يمر الموظف علاء النادي على محال بيع الأحذية الجلدية بوسط القاهرة، بصورة شبه يومية. ينظر للأسعار التي تتجاوز 500 جنيه، ويلملم حاله، وعيناه لا تغيب عن حذائه القديم الذي ينتعله، يرجئ قراره بشراء آخر جديد في الأسابيع التالية.
اشترى النادي على مدار العام الحالي 3 أحذية من فروشات مناطق العتبة بسعر لا يتجاوز 75 جنيهًا رغم تأكده من ردائتها، لم يكمل أي منها الثلاثة أشهر قبل أن تخرج أحشائه الداخلية، ويتمزق، بما يستحيل معه زيارة “الإسكافي”، لكنه لن يضطر في كل مرة للشراء باعتبار أن المصري ذو الخامات الجيدة أعلى بكثير من قدراته.
يعتبر بعض الاقتصاديين حركة العمل بمحال تصليح الأحذية مؤشرًا اقتصاديًا غير تقليدي، فالحذاء سلعة أساسية لا غنى عنها، واتخاذ قرارها الشرائي ضروري مهما كان مكلفًا، والاعتماد على تصليح القديم منها بديلا من شراء الجديد يشي بصورة غير مباشرة بمستوى الدخل والمعيشة.
لا تقل الأحذية عن مؤشر الملابس الداخلية الذي اعتبرها آلان جرينسبان محافظ البنك المركزي الأمريكي نعكاسًا لجودة أداء الاقتصاد، فمعظم الرجال ينظرون لشراء تلك النوعية من الملابس على أنه “ضرورة مرنة” بمعنى أنها سلعة ممكن تأجيل شرائها للمستقبل إلى حين توفر أموال إضافية.
تدور في أذهان الشاب الذي يقف على أعتاب الكهولة تساؤلات مشروعة بعدما شهد بعينيه إلقاء جلود الأضاحي في آخر عيدي أضحي بأكوام القمامة بسبب انخفاض أسعارها وعدم طلبها من المدابغ، فإذا كانت المادة الخام موجودة، فلماذا يرتفع الحذاء المحلي؟.. ومن الذي يدخل المنتجات الرديئة إلى السوق؟
مبادرة الحذاء الاقتصادي
ووعد المجلس التصديري للأحذية والمنتجات الجلدية بالتعاون بين المصنعين والتجار، أخيرًا، بتدشين مبادرة الحذاء الاقتصادي الطبيعي بأسعار تتراوح ما بين 120 و١٧٠ جنيهًا، على أن يكون مناسبا لجميع الفصول وليس مرتبطًا بموسم محدد، لكن الأسعار الرخيصة الموجودة في المحال تبتعد كثيرا عن صفة “الطبيعية”.
الإشكالية التي تواجه صناعة الأحذية بمصر مرتبطة بصراع بين أصحاب المدابغ والمصانع على “تصدير الجلود”، ووقوف وزارة التجارة والصناعة على الحياد بعد تأكدها من أن ما ينعش صناعة الدباغة يضر بالتصنيع والعكس صحيح تمامًا.
ضغوط متتالية
تضغط غرفة صناعة الجلود باتحاد الصناعات المصرية بقوة لمد رسم الصادر على جلود “الكراست” الأبيض وعديم اللون، الذي انتهى في أبريل الماضي، بحجة أنه فتح مجالاً لعمليات التهريب، وارتفاع جنوني في أسعار الجلود.
الغرفة، التي لا تمل من تقديم مذكرات لوزارة التجارة والصناعة، تقول إن تصدير الجلود يهدد بخسائر فادحة للمصنعين، وعدم قدرتهم على الاستمرار بالإنتاج، فسعر الجلد الواحد قبل إصدار رسم الصادر كان 950 جنيها تراجع إلى 150 جنيهًا بعد فرضه على مدار الثلاث سنوات الماضية.
تقول المصانع إن أصحاب المدابغ يصدرون النوعيات الجيدة من الجلود مثل “الوايت بلو” (الجلود الطرية التي تتحمل فترات طويلة)، ما يرفع تكلفة المنتج المحلي، ويفتح الباب أمام المستورد خاصة المنتجات الرديئة.
يصل عدد المصانع العاملة بصناعة الجلود إلى 17 ألفًا و600 مصنع مقابل ٢٥ ألفًا كانت في الخدمة قبل عشر سنوات، وخرج الكثير منها من منظومة الإنتاج، بسبب تهريب الأحذية الرخيصة من الخارج وتغير أذواق الجمهور التي تمثل في الفترة الأخيرة نحو “الفوندي” الأحذية الرياضية المعتمدة على التريكو والمطاط أكثر من الجلد.
يقول جمال السمالوطى، رئيس غرفة صناعة الجلود، إن الغرفة لا تقف ضد قطاع دباغة الجلود لكنها تسعى لصالح الاقتصاد، والدولة التي وضعت خطة لتنمية صناعة الجلود المحلية بالروبيكي، معتبرًا أن مطالبة المدابغ بالعودة للخلف بتصدير الجلد الخام يحمل تأثيرات تدميرية على الصناعة، فتصدير “الوايت بلو” يمثل قيمة مضافة 32% للاقتصاد المحلي، وحال تصدير في صورة كراست بعد معالجة صناعية ترتفع القيمة لـ 55% لكن حال تصديره في صورة منتج كامل ترفع النسبة إلى 100%.
ومدينة الروبيكي مقامة على 490 فدانًا، وتضم ثلاث مراحل بدءًا من دباغة الجلود والمنتجات الوسيطة وصولاً إلى المنتجات النهائية بإجمالي استثمارات 2.3 مليار جنيه، وتم الانتهاء من المرحلة الأولى للمشروع بإجمالي 213 وحدة إ لـ 95 مستثمرًا على مساحة 176 فدانًا، كما سيتم استكمال إنشاء وحدات إنتاجية لدباغة الجلود بالمرحلة الثانية للمشروع بإجمالي 87 وحدة بتكلفة قدرها 300 مليون جنيه.
يؤكد السمالوطي أن إعادة فتح التصدير سيؤدي لنقص حاد في معروض الجلود الخام اللازمة للصناعة، ما يعني ارتفاع تكلفة الإنتاج وضعف تنافسية المنتجات الجلدية محليا وعالميا، فالجلد يمثل ما بين 50 و80% من تكلفة المنتج النهائي.
وأعدت الغرفة قائمة مستندات تدعم دعوتها لزيادة الأسعار الاسترشادية للجمارك الخاصة بالفوندي (نوع من التريكو المطاط المُستخدم في صناعة وجوه الأحذية)، الذي يتم استيراده من الصين بـ 3 و3.5 دولار، والأحذية تامة الصنع التي تدخل مصر بقيمة 8 دولارات، وتقرن مطالبها بوجود حصيلة مهدرة من دخول تلك الأحذية بجمارك مخفضة بقيمة 2.6 مليار جنيه خلال 5 سنوات.
موقف حيادي
على الجانب الآخر، تقف مدينة الجلود بمدينة بدر مع قرار تصدير الجلود المصنعة في مرحلة “الويت بلو” لإنقاذ صناعة الدباغة التي تقف على شفا الانهيار، وتعويض جزء من التكلفة الكبيرة التي تحملتها الورش الصغيرة في نقل معداتها من سور مجرى العيون إلى مدينة الروبيكي.
يشير مصطفى حسين، رئيس مجلس أمناء المدينة، إن “الروبيكي” تعاني من ارتفاع التكاليف مع تحديث معدات الإنتاج، وتكاليف نقل العمالة يوميًا من أحياء مصر القديمة، وارتفاع أسعار الكيماويات المستخدمة في الصناعة، ما يجعل تصدير “الوايت بلو”.
ظلت مدابغ مصر القديمة، التي يعود تاريخ إنشائها إلى الثلاثينيات وعددها يتجاوز 1100 مدبغة وورشة على ماكينات تقليدية، ووسائل إنتاج لا تتعدى نقع الجلود في محلول كبريتات الكروم، والتي تنتج نوعا يمتاز بالمرونة والمتانة، ويستخدم في صناعة الملابس، وحقائب اليد، والأحذية.
يدافع مجلس أمناء مدينة الجلود هو الأخر عن موقفه استنادًا إلى استفادة الاقتصاد الكلي، فالتصدير يؤدي لزيادة الدخل القومي من العملة الصعبة، في ظل الطلب المتزايد عليها من المصانع الأسيوية والأوروبية في التصميمات الحديثة وانتشار استخدام الأحذية الرياضية “الكوتشي الأبيض” عن الكلاسيكية.
ربما كان مواجهة التهريب العنصر الوحيد الذي يتفق عليه أصحاب المدابغ والمصانع، ففي 2015 تم تهريب 48 مليونًا حذاء ارتفع إلى 53 مليون عام 2016، ثم 47 مليون حذاء عام 2017، و46 مليونًا في 2018 ، وأخيرًا 51 مليون حذاء مهرب في 2019 والتي يفترض دفع ضريبة إجمالي عليها بقيمة 74% ما بين جمارك وقيمة مضافة بما يعادل 14 مليار جنيه.
يقف بين الجانبين أصحاب ورش التصنيع الصغيرة التي تؤكد أن غالبية المصانع تعتمد على الجلود الصناعية المستوردة بدلاً من الجلود الطبيعية على الرغم من توافرها وانخفاض أسعارها ومميزاتها في الصناعات الجلدية من حيث القوة والمتانة وطول العمر الافتراضي.
وتستورد المصانع المصرية الدرجة الثانية من منتجات الجلود أو أنواع أردأ كـ”السكاي” ومشتقات النفط التي يتم إدخالها في صناعة الأحذية، بجانب تقضيها شراء منتجات تامة الصنع عن تصنيعها محليًا خاصة الحقائب، وفقا لإحصائيات غير رسمية، تستورد مصر نحو 5 ملايين حقيبة مدرسية و16 مليون حقيبة نسائية و%95 من حقائب السفر، و%95 من جلود الساعات سنوياً.
ويشير أصحاب المدابغ إلى مشكلة نقل الجلود حاليًا من محال الجزارة في أحياء القاهرة إلى الروبيكي فتكلفة النقل تجهل توريدها بدون قيمة وطالبوا بتدخل الدولة بفتح منافذ لجمعها الخام ونقلها للورش لإنقاذ ملايين الجنيهات التي تضيع حاليا ثمن الجلود الخام التي لا يتم الاستفادة منها أو إهدارها في القمامة.
خلال عيد الأضحى الماضي وسابقه، الذي يمثل الموسم الأهم لهذه المهنة التي تعود إلى عصر الفراعنة، تخلص غالبية الجزارين والجمعيات الخيرية من الجلود البقري والجاموسي بعدما بلغ سعرها حينها 20 جنيهًا بأقل من 80 جنيهًا عن السعر المعتاد، ما أضاع أطنان من الجلود كان يمكن إجراء قيمة مضافة عليها وتصديرها للخارج.
ووفقًا لغرفة الدباغة بغرفة القاهرة التجارية فإن قيمة الإنتاج المحلى من الجلود المدبوغة يناهز ٣ مليارات جنيه وتقدر نسبة القيمة المضافة إليه بنحو ٢٥٪، ما يعنى أن قيمة الجلد الخام تقدر بـ 3.25 مليار جنيه، ما يتطلب الحفاظ على تلك الصناعة، التي توفر 125 ألف فرصة عمل بشكل مباشر وغير مباشر.