هل يمكننا التفكير في الإرهاب؟ هل يمكن للإرهاب أن يصبح موضوعا للتفكير؟ كيف يمكننا أن نفكر في مفهوم لا يزال منفلتا من عقاله، ولا يوجد أي توافق حول دلالاته ومعانيه؟ بمعنى كيف يمكننا التفكير في مفهوم لم تتم مفهمته كما ينبغي، أو ليس بعد؟ وهل هناك من منهجية في التفكير قد تساعدنا على فهم ظاهرة محكومة بعدم التوقع وانعدام اليقين سواء في الزمان أم المكان؟ فوق ذلك كله هل نستطيع أن نحصل على تفسير واضح طالما المتوقع من المفكر بعد أن يفكر، أن يفسر؟ 

لكن ألا يتضمّن التفسير جرعة من التبرير؟ ألا تكون محاولة تفسير الإرهاب مجرّد تورّط في تبرير ما لا يُبرر؟ وإلاّ كيف نفسر دون أن نبرر؟ 

ليس التفكير في الإرهاب إذن بالأمر الهين.

ما العمل؟

لربما هناك اقتراح معقول: التفكير دون نية التفسير، التفكير من حيث هو تمرين حر غايته أن نطور مهارة التفكير، وهذا كل ما في الأمر. لكن أليس هذا كافيا !؟

مؤكد أن الإرهاب لا ينحصر داخل شعب معين، أو جنس معين، أو مرحلة تاريخية معينة، لكن ليس من قبيل المصادفة أن يكون العنف باسم الإسلام هو أوّل ما يقفز إلى الذهن حين الحديث عن الإرهاب. فهل ثمة من مبالغة؟ ربما. لكن دون سقف المبالغة هناك مستويات يكون فيها الاستنتاج مبررا. إنكار المبالغة لا يعني إقرار النفي. 

نعود إلى السؤال نفسه، بأي حق نعتبر التطرّف الذي يمارسه بعض المسلمين هو المقصود بمفهوم الإرهاب؟ ألا توصف عمليات إيتا الأسبانية والألوية الحمراء الإيطالية والجيش الأيرلندي وغيرها بالعمليات الإرهابية؟ وبالتالي أليس الإرهاب كما نقول عنه دائما، لا وطن له ولا دين؟ فلماذا يتم إلصاق صفة الإرهاب العالمي بالعنف الممارس باسم الإسلام حصراً؟

لقد صار الإرهاب بلا وطن بالفعل، لكن- هنا المسألة- هناك من صيّره كذلك. صار الإرهاب بلا هويّة، بلا خلفيّة ترابيّة، عابراً للأوطان، منزوعاً عن كل سياق جغرافي، معولماً بالأحرى، لكن- هذا ما يهمنا- هناك من صيّره كذلك، بمعنى هناك فاعلية معينة قادت إلى هذا المآل، هناك مسؤوليات محددة سواء أكانت مسؤوليات أشخاص، أم مسؤوليات نظم ومرجعيات وثقافات. ثم أن الإرهاب قد صار بلا وطن، لكن بأي معنى صار بلا دين كذلك؟

مورس الإرهاب لأسباب دينية، ووطنية، وأيديولوجية، وعرقية، وسياسية، واجتماعية، وبلا أسباب. يمكننا أن نذكر مجازر الخمير الحمر في كمبوديا، والهوتو في رواندا، والتفجيرات الانتحارية التي نفذها نمور التاميل في سيريلانكا، وكذلك التفجيرات الإرهابية التي قا بها كلا من اليمين المتطرف واليسار المتطرف في عديد من دول العالم، هذا كله يؤكد بأن الإرهاب آفة معظم الحركات العرقية والأيديولوجية والوطنية. وأيضا، لا ننس أيضا كيف لجأت بعض المنظمات اليهودية لدوع دينية إلى أسلوب التفجيرات الإرهابية في سنوات الأربعين، ثم شهدت العشرية الفاصلة بين 1978 و1997 موجة من الانتحار الجماعي لطوائف مسيحية متطرفة في أميركا وأوروبا.. لكن- هنا الفرق- كل ذلك العنف كان يتمّ في سياق صراع مرتبط بخلفية ترابية محدّدة، وبمناطق نفوذ واضحة، حتى ولو تعلق الأمر بمساحة ضيعة كما هو حال بعض الطوائف الدينية في أمريكا.

في المقابل، إذا كان العنف الممارس باسم الإسلام اليوم قد تعولم بحيث صار يضرب في كل مكان، وأي مكان، فلأنه تمكن من الانفكاك عن الروابط الجغرافية جملة وتفصيلا. إنّه أول إرهاب يضرب في أي مكان من العالم دون أن يكون له مجال نفوذ جغرافي واضح، ودون أن يسعى إلى ذلك بالضرورة. لا ننكر أن مفهوم الأمة يبقى حاضراً بقوة، غير انه صار افتراضيا بقدر ما صار معولما (أمة الإسلام)، هكذا بدون تحديد جغرافي أو تأطير ترابي !

إذا كانت “دار الإسلام” تمتدّ قديما -بالمنظور الفقهي- إلى حيث تنتصب آخر مئذنة لآخر مسجد، فهذا التّقدير يضع المسلم اليوم أمام مفارقة صارخة. ما هي؟ 

توجد المساجد والمآذن اليوم في معظم مدن أمربكا، وأوروبا، وروسيا، والهند، وغيرها من أقطار “دار الحرب”، بدون الحاجة إلى “الفتح”، ذلك أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يكفي. هذا الوضع يجعل العالم بأسره يبدو كأنّه دار للإسلام، إلا أن المسلم يظل شاعراً بالغربة طالما أن المعايير التي تمنحه حرية التديّن غير مستوحاة من شريعته التي يؤمن بها، وهو لذلك كمن يأخذ “حقه” كاملا، أو شبه كامل، وفي الوقت نفسه يرفض المعايير التي تمنحه ذلك “الحق”، هنا تصبح المفارقة شائكة بكل المقاييس. لذلك يبقى الحل لدى البعض أن يفرض المسلم معاييره مجددا بحيث يصير العالم دارا للحرب، حيث تبدو المكاسب كأنها غنائم، الجنسية كأنها هجرة، والمساعدات كأنها جزية.

لقد شكل الحادي عشر من سبتمبر منعطفاً في تاريخ الإرهاب العالمي، حيث قفز بعض الشباب المسلم لاحتلال مقدمة المشهد الإرهابي في العالم بلا منازع، إلى حد يوشك فيه الإرهاب العالمي أن يقترن اليوم باسم الإسلام. بل يبدو الإرهاب العالمي كأنه انتقل فعليا من سائر الألوان (الأحمر، الأصفر، وغيرها) إلى اللون الأخضر، قبل أن يُصيّره الأشدُّ تشدّداً سواداً قاتما، وقد زعموا أن السواد لون راية الرّسول.

لن نقرأ سيمياء الألوان في حديث منسوب للرّسول ويحيل إلى العقيدة المهدوية-  عن الرايات السود التي تطلع من قبل المشرق لتقتل الناس- لكن حسبنا أن نكتفي ببعض المعطيات المساعدة في التحليل.

صحيح أنّ الإرهاب باسم التشيّع انحصر في نطاق الصراع حول مناطق نفوذ محدّدة (إيران، جنوب لبنان، جنوب العراق، المزارات، إلخ)، هذا في الوقت الذي انفلت فيه الإرهاب باسم التسنّن عن معطيات الجغرافية، وربّما التاريخ أيضاً، غير أن هذا التحليل ينقصه معطى هام، ما هو؟ بسبب الحاجة إلى ملء “الفراغ السني” واستنطاق “الصمت السني” حول علاقة الدين بالدولة في دول “العالم السني”، ولغاية إضفاء المشروعية الدينية على الدولة، فقد كانت هناك مؤثرات قادمة من الثورة الإيرانية، ومن الأيديولوجية الخمينية على وجه التحديد، وبحيث يسهل رصدها.

الحصاد المر

كانت كتابات أيمن الظواهري، “الحصاد المر” و“فرسان تحت راية النبي” و”الولاء والبراء” وغيرها، تندرج ضمن مكونات الخطاب التأسيسي لظاهرة الإرهاب العالمي. حين نتصفح كتاب “الحصاد المر” نجد الظواهري ينتقد ما يعتبره منهجا سلميا عند الإخوان، فيؤكد في الكتاب نفسه بأنّه يستثني سيد قطب من هذا النقد، ما يعني أنّه يحتفظ بولائه للأيديولوجيا القطبية، وهذا معطى بالغ الأهمية. لكن ماذا عن المؤثرات الخمينية؟ يقول في خاتمة الكتاب: “إن المسائل التي ذكرناها في الباب الأول من هذا الكتاب، وهي مسائل الحكم بغير ما أنزل الله، والديمقراطية، والموالاة والمعاداة، ليست هي من مسائل الفروع التي يسوغ فيها الاختلاف الفقهي، بل إنها من أصول الإيمان، بل إنها متعلقة بأصل أصول الإيمان وهو عقيدة التوحيد”.

الاعتقاد بأنّ الدّولة أصل من أصول العقيدة، هو الحصاد المر لمسار انقلابي طويل تعود جذوره إلى الأيديولوجيا الجبرية، وابن حنبل، وابن تيمية، وصولا إلى الأخوين قطب، وقد دعمته في الأخير التجربة الإيرانية، والمؤثرات الأيديولوجية الخمينية القائمة على مبدأ ولاية الفقيه بمختلف تفرعاته.

يقال، إذا أردت أن تعرف حقيقة شخص فادفعه إلى الغضب. هذه القاعدة تصدق على حركات الإسلام السياسي عامة والتي -أمام اختبارات الغضب- سرعان ما تستعجل العنف الجهادي، كما لو أن شعار “السلمية” مجرد قناع لا يصمد طويلا. بهذا النحو تحولت جبهة الإنقاذ الإسلامية (الفيس) في الجزائر إلى الجماعة الإسلامية المسلحة (الجيا)، قبل أن تتحول إلى القاعدة في المغرب الإسلامي. وبالنحو ذاته خرجت جماعة الجهاد في مصر من رحم جماعة الإخوان، قبل أن تتحالف هي والإخوان إبان “غضب رابعة” مع أنصار بيت المقدس، والذين يمثلون ذراع القاعدة في سيناء.

فشل الإسلام السياسي

هكذا فشل الإسلام السياسي في رهان الاعتدال، وانتهى به المآل إلى التحالف مع الحركات الأشد غلوا، والتي ابتلعته بالكامل، وهو ما يبقي الباب مفتوحا على أفقين: أفق أوّل قد ينجح بموجبه بعض الإسلاميين في إنجاز مراجعات فكرية لمشروعهم لأجل فك الارتباط مع مفاهيم العصر الوسيط، وبالتالي توفير الأرضية لأجل تجديد ديني شامل، بعيداً كل البعد عن حسابات الصراع على السلطة؛ وهناك أفق ثان بموجبه قد يسقط كثير من الإسلاميين في أحضان التفجير العبثي، وشبكات الانتحار المجاني، وسافكي دماء العابرين في الطرقات. هل لا يزال الأفق الأوّل ممكناً؟ 

تتطلب الإجابة بعض الوقت وكثيراً من الجهد. في الأثناء يجب أن ننجح في “فك الاشتباك” بين المجال الديني والمجال السياسي، بما يتيح للإسلام فرصة أن يعيد بناء رؤيته لكي يصبح شريكا في بناء الحضارة المعاصرة بدل الإصرار على تدميرها. وهذا هو المأمول.