لو أنك شاهدت هذا الشاب الوسيم، القادم من مسرح كلية الزراعة بالإسكندرية إلى عالم السينما، في “غابة من السيقان” أو “الحفيد” أو حتى أولى بطولاته “حتى آخر العمر” أو في الـ 25 فيلمًا التي قدمها خلال الستة أعوام الأولى من تاريخه السينمائي، لأيقنت أننا أمام صورة مكررة من عدد من نجوم الشباك أصحاب الموهبة المتواضعة، أبطال أفلام الرومانسية.

 وحتى لو حاولت أن تنحاز للموهبة المتوارية خلف ابتسامته وعينيه الملونتين، ما كنت لتتخيل أن يصبح في خلال أعوام قليلة “ساحر السينما المصرية” ونجم أفلام الفانتازيا، وأحد ثلاثة أعمدة ارتكزت عليها السينما خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، (تلك المرحلة المأزومة من تاريخ السينما)،  إلى جانب أحمد زكي ونور الشريف، إذا أخرجنا بالطبع عادل إمام من هذه المعادلة.

لا أحد يعرف سر النقلة التي حدثت في اختيارات وأداء، الفنان الفذ محمود عبد العزيز، في تلك الفترة القصيرة، فالكتابات النقدية عنه قليلة ولا تقدم إجابات باستثناء ما قاله الناقد طارق الشناوي، عن إن محمود عبد العزيز أدرك أن سوق السينما الذي فتح له ذراعيه كامتداد لنجوم مثل حسين فهمي، اعتمدوا على “وسامتهم” سوف يلفظه في وقت لاحق وأنه إن لم يطور من أدائه ويبحث عن أدوار مختلفة سينتهي، إضافة إلى أنه لن يستطيع ترك أثر يبقى وأعمال تحيى في وجدان الناس، وهو كلام على الأغلب استنتجه الشناوي من أحاديثه مع محمود عبد العزيز. لو سلمنا بأن محمود عبد العزيز كان يملك هذا الوعي فيمكننا أن نتخيل ما بذله من جهد ليصل إلى هذه الدرجة من الإبداع والعمق.

العار.. الانطلاقة الأولى

كان فيلم العار للمخرج علي عبد الخالق، عام 1982، والذي اشترك معه في بطولته نور الشريف وحسين فهمي، هو انطلاقة محمود عبد العزيز الحقيقية في اتجاه مرحلة جديدة على مستوى العمل والأداء، فاستطاع أن يقدم شخصية الدكتور عادل، طبيب علاج الإدمان، الذي يكتشف بعد وفاة والده أنه كان يتاجر في المخدرات، وأن أخيه الأكبر كان يعمل معه، وأن عليه الاشتراك مع أخويه في استلام واستخراج شحنة المخدرات من البحر، لو أراد الحصول على ميراثه.

ووسط هذا التناقض الذي تقع فيه الشخصية، ما بين خسارة ميراثه والتنازل عن المستوى الاجتماعي الذي عاش فيه طوال حياته، إن رفض الخضوع لأخيه الأكبر “كمال” والاشتراك في هذه الجريمة، وما بين التخلي عن مبادئه، وواجبه كطبيب لمعالجة الإدمان من المفترض أن يحمي الناس من هذه السموم لا أن يجلبها لهم، تفجرت طاقة محمود عبد العزيز الإبداعية ربما للمرة الأولى منذ بدايته في مسلسل الدوامة مع المخرج نور الدمرداش، عام 1972، ليضيف إلى الدور عمقًا نفسيًا، وحسًا فكاهيًا ساخرًا لا يجعلك تتوقف عن الضحك عند مشاهدة أدائه، رغم ما يحمله الدور  والفيلم كله من مرارة شديدة.

مغامرة “سينما الفانتازيا”

انطلق محمود عبد العزيز بعد “العار” فقدم عدد من أفلام الدراما الاجتماعية والكوميدية، مثل “العذراء والشعر الأبيض”، عام 1983، وتزوير في أوراق رسمية عام 1984، والطوفان 1985، والصعاليك عام 1985، والشقة من حق الزوجة، وقد أداها جميعها بشكل سلس، وعمق شديدين، ثم كان مع موعد مع تجربة من أهم التجارب في السينما في عقد الثمانينيات وهو  فيلم الكيف مع الفنان يحيى الفخراني والفنان جميل راتب، حيث جسد شخصية “مزازنجي” مطرب الأفراح وتاجر المخدرات، وهو فيلم دراما اجتماعية كوميدية، وقد كان هذا الدور نقلة كبيرة لمحمود عبد العزيز.

دخل محمود عبد العزيز مرحلة جديدة من التجريب فدخل مغامرة المخرج الاستثنائي رأفت الميهي في سينما الفناتازيا، فمثل فيلم “السادة الرجال” عام 1987، “وسمك لبن تمر هندي” عام 1988،   “وسيداتي انساتي” عام 1998، وجميعها أبدع فيها محمود عبد العزيز، ورغم حداثة تلك النوعية من الأعمال و ندرتها في السينما المصرية فقد حققت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا.

تنوعت أعمال محمود عبد العزيز خلال فترة الثمانينيات، بين أفلام الفانتازيا، وأفلام الدراما الاجتماعية الكوميدية، كما قدم في أواخر الثمانينيات الجزء الأول من مسلسل الجاسوسية المصري الأشهر “رأفت الهجان” والذي رفع أسهمه كنجم جماهيري وحاز مكان كبير في قلوب المشاهدين، نظرًا لأدائها الذي اتسم بالصدق الشديد والتمكن من خيوط شخصية الجاسوس المصري، خلال أجزاء المسلسل الثلاثة، فنجح المسلسل نجاحًا لما يضاهيه أي مسلسل قبله صحيح أن النزعة الوطنية و”تخديم” مؤسسات الدولة على المسلسل كان له دور كبير، لكن أداء محمود عبد العزيز كان سر النجاح العظيم للعمل.

الشيخ حسني.. الاختبار الصعب

في عام 1991 خاض محمود عبد العزيز، التجربة الأكثر إبداعًا في تاريخه السينمائي كما يوصفها العديد من النقاد فقدم عن رواية إبراهيم أصلان، وسيناريو وحوار وإخراج داوود عبد السيد، رائعته “الكيت كات” والذي جسد فيه شخصية “الشيخ حسني” كفيف البصر، والذي فشل في الحصول على شهادته الأزهرية، المتيم بالمزيكا والغناء، ويعيش في حواري المنطقة الشعبية “الكيت كات”  مع أمه وابنه الوحيد بعد أن فقد زوجته.

 “الشيخ حسني” شخصية أسطورية، لكنها غارقة في الواقعية، شرب الحشيش هو خطيئته الوحيدة كما يقول في أحد المشاهد، لـ “عم مجاهد” (الفنان القدير أحمد سامي عبد الله): “الحشيش ده هو الذنب الوحيد اللي في حياتي. بعد ما ماتت أم يوسف، ماكانش عندى حتى بني آدم أكلمه. أنا بكلم الناس حوالين الجوزه، بفضفض.. بضحك واغني في قعدة حلوة لغاية لما أموت”. كان الحشيش وقعدة الجوزه ذنبه الوحيد وملجئه الوحيد من الوحدة والعجز.

لكن “الشيخ حسني”، هذا الهارب إلى دنيا الحشاشين بالحكاوي والغناء،  من خيبات زمانه المتلاحقة، ومن فقره وعجزه وقسوة الواقع، كان يحمل في قلبه أمال لا تعرف حدود وتمرد على هذا الواقع، فلم يسلم بأنه أعمى، بل اعتبرها كذبة رفض تصديقها، فهو يغني ويمارس الحب مع جارته “أم روايح” (الفنانة أمل إبراهيم)، ويقود “الفيسبا” وسط الحارة، ويجدف بصديقه الكفيف بمركب شراعي في النيل. قدم محمود عبد العزيز شخصية “الشيخ حسني” بعبقرية شديدة، كما قدم شخصية الكفيف وتفاصيل حياته اليومية بشكل لم يسبقه إليه أحد في السينما ولا الدراما المصرية، كما أن كل الذين حاولوا أداء شخصية الكفيف بعد ذلك لم يصلوا إلى مستوى إبداع “الشيخ حسني”.

 “الكيت كات” يحتل  المركز 24 في قائمة أفضل 100 فيلم في ذاكرة السينما المصرية حسب استفتاء النقاد بمناسبة مرور 100 عام على أول عرض سينمائي في مصر، وحصل على الجائزة الذهبية لأحسن فيلم من مهرجان دمشق السينمائى الدولي عام ١٩٩١، كما حصل محمود عبد العزيز عن دوره في الفيلم على جائزة أحسن ممثل من نفس المهرجان.

وخلال فترة التسعينيات قدم محمود عبد العزيز مجموعة رائعة من الأفلام السينمائية المتنوعة، منها “أبو كرتونة، وثلاثة على الطريق، والبحر بيضحك ليه، والدنيا على جناح يمامة، وسوق المتعة، وخلطبيطة”.

الساحر

وفي عام 2001، قدم دور “منصور بهجت” في فيلم “الساحر” للمخرج رضوان الكاشف، وهو أحد ثلاثة أفلام روائية أخرجها الكاشف، تمحورت حول المهمشين، فجسد محمود عبد العزيز شخصية “منصور بهجت” الساحر “الشعبي” والذي رغم كل الأزمات التي تحاصره وتحاصر واقعه فهو قادر على خلق حلول سحرية لتلك الأزمات، وقد كان أداء “الساحر” في دور ولقب هو جدير به، ربما خلاصة لخبرات وقدرات تمثيلية، قليلون هم من استطاعوا أن يصلوا إليها، فسحر محمود عبد العزيز جماهيره، ليظل اللقب ملتصقًا به، وقد نال عن دوره جائزة أحسن ممثل من مهرجان دمشق السينمائي الدولي.

غادر الساحر وبقي السحر

لم يشأ الساحر أن يغادر السينما المصرية، إلا بعد أن يترك تحفة أخرى من تحفه الإبداعية، فها هو في آخر أفلامه يقدم شخصية “عبد الملك زرزور”  في فيلم “إبراهيم الأبيض” مع أحمد السقا وهند صبري وعمرو واكد، ورغم أن الشباب كانوا يتصدرون أدوار البطولة إلا أن محمود عبد العزيز بأدائه الأسطوري انتزع الفيلم منهم، حيث فرض واقعًا جماهيريًا  بأن أصبح نجم الفيلم الأول.

اتجه محمود عبد العزيز بعد دور “عبد الملك زرزور” إلى الدراما والتي اقتصرت أعماله عليها، فقدم مسلسلات “باب الخلق، جبل الحلال، ورأس الغول” وهي المسلسلات التي شهدت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا، دون أن يتخلى الساحر عن أدوات سحره، وروعة أدائه، حتى انطلق مغادرًا الحياة “يركب حصان خياله” في مثل هذا اليوم الثاني عشر من نوفمبر عام 2016، ليغادر الساحر ويبقى السحر.