواجن والبط أو إطلاقها في الخلاء لتقليل تكلفة إطعامها دون القدرة علي بيعها، وتكدست المصارف وقنوات الري حينها بكميات قياسية من الطيور النافقة التي لم يكن أي منها مصابا بحسب المربين.

تقدر الإحصائيات الرسمية عدد الطيور المعدومة على مستوى الجمهورية عام 2006/2007 بنحو 28.9 مليون طائر تعادل أكثر من 15% من جملة عدد الطيور بالدولة حينها، لكنها لا تحسب سوى الأرقام التي أبادتها وزارة الزراعة في البؤر المصابة وما حولها، ولا تتضمن ما قتله المربين بأيديهم.

تعتبر الدواجن أرخص مصادر البروتين الحيواني في مصر، فإنتاج كيلو جرام من لحمها يحتاج 1.6 كجم في المتوسط من العلف مقابل 7 كيلوجرامات للجاموس والأبقار، كما لا تتطلب مساحات من الأراضي المزروعة عكس مزارع الأخيرة.

تستورد مصر جدود الدواجن منذ عام 1985 بإجمالي 340 ألف “جدة” (أنواع منتجة لدواجن الأمهات سواء التسمين أو البيض) سنويًا تنتج 12 مليون “أم تسمين” والأخيرة تنتج في المتوسط من 12 إلى 14 مليارا “بدارى تسمين”، وكل جدة مستوردة يبلغ سعرها نحو 45 دولارًا، وتنتج في حياتها ما يقرب من4 آلاف كتكوت تسمين يُربى محليًا.

وطالبت دراسة لاتحاد منتجي الدواجن تم إعدادها مطلع العام الماضي، حصل”360″ على نسخة منها، بأن يواكب نمو الطيور مع عدد السكان، فالعشر سنوات المقبلة تتطلب إضافة 170 ألفًا من “جدود التسمين” ورفع الطاقة السنوية من أمهات التسمين بمقدار 6 ملايين “أم”، ورفع الطاقة الإنتاجية السنوية بما قدره 600 مليون طائر، بجانب 25 مجزر بطاقة 2.4 مليون طائر سنويًا لاستيعاب الزيادة السكانية، فأقل استهلاك للفرد من لحوم الدواجن بمصر يبلغ حوالي 12 كجم سنويًا.

يصطدم الإنتاج بمشكلة أخرى تتعلق بتكنولوجيا الإنتاج في المزارع الصغيرة، فكثير من المربين في القليوبية والغربية يعتمدون على التلقيح الصناعي بتكنولوجيا بدائية بتهجين أنواع من المسكوفي والبكيني (سلالتين من البط)، بدون إشراف بيطري لإنتاج وسلالات هجينة تسمي “بغال” شبيه بالأنواع الفرنسية كـ”المولر”، الذي يتسم بضخامة الحجم وثقل الوزن.

يضيف جمال عبدالهادي، صاحب مزرعة بط صغيرة، إن اللجوء للتلقيح الصناعي يمثل محاولة لتحسين جودة الإنتاج فالأصناف البلدية تتسم يصغر الحجم والوزن، والكتاكيت التي يتم استيرادها من فرنسا “مخنثة” لا تتكاثر حينما تصل لمرحلة البلوغ، ويقتصر الأمر على تربيتها من أجل التسمين فقط، دون القدرة علي الاستفادة منها في استحداث سلالات جديدة.

لا شك أن عمليات التهجين المستمرة والعشوائية جعلت بعض السلالات المصرية البلدية كـ “الشرشير” تتناقص باستمرار حتى أوشكت على الاختفاء من السوق، مما دفع أصحاب المزارع للمطالبة بحفظها في بنوك الجينات، خوفًا من اندثارها تمامًا خاصة أن لديها القدرة على تحمل الأمراض والحرارة.

يتكرر الأمر ذاته مع صناعة الدواجن البيضاء فقرابة 85% منها سواء المنتجة للبيض أو الخاصة بالتسمين مهجنة عالميا ولا تمتلك مصر أصولها الوراثية، بينما ضاعت السلالات المحلية مثل”الفيومى، والدندراوى، والسيناوى”، المعروفة بمقاومتها الشديدة للأمراض وانخفاض تكلفة إنتاجها لصالح البيضاء المستوردة التي تتسم بوزن أكبر لكن بمعدلات إنفاق أكبر.

يرتبط ظاهرة اختفاء الأصناف المحلية من الدواجن بسياسات وزارة الزراعة في الفترة من عام 1984 وحتى 1994، بتخفيض محطات الدواجن كمحطة الدقي واستغلال أراضيها المميزة في الإسكندرية والقاهرة وبيعها كمبانٍ للقطاع الخاص، مع تخفيض محطات بحوث الحيوان بعدما نجحت من تأسيسها في الخمسينيات ونجحت خلالها في استنباط نحو 10 سلالات جديدة تمتاز بوزن أكبر، أشهرها: “الجميزي، والبندري، والمطروحي، والبهيجي، والدقي”.

بورصة الدواجن

يطالب عبدالهادي بضرورة إحياء بورصة الدواجن في بنها بالقليوبية، للحفاظ على حقوق المستهلك والمنتج معًا والذي تحصل عليه الحلقات الوسيطة، فالبورصة رغم وجودها كمبنى لكنها غير مفعلة على أرض الواقع، بجانب تأسيس موقع إلكتروني لها يتواكب مع العصر.

ووعد عبدالحميد الهجان، محافظ القليوبية، قبل تسعة أشهر بتفعيل بورصة الدواجن ببنها التي تنظيمها رسميًا عام 2002 بعد 40 عامًا من ممارسة العمل بها كسوق عشوائية، ويفترض أن تحدد السوق سعر تداول ملزم لسعر الكيلو، ويلتزم به جميع التجار والمستهلكين مع مراعاة الاختلافات المتعلقة بجودة المنتج، وآليات العرض والطلب والمضاربات بين التجار لكنها غير مفعلة.

تؤكد الجولات بالأسواق أن الدواجن هي بروتين جميع الطبقات الاقتصادية والاجتماعية، فهياكلها وأرجلها مصدر غذاء الغلابة، وقطعها المسماة بألقاب أجنبية ترضي طموح الأغنياء، ومحال بيعها تفتح باب الرزق للملايين، الذين تتعلق مصادر دخولهم بنزع الريش عن أجنجتها الضعيفة.