ثمة معلومات رسمية من الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا تشير إلى تورط بعض العناصر الكردية بالانضمام لما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، لكن الأمر يتخلله التباسات وتعقيدات كثيرة، في ظل خصوصية الإقليم الكردي، من الناحية السياسية والإقليمية، وكذا الخبرات التاريخية التي راكمها، بالإضافة إلى التعقيدات الاجتماعية والثقافية التي عاشها في محيطه العربي، وبخاصة تأثيرات الصحوة الإسلامية في سبعينات القرن الماضي.
وترتب على تلك الصحوة صعود حركات الإسلام السياسي في عدة دول ومناطق، بينما ساهمت بعد ذلك الثورة الإسلامية في إيران، العام 1979، في تدشين حكم الولي الفقيه، بإحداث مقاربة وصياغة جديدتين لبناء سلطة رجال الدين عبر نموذج “الملالي”.
كانت حقبة السبعينات بمثابة أول اشتباك للأكراد مع الإسلام السياسي، الحركي والنظري، عبر أفكار جماعة الإخوان المسلمين، في بادئ الأمر، ومن ثم تنوعت وتباينت الأفكار والتنظيمات الأصولية والسلفية، في ظل متغيرات إقليمية عنيفة، أبرزها تولي صدام حسين حكم العراق بمرجعية البعث الحزبية والأيدولوجية، وتبعات ذلك على المشروع السياسي الكردي، والصدامات المتكررة بينهما.
يجرى على استحياء، أحيانًا، محاولة تبرئة العناصر الكردية المنتمية إلى داعش من أصولهم القومية، واعتبارهم من بقايا السريان، مثلاً، الموجودين في منطقة المحلمية، الواقعة على الحدود السورية التركية، أو أكراد منطقة حلبجة، والأخيرة، تقع ضمن إقليم كردستان العراق.
بيد أن المنطقتين الحدوديتين في كل الأحوال، وبغض النظر عن نقاء العرق والقومية للأفراد المنخرطين في التنظيمات الجهادية، تفسران من خلال قراءة الجغرافيا السياسية، ووقوعهما في أطراف حدودية، النزعة الانفصالية الحادة التي تتوافر لها البيئة المواتية لذلك، وكافة الشروط السياسية، لاسيما في ظل حالة الضغط الاجتماعي، وعدم الاستقرار السياسي.
إذ تعرضت المدينة الكردية (حلبجة)، شمال شرق بغداد، إلى استهداف بالطائرات انتقامًا لدورها الداعم لإيران، أثناء الحرب العراقية الإيرانية؛ حيث كانت المدينة التي يقطنها حوالي 80 ألف شخص مؤيدة لطهران.
وفي مارس 1988، دخلت قوات كردية المدينة بدعم من قوات إيرانية، فقام صدام حسين بإرسال ثماني طائرات لاستهدافها، ما أدى لمقتل حوالي خمسة آلاف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال، كما تبين استخدام العراق للسلاح الكيماوي ضد المدنيين.
ولا يختلف الوضع كثيرًا في المحلمية، الواقعة شمال شرق سوريا، وتتاخم الحدود التركية، حيث عانت التشتت على إثر الصراعات الإقليمية والمحلية، ووقوعها في فخ الدور الوظيفي أمام رغبتها الانفصالية، واستعادة حقوقها التاريخية.
ورغم شح وندرة المعلومات وتناقضها، أحيانًا، فإن الإدارة الذاتية في تصريحاتها الرسمية لوسائل الإعلام المحلية والعالمية، تشير إلى أن عدد الكرد يربو على 500 مقاتل في صفوف التنظيم، في الفترة بين عامي 2013 و2014.
وتوضح أرقام جهاز المخابرات الكردي “أسايش”، بأنه من أصل 85 كردياً من حلبجة انضموا إلى “داعش”، قضى نحو 23، بينما عاد 18 آخرون بإرادتهم، وما زال نحو 25 فرداً يقاتلون في صفوف داعش، في حين أن وضع الباقين ليس محددًا، بدقة.
عثمان الكردي
في أثناء قراءة وفحص إحدى الوثائق التنظيمية المسربة الخاصة بداعش، والتي حصلت “مصر 360” على نسخة منها، وتخص أحد العناصر الكردية الذين التحقوا بالتنظيم الإرهابي، يدعى “عثمان أردوغان”، تواترت أسئلة عديدة حول التداعيات والملابسات التي جعلت هذه الفئات، تجهض مشاعرها وارتباطاتها القومية، وتقطع صلاتها وانتماءاتها مع بيئاتها المحلية، بينما تتمرد على ذاتها التاريخية، وتمحو ما تركته من آثار في ذاكرتها ووعيها، فتنتقل بخفة وسهولة إلى حاضنة جديدة، تقف على النقيض التام من النقطة التي عبرت منها، كما تسعى إلى تحطيمها وتهديدها الوجودي، وتنظر لها بعداء بالغ. مع الوضع في الاعتبار، الحالة الهامشية والأقلوية التي عاش تحت تأثيراتهما الأكراد، في سوريا والعراق تحت وطأة حكم البعث.
لم يتجاوز عمره الثامنة عشر ربيعاً، حين التحق “عثمان أردوغان”، وكنيته “عثمان الكردي” إلى تنظيم داعش؛ إذ ولد في العام 1995، كردي، يعيش في مدينة فوبرتال، غرب ألمانيا، ولم يكمل تعليمه، بعدما حصل على الشهادة المتوسطة (المرحلة الإعدادية)، حيث بدأت صلاته تتوطد مع المجموعات الإسلامية الراديكالية، والتنظيمات الجهادية في الغرب.
وكما يتضح من الوثيقة الخاصة به، فإنها تعنى بجمع المعلومات التنظيمية والأمنية عنه، بهدف التعرف على ظروف وسياق التحاقه بالتنظيم، والوسيط الذي قدم له التوصية، أو ما يعرف لدى التنظيم الإرهابي بـ(التزكية الشرعية)، والمنفذ الحدودي الذي وصل منه، وكذا التسهيلات التي حظى بها عن طريق أحد أفرادهم الموثوق به، بالإضافة إلى الأوراق الثبوتية وبطاقات الهوية التي يحملها، وما إذا كانت حقيقية أم مزورة، ثم موقفه الأمني، وغيرها من الأسئلة التي تتصل، مثلًا، بسوابقه التنظيمية، ودوره داخلها، سواء كان دعويًا أو قتاليًا أو استشهاديًا أو انغماسياً.
“كان فى مطار منغ مع الشيخ عمر الشيشانى، مع كتائب المهاجرين والأنصار، العام الماضى (أي العام 2013)، في شهر رمضان فقط ـ وعاد إلى ألمانيا لأن والدته أتت مع البوليس التركى تبحث عنه وأخذوه، فقال لهم أنه كان فى الجيش الحر، فلم يفعلوا له شئ. ثم أتى مع عائلته لتركيا فهرب منهم إلى الدولة (يقصد داعش) لذلك ليس معه جواز سفر”.
بهذه المعلومات السريعة والمقتضبة، تضئ الوثيقة على معلومات حيوية ورئيسية إلى قيادات داعش الأمنية، لتفصح عن مجموعة من العناصر الأولية للوافد الجديد، بغية تحديد هويته بدقة، ومعرفة ارتباطاته الأساسية، ومرجعياته السابقة، وأطرافه الممتدة، بيد أنه، من جهة أخرى، تظل هناك ندرة في باقي المعلومات ( للباحث)، التي ترفع طبقات السرية والغموض عن الأدوات والمصادر والإغراءات التي حللت الشخصية الأولى، ونجم عنها هذه الظاهرة الداعشية الجديدة. فتبقى جوانب منها معتمة، وأخرى قلقة ومشوشة.
وتلفت الوثيقة في أحد أقسامها إلى الدور المباشر والرئيسي للنظام التركي، باتجاه دعم ورعاية ما يعرف بـ”الجيش الحر” الذي تشكل في سوريا، في يوليو العام 2011، والذي جرى بعد ذلك إلحاق مجموعات متطرفة لقيادته، والانتساب له تنظيميا، الأمر الذي نجم عنه “دعشنة” الصراع في دمشق، وتحويله إلى حرب أهلية، وتطييف الأزمة السياسية.
الحركة الإسلامية الكردية
ترافق ظهور التنظيمات الحركية الإسلامية الكردية، في كردستان العراق، مع ما عرف بـ”الصحوة الإسلامية” في سبعينات القرن الماضي، حيث بدأت في الانتشار بالإقليم الكردي، نهاية العقد ذاته، متأثرين بأفكار الإخوان المسلمين، في بادئ الأمر، إبان حكم صدام حسين، بغية مواجهة أفكار البعث في نسخته العراقية.
وجرى تدشين أول تنظيم للإسلام السياسي، بقيادة الشيخ عثمان عبد العزيز، في العام 1978، لكن نشاطه ظل محصورًا، ولم يجد استجابة في الأوساط الاجتماعية والشعبية. وخلال نهاية عقد السبعينات وبدايات الثمانينات، بدأت تنتشر التيارات السلفية، والسلفية الجهادية، وتتوسع مصادر حركات الإسلام السياسي بالإقليم.
وقبل الحرب الأنجلو أمريكية على العراق، العام 2003، استقر أبو مصعب الزرقاوي، القيادي في تنظيم القاعدة الإرهابي، في إقليم كردستان، ووجد فيه ملاذاً آمناً، حيث تواجد في منطقة حلبجة المتاخمة للحدود مع إيران، وتمكن من قيادة تنظيم “أنصار الإسلام”، الذي كان بمثابة توحيد لصفوف المجموعات السلفية الجهادية الكردية، الموجودة منذ الثمانينات، وقد أسسها فاتح نجم الدين فرج المعروف باسم الملا كريكار، ثم التحقت المجموعة التابعة للزرقاوي في ما بعد بتنظيم داعش.
من ناحية أخرى، تكشف لنا الجغرافية السياسية، عن ملمح آخر حول العوامل التي أدت لتقوية نفوذ التيار الإسلامي الكردي، بالإضافة إلى بقائه أو صموده، لبعث دوره الوظيفي، في أية لحظة، وهو ما يوضح ظهور عدد من العناصر الكردية، حتى لو بنسبة غير كبيرة ومتواضعة ضمن قاعدة الجهاد العالمي.
ففي نهاية عقد السبعينات، انشطرت الحركة الإسلامية إلى كيانيين؛ أحدهما مسلح، يمثله الملا عثمان عبد العزيز، مرشد “الحركة الإسلامية في كردستان” وثانيهما، سياسي تقليدي، يمثله حزب “الاتحاد الإسلامي الكردستاني”.
بيد أن الحركة الإسلامية دخلت في صراع عنيف مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، بقيادة جلال طالباني، في تسعينات القرن الماضي، ما أدى إلى هزيمتها وانحسارها. لذا، وجدت لنفسها ملاذًا آمناً بعد محنتها التاريخية، في منطقتي حلبجة وهورامان، المتاخمتين للحدود الإيرانية، وقد تدخلت طهران في وقف الاقتتال بين الجانبين، وإنهاء المعارك بينهما.
كما لعبت الجبهة الإسلامية الكردية، التي ظهرت إبان سنوات الحرب السورية، قبل أن يخفت دورها فجأة، دورًا في تعبئة العديد من العناصر للانخرط في صفوف التنظيمات الجهادية والمسلحة، ومن بينها تنظيمي داعش وجبهة النصرة، إذ كانت تتكون من حوالي مائة مقاتل من أكراد تركيا، ونسبة ضئيلة من السوريين، بينما بايع معظمهم الدولة الإسلامية، والباقي التحق بـ”أحرار الشام”.
في نهاية شهر يوليو العام 2014، انتقل عثمان الكردي أو عثمان أردوغان إلى تركيا، مجددًا، بينما كان يحمل معه ما يعرف تنيظيمًا بـ”التزكية الشرعية”، من شخص يدعى “أبو عبد الرحمن المهاجر”، والأخير يحمل الجنسية الألمانية، ومقيم في الرقة بسوريا. وحسبما توضح الوثيقة أيضًا؛ فهو مسؤول عن “الميديا” والإعلام في تنظيم الدولة، ويتولى مهام عديدة داخلها كتصميم المقاطع المصورة والجرافيكس.
وعليه، فإن الوافد الجديد يظهر من اختصاصه هو الآخر بأنه “إعلامي”. ومن خلال معبر “تل أبيض” الحدودي، في شمال سوريا، المتاخم للحدود مع أنقرة، عبر إلى مناطق سيطرة داعش.
بحسب صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، فإنها تنقل عن مسؤول استخباراتي كردي، بأن نحو 80 بالمئة من الموجة الحالية من شباب حلبجة الذين ينضمون إلى داعش، غالبيتهم في سن المراهقة، وأوائل العشرينات، بينما يرتبط معظمهم بأحزاب سياسية إسلامية ويمثل ولاء هؤلاء تهديدًا للأكراد.
ومن جانبه، يوضح مصدر في الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني (المعارض)، في حديثهلـ”مصر 360″، بأن طهران كانت على معرفة ودراية كاملة بنشاط المجموعات الجهادية المرتبطة بداعش على حدودها، بالإضافة إلى دور بعض عناصرها محليًا لتجنيد الشباب في التنظيم الإرهابي من داخل إيران.
ويؤكد المصدر ذاته (فضل عدم ذكر اسمه)، بأن طهران سبق واستفادت من وجود تنظيم القاعدة، ووفرت ملاذات آمنة للعديد من عناصرها وقياداتها، بعد العام 2011، وسقوط نظام طالبان، وهو أمر ليس بجديد عليها لتعيد تكراره مع تنظيم داعش؛ إذ إن نظام “الولي الفقيه” الطائفي، بحسب تعبيره، يسعى إلى صناعة دوائر مذهبية مسلحة والاستفادة من الأقليات وتعبئة مظلومياتها لمصالحه الإقليمية، وتوغل نفوذه في محيطه الحيوي والخارجي.
كما أن ثمة دور آخر يستفيد به محليًا، بحسب المصدر ذاته، حيث يقوم بتوظيفهم في عسكرة أي دور نضالي للتيارات المدنية، القومية واليسارية، والتي ترفع مطالبها الحقوقية والقانونية، بخاصة، ما يتصل بأوضاع الأقليات المضطهدة في إيران، وتوريطها في صراع طائفي بواسطة تلك الكيانات المتشددة والمذهبية.