ماذا تفعل عندما تمنحك السينما الأمل وتجعله يتسلل بداخلك ليذكرك بمعنى حقيقي لوجودك ونظرة أخرى للحياة؟!
منذ نهاية مهرجان برلين السينمائي الدولي، في فبراير الماضي، لم أستطع الذهاب إلى مهرجانات كنت أحرص على حضورها لأنهل مما يبدعه سينمائيو العالم، بسبب مخاوف انتشار جائحة كورونا، كمهرجانات “فينيسيا” ، و”مالمو” و”كان” الذى بدوره أجل إقامته للعام القادم، فيما اكتفى بعمل دورة مصغرة لمسابقة الأفلام القصيرة والتي فاز بسعفتها الذهبية الفيلم المصري “ستاشر” للمخرج سامح علاء في مفاجأة كبرى للسينما المصرية.
شهور طويلة اكتسى فيها حزنا بتأجيل وإلغاء العديد من التظاهرات السينما، وعندما أعلن مهرجان الجونة السينمائي عن إقامة دورته الجديدة، وسط إجراءات احترازية، فرحت كثيرا، فأخيرا سوف أذهب إلى مهرجان وأشاهد أفلاما والتقى صناعها ونجومها، ستناقش فى تلك الأعمال فور عرضها وتلك لحظة جميلة أخرى تحرك مشاعر وأفكار، فمشاهدة الأفلام بمثابة حياة بالنسبة لى توقف نبضها منذ الربيع الماضي.
فساتين الجونة.. أزمة إعلام أم أزمة فنانين؟
دورة هذا العام تضمنت برمجة مميزة من الأعمال العالمية والعربية التي رصدت “كيف أصبح يفكر العالم سينمائيا في ظل واقع استثنائي”. وكانت الأفلام نافذة كبرى للنقاد وعشاق الفن السابع الذين ملأهم الشغف بمشاهدة إبداعات متنوعة، وليس إطلالات النجمات على السجادة الحمراء، وتلك محطة مهمة، فما حمله المهرجان لم يكن يصل بالصورة الصحيحة لمتابعيه عبر وسائل الإعلام وشاشات القنوات ومواقع التواصل الاجتماعي، والتي اكتفت بتصدير صورة تحمل منافسة من نوع آخر، بعيدة عن السينما، وهى استعراض النجمات يوميا على السجادة الحمراء بمجموعة من الفساتين المبهرة والمثيرة.
نعم يحدث ذلك كجزء من التغطية في كل مهرجانات العالم، ولكن دون تجاهل باقي فعاليات المهرجان، لذا الإعلام المصري فى حاجة إلى مراجعة، وعلى أصحاب القنوات ومقدمي البرامج أن يكونوا أمناء في إدراك قيمة متابعة أقسام المهرجان السينمائي بنقل محتوى الأفلام وحكايتها وتنوعها وكيف تفاعل الجمهور والنقاد معها وبث شهادات صناعها، وحلقات نقاشية جادة بمشاركة فنانين حصلوا على جوائز عالمية ممن تواجدوا، وعدم التركيز بشكل كبير على الفساتين والأزياء فقط كما كان يفعل مقدمو البرامج في الماضي بحرصهم على نقل يوميات المهرجان وعشقنا السينما من خلالهم وتلك هي الرسالة الحقيقية.
200 متر
الواقع أن دورة المهرجان هذا العام كانت صعبة خاصة في ظل أزمة فيروس كورونا، لكننا استمتعنا بأفلام تطرقت لقضايا سياسية واجتماعية، جاء معظمها ساحر وقوى المفردات الفنية وخاصة التي فازت بجوائز المهرجانات العالمية الكبرى وبالتحديد التي تضمنتها مسابقة الأفلام الروائية الطويلة ومنها الفيلم الفلسطيني “200 متر ” للمخرج الشاب أمين نايفة، والذى لعب بطولته على سليمان ولنا رزيق وتناول عبر سيناريو محكم وبسلاسة قضية معقدة، فنحن أمام قصة عائلة فلسطينية فرقها جدار الفصل العنصري الإسرائيلي حيث صار الأب مصطفى يسكن في الجانب الفلسطيني، والأم والأبناء في الجانب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة حيث تحول عنصرية الاحتلال دون لم شمل هذه العائلة.
في أحد الأيام يدخل أحد الأبناء المستشفى وهو لا يبعد سوى 200 مترًا عن والده. يحاول الأب الوصول إليه لكنه يحتاج للسفر في رحلة تمتد لمئتي كيلو متر.
قيمة الفيلم تكمن في واقعيته والأداء المبهر لبطله على سليمان الذى أصر على الذهاب لأسرته والوقوف بجانب ابنه رغم منعه من عبور الحاجز والوصول الى الطرف الآخر من الجدار، وكانت انفعالاته مؤثرة للغاية، كما أن مخرجه يبشر بميلاد مخرج كبير بأول تجاربه في الافلام الطويلة، وقد اعتمد في الفيلم على قصص حقيقية لأسر فلسطينية تعانى من وجود الجدار والواقع أن حالة الارتباك التي أصابت المشاهد هي انعكاس لما يعيشه الفلسطينيون كل يوم ولا يمكن تجاوزه، وهذه هي رسالة الفيلم حيث نقل معاناة الأسر بكل ما تشهده من تقلبات.
“الاسترالي”.. نافذة أحمد مالك إلى العالمية
الفيلم الآخر هو الاسترالى “حارس الذهب” أو The Furnace. للمخرج رودريك ماكاى، والذى يضع الممثل الشاب أحمد مالك فى منطقة جديدة بالتأكيد ستفتح له فرص أخرى وآفاق أبعد في تجارب سينمائية عالمية، وهو مؤهل لذلك إذا ما تمسك بالحلم والاجتهاد بجانب موهبته واستيعابه المنظومة مبكرا.
الفيلم الذى عرضه مهرجان الجونة السينمائي في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، ومن قبل نافس في مسابقة آفاق بمهرجان فينيسيا الأخير، يحمل طابعا سينمائيا مميزا وخاصة في عنصر التمثيل الذى كان مالك أحد أركانه، حيث لفت الانظار بأداء راسخ ومثير للإعجاب لشخصية صعبة وتلقائية وحساسة في مشاعرها ونظرتها للعالم المحيط بها، التي تكشف عن مدى صدقها وبراءتها من مشهد لآخر بحسب وتيرة وايقاع سرد الأحداث التي تنوعت بين البطئ والسرعة، حيث جسد مالك شخصية “حنيف الحزر الشريف” بأسلوب جمع بين الشك والخوف، نتج عنه صراع داخلي مستمر معه من البداية وحتى النهاية، وخاصة فى المشاهد التي جمعت بينه وشخصية مال الغجري الذى رافقه الرحلة وجسده الاسترالي ديفيد وينهام الفيلم الطموح والمتنوع عرقيا.
الفيلم تمحورت أحداثه حول حمى التهافت على الذهب التي أصابت أستراليا في تسعينيات القرن التاسع عشر، لتنسج حكاية يبحث فيها البطل عن هويته عبر عقبات الطمع والجشع الذي تملك منه ومن الآخرين وذلك من خلال حنيف “مالك” سائق الجمل الأفغاني ولص الذهب الذى يعيش مغامرة بأحد المناطق النائية بصحراء أستراليا ضمن مجموعة السائقين الذين جلبهم البريطانيون من أفغانستان والهند وبلاد فارس لينقلوا البضائع عبر الصحراء القاسي، وكان غالبيتهم من المسلمين والسيخ والهندوس، وطور هؤلاء علاقاتهم الوثيقة مع السكان الأصليين.
إلى أين تذهبين يا عايدة
جولتي تضمنت الفيلم البوسنى “إلى أين تذهبين يا عايدة ” الفائز بالنجمة الذهبية والذي يعيد مهمة السينما فى بناء ذاكرتنا لفهم جديد للتاريخ ويلملم أفكارك المتناثرة بل ويكشف ضعف الأمم المتحدة قدمت المخرجة ياسمبلا زابانيتش فى فيلمها المرهف بقسوته.
ويستند إلى قصة حقيقية الجانب الإنساني واللاإنسانى من الإبادة الجماعية البوسنية في منتصف التسعينيات، وبالتحديد فى يوليو 1995. و لم يخل من اللحظات المؤثرة والوحشية على حد سواء خاصة فى تلك المشاهد المتعلقة بقصة القتل الجماعي والعدالة المفقودة لضحاياها، في حضور صورة شديدة الواقعية وأداء قوى للغاية.
الرؤية الأكثر تأثيرا في الفيلم هو أن الجميع بما فيهم الضحايا ومن يرعاهم من قوات الأمم المتحدة يقفون متفرجين أمام مشهد الإبادة ومعاناة بطلتنا التي تواجه الموقف وحدها بالرغم من تفاقم الوضع والأزمة الإنسانية التي علت وتيرتها عالميا. بطلة قصتنا هي عايدة “ياسنا ديوريسيتش” معلمة سابقة تعمل مترجمة لدى الأمم المتحدة تعمل كل ما بوسعها لإنقاذ وحماية أسرتها المكونة من زوج وابنين، والتي كانت جزءًا من الآلاف الذين نزحوا بسبب الحرب يبحثون عن مأوى في معسكر الامم المتحدة بعد أن احتل الجيش الصربي بلدتها الصغيرة سربينيتشا و سيطر عليها، وكم كانت تجري ذهابًا وإيابًا لتترجم ما يحدث من تعليمات ومستجدات وهى تواجه بيروقراطية محبطة ومعركة خاسرة ضد القوات الصربية التي تغزو بلدها.
نحن أمام قصة شعب، والعديد من الشعوب أجبرت على تحمل ثقل الحرب الملعونة على أكتافها وأجبرت بكل الطرق على كره بعضها البعض على الرغم من ماضي الحياة المشتركة الفيلم اتهام قوي للأمم المتحدة نفسها ففي منتصف الطريق تحاول عايدة بكل الطرق إنقاذ عائلتها إشراكهم كمتعاونين في مسار المفاوضات مع الصرب.. لكن ما هي المخاطر الحقيقية التي يجب خوضها؟ ماذا سيكون الثمن الذي يجب دفعه؟، فهي ممزقة بين واجباتها كمترجمة ومحاولات مختلفة لإنقاذ أحبائها.
تركض عايدة يسارًا ويمينًا في صورة لاهثة لمساعدة أولئك الذين يحتاجون بدورهم إلى الدعم.
عايدة هنا لا تهدأ أبدا ومعها تركزت الكاميرا بالكامل، فهي تحمل الفيلم بأكمله تقريبًا على كتفيها تبنت المخرجة سياسة تثبيت الكاميرا على عايدة في أغلب المشاهد نتحرك معها ، نتبعها في الأماكن والأفكار، نفهم ما تحاول فعل نحارب الوقت ضد عدو لا يتردد في القسوة، وجيش وقائي بدون أوامر أو سيطرة، والأحداث تتحرك من حولها مما أجبرت المشاهد على الدخول في القصة، ولا ينبغي نسيانها بفضل أدائها الحيوي والقوى، والذى جعل المشاهد جزءا من الحكاية، فالحديث هنا عن أول إبادة جماعية على الأراضي الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية ، عن جرح مفتوح على وجه البوسنة، جراء الفظائع التي ارتكبها الصرب ومفاجأة عدم جدوى الحماية الدولية التي بديهيا أن تكون مضمون.
عايدة هنا هي مرشدنا لخط الاتهام للأمم المتحدة وهو ما يجعل الفيلم أكثر من كونه حالة سينمائية، حيث يظهر بوضوح كيف فشلت المنظمة الدولية التي تركت سكان سريبرينيتشا يواجهون مصيرهم في مواجهة المذبحة التي يجب ألا يبقوا أسرى لأنقاضها ونجحت المخرجة بأسلوبها الذى يشبه الشلال في التعامل مع المشكلة بنظرة واضحة وناضجة، من ناحية أخرى لم تتردد في الانغماس في المشاعر من وقت لآخر، وينتهي بها الأمر حتمًا إلى صنع الحقيقة.