شهدت قاعة حفلات “أولاد العم” بالجيزة، احتفال جمعية محبى الموسيقار فريد الأطرش، السبت الماضي، بذكرى وفاة الفنان محمد فوزي (15 أغسطس 1918 – 20 أكتوبر 1966)، بحضور حفيدته ميادة الحو  وشقيق الفنانة مديحة يسري.

فوزي واحد من المجددين في عالم الموسيقى العربية، ويشار إليه بأنه معلم الاجيال والمحرك لبوصلة الفن المصري في حقبة مهمة شهدت بزوغ نجم الموسيقى المصرية وسيطرتها على الساحة العربية إذ عرفت مصر بـ”هوليود الشرق”.

في صيف العام 1918، وبأحد منازل قرية “كفر أبو جندي” التي تتبع مدينة طنطا بمحافظة الغربية، وُلد “عبقري الموسيقى العربية”، محمد فوزي واسمه الحقيقي “محمد الحو”، ذلك الشاب أسمر اللون هادئ الملامح الذي تحمل تعبيرات وجهه الكثير من المرح والدعابة وكذلك نبرات صوته الرنانة التي ارتبطت في أذهان كل من عرفوا بهذا الشاب “المطرقع” الذي يذوب الفتياب حبًا في خفته غير المتناهية.

لم يكن لأسرته تاريخًا موسيقيًا يذكر، فهو الطفل الريفي والأخ لأربعة وعشرين أخ وأخت، الذي لا يشغل بال أهله سوى أمر واحد فقط، أن يتعلم الابن ويحصل على درجة علمية عالية فحسب، ولكن كان للابن حلم موازِ.

كلمة السر “عسكري مطافي في الموالد الشعبية”

وعرف فوزي طريق الموسيقي على يد عسكري مطافي يُدعى “محمد الخربتلي”، كان على علاقة وثيقة بعائلة فوزي، لمس منذ البداية تعلق الطفل الأسمر هادئ الملامح بالموسيقى، قرر أن يصطحبه معه في الموالد والأفراح الشعبية التي كان يقوم بإحيائها في محيط محل سكن فوزي، وعلى مضض وافق الأب المحافظ،.

بدأ فوزي يذهب مع الخربتلي في كل مولد  شعبي أو أمسية شعبية هنا أو هناك، حتى جاء عام 1938 الذي كان الحاسم في حياة هذا الصبي، فقط انتقل برفقة الخربتلي إلى القاهرة، عانى الفقر وعدم القدرة على التسليم لليأس في الوقت ذاته فترنح بين هذا وذاك، حتى استقر به المقام في فرقتي “فاطمة رشدي” و”بديعة مصابني”.

المرحلة الحاسمة

عام 1944 كان المرحلة الحاسمة الثانية في مسيرة فوزي القصيرة والتي لا تتعدى الثمانية والأربعين عامًا، فقط تمسك بفنه وظل يغني في فرقة بديعة مصابني، حتى دفعه القدر للقاء الفنان الراحل والمخرج يوسف وهبي، لمس فيه القدرة على التمثيل وليس الغناء فحسب، فسنحت له الفرصة من خلال طرق هذا الباب أن قدم أول أفلامه السينمائية وكان “سيف الجلاد”، وأخرج وهبي هذا الفيلم.

وبعد أن تمكن محمد فوزي من تأدية الدور كما رسمه يوسف وهبي في مخيلته، بدأت الأدوار والأفلام تتوالى على محمد فوزي، حتى يصل مجموع أفلامه الذي وصل إلى أكثر من 35 فيلمًا ذا طبيعة غنائية استعراضية، من خلال ثنائي سينمائي فريد كونه مع الراحلة “مديحة يسري” التي أصبحت زوجته بعد ذلك.

ومن أهم أفلامه كان “شاطئ الغرام” و”كل دقة في قلبي” و “فاطمة وماريكا وراشيل” الذي يعتبر من أهم فلام محمد فوزي والذي لاقى منذ عرضه في السينمات المصرية والعربية في حقبة الخمسينات الكثير من الرفض بين أوساط المجتمعات اليهودية بعد أن تم وصف الفيلم بـ “المُعادي للسامية”. 

“مصر فون”.. بوابة العبور للموسيقى الأجنبية بـ 35 قرشًا 

محمد فوزي وصفه الكثير من النقاد الممصريين والعرب، بأنه الموسيقي المصري الذي يحتل المرتبة الثالثة من حيث التجديد الموسيقي أو ما يمكن أن نطلق عليه “الثورة الموسيقية المجددة”،.

كان الأول في كل شيء كما يصفه النقاد، أول من غنى للأطفال أغنيات عاشت معنا لأكثر من ستين عامًا، ولانه كان فنانًا شاملاً يغني ويلحن وينتج الأغنيات والأفلام من خلال شركته التي أسسها في نهاية الخمسينات وأطلق عليها اسم “مصر فون”.

فقد كانت له الحرية بحلول حقبة الستنيات أن يدخل على الموسيقى المصرية، موسيقى غربية ويمزجهما معًا في أغنية مميزة مازالت عالقة في أذهان الكثيرين صغارًا وكبارًا، أغنية “يا مصطفى”، فقد كانت خليطًا بين الموسيقى الشرقي والغربي، والتي غناها “بوب عزام” ولحنها فوزي.

ولاقت هذه الأغنية رفضًا كان شبه قاطعً من مجلس قيادة الثورة، حيث وجد بعض قيادته في الداخل أن مصطفى إشارة إلى الزعيم “مصطفى النحاس” و”سبع سنين في العطارين” تشير إلى مرور سبع سنوات على انطلاق ثورة يوليو 1952، ووصف البعض حينها هذا الرفض بـ”الغريب”.

ولكن هذا لم ينجح في أن يثني فوزي عن استكماله لمسيرته كمجدد ثالث للموسيقى العربية بعد سيد درويش ومحمد عبد الوهابا، فأصبحت “مصر فون” التي تأسست في عام 1958،  تنتج أغنيات لكبار المطربين في العالم العربي على رأسهم أم كلثوم وعبدالوهاب.

وبعد أن تفرغ فوزي لإدارة الشركة، حرص على أن يستمع كل بيت مصري للموسيقى الأجنبية كما كان الحال في الموسيقى العربية، فبعد أن كان هذا النوع من الموسيقى قاصرًا على النخبة فقط حيث تباع الإسطوانة بتسعين قرشًا أو يزيد، أصبحت تباع في مصر فون بـ 35 قرشًا. ليس هذا فقط فقد أصبحت الأفلام تُتح محليًا  بدلًا من السفر لليونان وباريس للإنتاجها.

علاقة صداقة أودت بحياة محمد فوزي وقادته للهلاك

في عام 1961 وبعد مرور ثلاث سنوات على تأسيس مصر فون، خرج إعلانً مدو في هذ الوقت يشير إلى تأميم شركة مصر فون وجعلها مملوكة للدولة لا لشخص محمد فوزي وسُميت باسم “صوت القاهرة”، في حين تم الإبقاء على محمد فوزي مديرًا لها نظير مبلغ 100 جنيه، لم يستطع فوزي الاستسلام لهذا القرار وفي نهاية المطاف لم يجد أمامه سوى القبول الأمر الذي كلفه حياته، فقد دخل في نوبة اكتئاب حادة أدت إلى إصابته بمرض نادر لم يجد الأطباء علاجًا ناجعًا له، فيما أطلق عليه البعض اسم “مرض محمد فوزي” ضرب بعظامه وعضلاته وأفقده الكثير من وزنه، حيث كان يزن في أيامه الأخيرة حوالي 40 كيلو جرامًا.

اقرأ أيضا:

ثورة يوليو.. القوة الناعمة إرث مصر الضائع

وثائق خاصة.. لم يكن من هواة السياسة لكنها أحرقته

بريحيله المُخزن الذي كان في عام 1966، ظن البعض أن صفحة محمد فوزي قد طُويت للأبد، إلا أن الأمر لم يكن كذلك، ففي كتاب يحمل اسم “محمد فوزي.. الوثائق الخاصة”، يكشف المؤرخ الفني أشرف غريب السر وارء تأميم “مصر فون” وما أسماه باضطهاد عبد الناصر لمحمد فوزي، حيث يقول في بداية حديثه عن محمد فوزي: “لم يكن من هواة السياسة، لكنها أحرقته”، بالتزامن مع الذكرى الـ100 لميلاد الراحل محمد فوزي، وتحديدَا في العام 2018، تم إصدار هذا الكتاب الذي وصفه مؤلفه بالوثيقة التاريخية للفنان الراحل.

محمد فوزي وجمال عبد النصر .. أرشيفية

وتطرق غريب في كتابه إلى علاقة صداقة قوية جمعت بين فوزي والرئيس الراحل محمد نجيب، الذي عارض المشروع الناصري وما كان يسعى إليه مجلس قيادة الثورة، بعد إصراره على إقصاء الجيش من الحكم، فتم وضعه تحت الإقامة الجبرية في خريف عام 1954، بإحدى استراحات منطقة المرج بالقاهرة، يضيف :”انتقموا من محمد فوزي لا لشيء، إلا لصداقته القوية بالرئيس محمد نجيب”.

ولأن فوزي كان بعيد كل البعد عما يدور داخل أروقة القصر الرئاسي آنذاك، فقد دافع بقوة عن كافة مشروعات محمد نجيب وآرائه، لكنه لم يجد من القيادة الحاكمة حيذاك إلا التعسف والإقصاء وأخيرًا “الاضطهاد”، بالرغم من حرص محمد فوزي على أن يخصص جزءًا من أرباح شركته للتبرع بالإصلاحات التي كان يقوم بها نظام جمال عبدالناصر، ومنها تبرعه بمبلغ مالي في عام 1956 للتطوير مدينة بور سعيد بعدما تضررت جراء العدوان الثلاثي.

الحفيد ينفي

الدكتور منير محمد فوزي، أحد أبناء الراحل والذي يعمل طبيبًا بشريًا في عيادة يقع مقرها بأحد شوارع مصر الجديدة، نفى ما سماه البعض بالوثائق التي تثبت اضطهاد الرئيس جمال عبدالناصر لمحمد فوزي.

 

وقال منير: “كان أمرا طبيعيا أن تأخذ الدولة بعض الأموال من الناس لكي يعاد بناءها، شخصنة الأمر وتسييس محمد فوزي هو أمر مرفوض نهائيا، حتى شركات محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ اللتان تم الادعاء أنهما لم يتأمما وتأممت شركة محمد فوزي فقط، هذا أمر غير صحيح اطلاقا، لأن التوقيت لم يكن واحدا، هم أسسوا شركاتهم بعد محمد فوزي بعدما أسس “مصر فون”، وبغض النظر عما تم ولماذا تم، فهو لم يستخدم ذلك في الهجوم على مصر ورموزها”.

على العكس من ذلك ووفقًا لمنير، فالعكس هو ماحدث حيث كان فوزي يغني أغنيات وطنية في حب مصر، وأنفقت الدولة عليه في مرضه وأرسلته للعلاج في الخارج، وفي طريق عودته غنى لمصر جيت لك يابلادي من بعيد، حتى آخر لحظة فيه حياته كان يحب مصر ويغني لها”.