“كل الأحبة يرتحلون.. فترحل شيئاً فشيئاً من العين ألفة هذا الوطن”. كانت تلك العبارات الشعرية الموجزة والمكثفة التي ضمها ديوان: “أوراق الغرفة 8″، آخر أعمال أمل دنقل، بينما ظل يرددها القاص المصري، سعيد الكفرواي، وتعبر عن أسى شفيف، تكشف عن هذا الخيط الناعم الذي جمع نصوص الأخير ببعضها، وتضئ على عوالمه الفنية، بداية من اللغة والشخصيات مروراً بالزمن والأحداث، وحتى فضائه الرمزي الذي ظل يتاخم القرية المصرية، بتحولاتها، وأحوال أهلها وناسها.
شغلت الكفراوي، المولود في العام 1939، بينما قضى نحبه في الساعات الأولى من صباح اليوم (السبت)، القرية باعتبارها عالمه الفني، الغني والمتنوع، الذي عاش فيه طفولته بقرية حجازي، في مدينة المحلة الكبرى، إذ ظل يصعد إلى ذاكرته الممتلئة بعدة جداريات عن فترة الطفولة والبدايات، تجذبه باتجاه أسئلتها العفوية والسحرية عن الحياة والموت، والتناقضات بين القرية والمدينة، وهموم الفرد تحت وطأة التغيرات المتسارعة واحتياجاته الملحة.
أثر الطقوس التي تحفل بها القرية، ظل يلمع في قصصة القصيرة، الممتدة لنحو 12 قصة، لاسيما طقس الميلاد والموت. كما أن الطفولة لدى صاحب: “مدينة الموت الجميل”، هي إحدى الحيل الفنية التي اعتمد عليها لخلخلة سلطة الموروث، وتبديد الثابت، وتجاوز المرجعيات الكبرى، أو “قتل الأب” الذي شغله وجيل الستينات.
احتفظت قصصه القصيرة بطازجية وخصوصية استثنائية، وبنفس الدرجة، قدرة على ملء إحساسك بالدهشة، لطالما عرج إلى متاهة الأحلام والسر، وهو يتنقل بين الموت وصور الراحلين، والقلق الذي يجوس مثل طائر بين الأحداث، مثلما فعل الطفل “عبد المولى” في قصة “تلة الغجر”، الذي قاوم وصية جده وتحذيراته بعدم من الذهاب إلى التلة، وتجاسر على الخروج من أسره، وخاض التجربة التي هي البحث عن المعرفة الغائبة، ومساءلة الواقع، الخفي والسري والغامض.
في القصة الأخيرة التي مزجت أحداثها بلغة شعرية، مضى صاحب: “سدرة المنتهى” إلى بناء عالم فني، يحفل بالرموز والمعاني شديدة التكثيف، والتي لا تعنى بالغموض الفلسفي المباشر، لكنها تخلق مساحات أو طبقات عديدة للتأويل، مع الاحتفاظ بحيوية النص وقدرته على الإمتاع.
وحتى مقاربته للأحداث مع الطفل الذي صعد إلى تلة الغجر، وبيده فانوس رمضان، ليبدد به ظلام الليل، بما جرى مع النبي محمد، بدا بسيطاً وهادئاً، حيث حاول من خلال أنسنة التراث، ووضع القصة في مستوى أسطوري وملحمي، أن يقدس الشقاء وراء كل معرفة غائبة. لذا فتح الغجري بطن “عبد المولى”، وأخرج قلبه وغسله بماء الورد والمسك، وضربت الجماعة الدفوف لتهبط الملائكة في رمضان.
شكلت عدة محطات سيرة الكفراوي مع الكتابة، وهي سيرة لم تكن سهلة، على كل حال، وصعوبتها تتصل بجملة وقائع وأحداث، لاسيما الفترة السياسية والتاريخية التي جمعت جيل الستينات، والذين نزحوا من الريف والصعيد إلى القاهرة، مثل محمد عفيفي مطر، وأمل دنقل، وإبراهيم أصلان، بينما كانت العاصمة مازالت تحتفظ بميراث الفترة الليبرالية، وتأثيراتها على المسرح والقصة والرواية وباقي الفنون.
بيد أن جيل الستينات الذي عاش “بواقي” زمن الليبرالية، كما يقول الكفراوي، قد تكبد انكسارات أحلامه السياسية والاجتماعية، مع هزيمة يونيو 1967، كما “عاش في مواجهة حقيقية مع المظالم التي انتهت في معظم الأحوال بالسجن، مثلما حدث مع أحمد فؤاد نجم، ونجيب سرور، وزين العابدين فؤاد”.
والأمر ذاته تعرض له الكفراوي، قبل وفاة عبد الناصر، في العام 1970، حيث قضى ستة أشهر في السجن، على إثر نشر قصة في مجلة “سنابل”. واللافت أنه “كان يتم التحقيق معه صباحاً باعتباره شيوعيا، وليلاً باعتباره إخوانيا”، حسبما يقول، وهي المفارقة التي سردها بعد خروجه من السجن أثناء لقائه بنجيب محفوظ، في مقهى “ريش”، يخلدها الأخير في شخصية “إسماعيل الشيخ” بطل رواية “الكرنك”.
“اختطف الموت من بيننا كاتباً مرموقاً وإنساناً أحبه الجميع هو سعيد الكفراوي”، بنبرة حزينة، يحكي القاص والمترجم المصري، الدكتور أحمد الخميسي عن الكفراوي الذي جمعته به صداقة ممتدة منذ عقود.
“كان رحيله خبراً فاجعاً على كل المستويات. الكفراوي شكل أحد أضلاع مجموعة “المحلة” الثقافية التي ضمت الدكتور جابر عصفور وجار النبي الحلو والمنسي قنديل، وقد ترك كل منهم أثراً كبيراً في الأدب والثقافة” يضيف الخميسي لـ”مصر 360″:
الكفراوي من جيل الستينيات الذي عاش على قمم الأحلام وفي قاع الانكسار، كما يصفه الخميسي؛ إذ كان الجيل الوحيد الذي أتم دورة كاملة، وفي تلك الدورة كان اهتمام الكفراوي الخاص بالعالم المتواري المخبوء للقرية المصرية، بفلاحيها وتقاليدها وأسرارها. وشغلته أيضاً قضايا فلسفية كبرى، برزت في أدبه، خاصة، سؤال الموت والزمن.
“المدهش، أنه لم يكتب سوى القصة القصيرة، وأخلص لها وحدها مثلما فعل محمود البدوي، وله في ذلك سبع مجموعات قصصية شكلت علامة بارزة في فن القصة، وخلال رحلته الإبداعية جرفه مثل كل كتاب الستينيات الهم الاجتماعي، وآمال العدالة والتطور في وطن كريم. وعليه، فإن فقدانه يمثل خسارة كبيرة على المستوى الأدبي، ومؤلم على المستوى الإنساني. تبقى أعماله ويظل إبداعه”. يقول الخميسي.