قبل ثلاثة عقود، عمل بالعراق نحو 5 ملايين مصري، انغمسوا بالمجتمع المحلي، وتعاملوا بذكاء مع تعقيداته الإثنية والطائفية، قبل أن يدخلوا ضمن لعبة الاعتبارات السياسة.
أما الآن، فيعمل نحو 100 ألف مصري بمهن تقليدية، أغلبهم في بغداد، وفقًا لشعبة إلحاق العمالة في غرفة تجارة القاهرة.
في أكتوبر الماضي، وقع رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، مع نظيره العراقى، 15 اتفاقية، تحاول مصر بها المشاركة في إعادة استكشاف العراق مجددًا، تمهيدًا لعودة العمالة المحلية إليها، استغلالاً لعلاقات التقارب الشعبي بين البلدين، مع توارث المصريين نوستالجيا العمل هناك وثروات العصر الذهبي (الثمانينيات).
وتشير توقعات اقتصادية إلى أن أعداد المصريين بالعراق مرشحة للارتفاع، بعد زيارة رئيس الوزراء المهندس مصطفى مدبولي بغداد أخيرًا، صحبة مجموعة من المستثمرين، واتفاقه مع المسؤولين هناك على استحداث آلية النفط مقابل الإعمار.
ذكريات الماضي
حتى 1985، بلغت ذروة العمالة المصرية بالعراق 5 ملايين، كان أغلبهم من عمال البناء، مع مجموعات أقل عددًا في مجالات التدريس والزراعة والبترول، قبل أن يتقلص العدد بفعل سلسلة الحروب التي دخلتها الدولة العراقية.
لم يشعر المصريين بالتمييز الديني في العراق، إلا في نطاق محدود عام 2013، حينما تم الهجوم على تجمع للشيعة في قرية “زاوية أبو مسلم” التابعة لمركز أبو النمرس بالجيزة، وقُتل الشيخ شحاتة، وهو ما أعقبه تعرض عدد من مصريي العراق للتنمر والسُباب، لكنه لم يمتد إلى العنف الجسدي إلا في أربعة حالات فقط، بحسب الشرطة العراقية.
يملك المصري ناصر أبو عبدالله، عربة كبيرة لبيع المأكولات الشعبية المصرية في بغداد منذ ٣٠ عامًا، شهد خلالها امتلاء الشوارع بالمصريين والثروات التي جنوها، واختفائهم بعد حرب الخليج، لكنه لا يفكر في العودة، فجمهوره من العراقيين لم يتغير.
تعج صفحات التواصل الاجتماعي العراقية حاليًا بمصريين يبحثون عن فرص عمل، أو طلب منهم، مع سمعة قديمة عن جودة العامل المصري وقبوله برواتب منخفضة نسبيًا، وسهولة التعامل معه وتوجيهه على عكس الهنود.
ويترقب ناصر، الذي يبيع الكشري والفول والكبدة، بشوق عودة العمالة المصرية للعراق، بعد الحديث عن مشاركة القاهرة بقوة في إعادة الأعمار، وهو لا يشعر بالغربة، لكن لهجته تبدلت فأصبحت مصرية عراقية.
فرص الاستثمار بالعراق
ويحتاج العراق حاليًا إلى محطات لتحلية المياه، بعدما أصبح يعاني أزمة في مياه الشرب، بعد اكتمال مجموعة السدود التركية “أليسو ” و”سيليفان” في شمال ديار بكر و”الجزرة” جنوبي سد إليسو، وهو مجال بدأت مصر تكتسب فيه خبرة على مدار السنوات الست الماضية.
كما يعاني العراق أيضًا أزمة سكن متفاقمة؛ إذ تُقدر الفجوة السكنية بنحو 3 ملايين وحدة، ترتفع باستمرار مع وجود طلب يتمثل في 850 ألف زيجة جديدة سنويًا.
“أسست بيتي من الحوالات الصفراء”؛ يقول النجار العجوز عطية النادي، الذي عمل في العراق ١٤ عامًا، يصفها بأجمل أيام حياته.
يتنهد الرجل حينما يتذكر تلك الفترة، ويضيف: “فتحت باب رزق للمئات في قريتي بالغربية”.
عادت العمالة المصرية إلى العراق في 2016 مجددًا بعد انقطاع دام أعوام، عقب أحداث عام 2003، بعد زيارة وزير الخارجية العراقي الأسبق إبراهيم الجعفري، وإعلانه إلغاء تأشيرة دخول المصريين إلى بلاده، وتسويته ملف الحوالات الصفراء للمصريين العائدين من العراق بقيمة 2.5 مليار جنيه، لنحو 637 ألف مستحق.
ويفضل العراق العمالة المصرية لمرونتها ووسطيتها بعيدًا عن التعصب الديني وحساسيات المذهبية، والعلاقات بين الشعبين، واتسامهم بطابع متحفظ فيما يخص الطباع والعادات والتقاليد.
وكشف استطلاع رأى أجرته السلطات العراقية عام 2017، أن 85 % من مواطني المحافظات الجنوبية يفضلون التعامل مع المصريين، بسبب الصورة الذهنية للعمالة المصرية في الثمانينيات، والتي انعكست في علاقات الزواج بين الشعبين.
ووضعت السفارة العراقية بالقاهرة قائمة بالفرص الاستثمارية المتاحة أمام القطاع الخاص المصري لدخول السوق العراقية، وتضم 76 فرصة بأنظمة متباينة ما بين التأهيل والتطوير والمشاركة مع الحكومة أو القطاع الخاص.
وتتضمن القطاعات التي شملتها الدراسة: النسيج، والملابس والجلود، والدباغة، والصناعات الإنشائية والمعدات، ومكونات كهربائية، والزجاج، والحراريات، والتعدين، والصناعات المطاطية، والبتروكيماويات، والأدوية ومستلزماتها، والحديد والصلب، والإسمنت.
النفط مقابل الإعمار
ووفقًا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، بلغت واردات مصر من المنتجات البترولية خلال عام 2019 الماضي 9 مليارات و42 مليون دولار، بينما بلغت صادراتها 4 مليارات و907 ملايين دولار بفضل صادراتها مصر من الغاز الطبيعي المسيل، التي بلغت 1.2 مليار دولار.
وأعاد اتحاد الغرفة التجارية المصرية لجنة لحصر المشاريع التي يوفرها العراق، وآليات التمويل المتاحة من البنوك والصناديق الإنمائية، بعدما شارك بوفد ضم نحو 81 من كبرى الشركات المصرية بمجالات الصناعة والتجارة والمقاولات والبنية التحتية، في الزيارة الأخيرة لمدبولي.
ووفقًا لدراسة لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، نشرتها وكالة الأنباء الكويتية، فإن العمالة المصرية بالعراق كانت تدر دخلاً لمصر قيمته أكثر من مليار دولار سنويا قبل عام 1990 لكن ما تبقى منهم بالعراق يعاني الفقر، بدخل قد لا يتجاوز دولارين في الشهر.
ويتوقع خبراء أن يكون لقطاع البناء والتشييد حصة الأسد من التعاون بين مصر والعراق، وهو ما ينتظره المقاولون المصريون بشغف، على اعتبار أن الشركات الضخمة التي يتوقع خوضها الاستثمار هناك مثل المقاولون العرب تعطي عقودًا من الباطن للصغار لسرعة الإنجاز.
خبرة العمل التي سبقت حرب الخليج
ويقول عبدالمجيد جادو، الخبير العقاري، إن الشركات المصرية تمتلك القدرات الفنية التي تؤهلها للاشتراك بقوة في عقود إعمار العراق، إلى جانب امتلاك المصريين خبرة طويلة في العمل هناك في الفترة التي سبقت حرب الخليج.
ووفقًا لوثيقة للبنك الدولي للإنشاء والتعمير، فإن البنى التحتية الخاصة بنقل وتوزيع الكهرباء ذات الجهد المرتفع – المتوسط – المنخفض تعرضت لتدمير أو خلل جزئي في العراق، في فترات سيطرة تنظيم داعش على أجزاء من أراضيه، وهي شبكة كانت تعاني أساس من مشكلات منذ الحروب العراقية، وانخفاض الطاقة الإنتاجية إلى (3300) ميجاوات فقط، بينما يصل الطلب إلى 7500 ميجاوات.
ويعتبر “جادو” العراق فرصة استثمارية للاقتصاد المصري بتوظيف العمالة، وفتح آفاق لتصدير العقار المصري، خاصة في ظل تواجد كبير للجنسية العراقية بمصر، في أحياء مثل أكتوبر.
ووفقاً لمؤتمر إعمار العراق عام ٢٠١٨، فإن بغداد تحتاج لنحو 100 مليار دولار، وتراهن مصر على امتلاكها الخبرات والمهارات الفنية والإنشائية والقوة البشرية المدربة على تنفيذ المشروعات العملاقة التي تؤهلها لاقتناص حصة كبيرة من تلك العقود.
ويعاني قطاع النقل في العراق من مشكلات متفاقمة جراء التدمير وغياب الصيانة، رغم امتلاكه 40690 كيلو متر من الطرق البرية و2465 كيلو متر من السكك الحديدية ومطارين دوليين هما بغداد والبصرة، وثلاثة مطارات محلية هي الموصل وكركوك وأربيل، و(6) موانئ للبضائع واثنين للبترول و1156 جسرًا.
وتعتزم بغداد والقاهرة إنشاء منطقة لوجيستية للبضائع المصرية ومركز تجاري للمنتجات المصرية، وزيادة الصادرات المصرية للعراق، الذي يمثل سوقًا استهلاكية ضخمة في ظل عدد السكان الكبير.
ووفقًا لاتحاد المقاولين العرب، فإنه وجه خطابًا إلى وزير التخطيط العراقي لتيسير آليات دخول شركات المقاولات العربية في المنافسة على المشروعات التنموية المطروحة بالدولة لإعادة إعمار العراق الذي بدأ في طرح عدد من المشروعات التعمير.
وتزاحم بعض الشركات الأجنبية على تلك العقود، ما يستلزم بحث فرص لشركات المقاولات العربية للاستفادة بحجم الأعمال مستقبليًا، ومنحها الأولوية في المنافسة على المشروعات بالأسواق العربية.
التشييد والبناء أهم القطاعات
ويقول الخبير الاقتصادي الدكتور وليد جاب الله إن قطاع التشييد والبناء من أهم القطاعات التي يمكن أن تشارك فيها الشركات المصرية في العراق، ثقة في العامل المصري،
وتغيرت معاملة المصريين في الشارع العراقي منذ طرد القوات العراقية من الكويت، وحدثت اشتباكات بين الطرفين، انتهت بمقتل عشرات المصريين وعودة كثير منهم بعد التخلص من الممتلكات التي اشتروها.
محمد هاشم، أحد الشهود على تلك الفترة بعدما عاد لمصر بخفي حنين بعد فترة ١٣ عامًا في بغداد، نجح خلالها في امتلاك محل كبير للذهب، لكن حينما اندلعت الحرب تم تدمير المحل ونهبت ممتلكاته.
ورغم استقراره في القاهرة منذ سنوات، لكنه يريد العودة إلى العراق مجددًا، ويقول إنهم شعب شبيه بالمصريين في كثير من الطباع والعادات، متيقنًا من أنه يستطيع إعادة بناء نفسه هناك بصورة أسرع من العمل بالقاهرة.