غادر “الولد الأسمر” محطة الزقازيق متوجهًا إلى القاهرة، مستقلًا قطار السادسة صباحًا، لأداء اختبارات القبول بالمعهد العالي للفنون المسرحية، للمرة الثانية، لم يغادره القلق حتمًا، فتجربة إخفاقه في العام الماضي أمام لجنة المعهد، لا زالت مرارتها عالقة بطرف لسانه.

لكن شيئا ما مختلف هذه المرة، فالشاب النحيل بدا أكثر صلابة، فخلال عام كامل ظل “يقاوم” خيبته، يتسلح بأدوات معركته التي يعرف أنها آتية، أو بالأدق هو من سوف يذهب إليها، كان قلِقًا ولكنه ليس خائفًا.

بدا أن روحه حملت سر انطلاقها، فمقاومة أحمد زكي، لإخفاقه في اختبارات المعهد، نجحت في تخطي اختبار العام التالي 1969، بعدما أبهر لجنة المعهد، للدرجة التي جعلت أعضائها يطلبون منه أداء مشاهد إضافية بعد أدائه لمشهد بالعامية وآخر بالفصحى كما هو متبع في اختبارات المعهد العالي للفنون المسرحية، بل وقال له أحدهم “إذهب أنت ناجح”، وهي من المرات النادرة التي يعرف فيها أحد المتقدمين للاختبار نتيجته، كما يخبرنا أحمد زكي في أحد أحاديثه الصحفية.

مقاومة المجتمع

“المقاومة” ستكون الخيط الذي سيربط أحمد زكي بفنه وجمهوره على مدى 34 عامًا من مشواره الفني، والمقاومة ليست مرتبطة في مشوار “أحمد سبع الليل” الفني، بمقاومة النظام المستبد فحسب، بقدر ما هي مرتبطة بمفهوم أوسع للسلطة، سلطة مجتمع المظاهرـ المنافق، التي يقاومها “إبراهيم صالح” بالكذب – طريقته الخاصة، في “إني لا أكذب ولكني أتجمل”، وسلطة الفقر التي يقاومها “محمد حسن المصري” بالفرار إلى ألمانيا في “النمر الأسود”، والتي سيكون عليه عند وصوله إليها، مقاومة سلطة “العنصرية” التي ستواجهه في بلاد عانت من الحكم النازي، وعانت منها شعوب عديدة بسبب هذا الحكم، وسلطة “العمى” التي يقاومها ويقهرها “طه حسين” في “الأيام”.

 السينما الواقعية

إذن، فليس من الغريب أن يرتبط اسم أحمد زكي بأفلام الحقبة الثانية من السينما الواقعية، فيلعب دور “شكري” أمام سعاد حسني، في فيلم “موعد على العشاء” لمحمد خان، والذي كتب قصته أيضًا خان، مستوحيها من حادثة تناولتها الجرائد، عن تسميم زوجة لزوجها، بعد دعوته على العشاء، لتموت معه بعد مشاركته الطعام، وهو الفيلم الذي كتب له السيناريو والحوار السيناريست الفذ بشير الديك.

وإن كان “موعد على العشاء” تدور أحداثه حول شخصية “نوال” الفنانة سعاد حسن، إلا أن شخصية “شكري” كانت شخصية تجسد مقاومة رومانسية، لظروف قاسية، وجد “الكوافير” البسيط نفسه غارقًا فيها، بعد حبه لنوال والزوج منها.

العوامة 70

في عام 1982، يدخل أحمد زكي تجربة المخرج خيري بشارة “العوامة 70″، لعب زكي في هذا الفيلم شخصية “أحمد الشاذلي” مخرج الأفلام الوثائقية، والذي تدفعه الظروف للعمل على فيلم عن أحد محالج القطن، يتواصل معه “عبد العاطي” الفنان أحمد بدير،  أحد العمال بعد التصوير ليطلعه على حقيقة ما يحدث في المحلج من فساد ونهب للمال العام، وبعد اتفاق “أحمد الشاذلي” وخطيبته الصحفية “وداد عبد المنعم” الفنانة تيسير فهمي، مع “عبد العاطي” للذهاب لقسم الشرطة للإبلاغ عما يجري من فساد داخل المحلج، يقتل “عبد العاطي” فيحاول “أحمد” وخطيبته مقاومة تيار الفساد، ليصتدما بأزمة جيلهما جيل السبعينيات، وأزمة نظام سياسي واجتماعي يغرق يومًا بعد آخر في بركة وحل.

 

“رجل السينما والانتقاد” .. أحمد زكي صاحب الرؤساء ..وضد الحكومة

في “الراقصة والطبال” عام 1984 يواجه “عبده الطبال” الفنان المؤمن بموهبته، وبقدرة إيقاع طبلته على أن تصبح بمفردها أداة لشكل مكتمل من الفن، بعد تمرد تلميذته “مباهج” الفنانة نبيلة عبيد – راقصة الموالد، التي علمها كيف تصنع من حركات جسدها لوحة فنية، لا إشارات جسدية تداعب عيون السكارى وشهواتهم، محاولًا مقاومة عالم “هريدي أبو الهدد” الفنان محمد رضا، المقاول الذي يُعجب “بمباهج” يغدق عليها الأموال ويُنشئ لها فرقتها الخاصة، ظل “عبده” يقاوم بإيقاعه في “الراقصة والطبال” حتى لحظات انهياره الأخيرة.

البرئ

استمرت شخصية المقاوم في سينما أحمد زكي، في “البرئ” لعاطف الطيب، عام 1986، كواحد من أجرئ الأفلام في تاريخ السينما التي عرت السلطة، فنجد هذا الفلاح البسيط، المجند، الذي أوهموه أن عليه محاربة أعداء الوطن معهم، قبل أن يكتشف زيف كلامهم، عندما يجد أحد هؤلاء الأعداء الذين يتحدثون عنهم، هو “حسين وهدان” الفنان ممدوح عبد العليم، الطالب الجامعي، المثقف والثائر، ابن بلدته الذي يفتح عيونه على معرفة الحياة، ليتمرد “أحمد سبع الليل” على تعليمات ضابط المعتقل “العقيد توفيق شركس” الدور الذي أداه الفنان محمود عبد العزيز ببراعة شديدة.

 

 

يرفض “سبع الليل” ضرب “حسين وهدان” وتعذيبه، ليسجن معه، ثم يخرج ليكمل مدة تجنيده، فيقرر مقاومة الاستبداد، بالسلاح الذي سلموه له لممارسة هذا الاستبداد، فيطيح ببندقيته الآليه فيقتل “شركس” وعدد من ضباط المعتقل وهي النهاية التي اعترضت عليها الرقابة، ليتم تغييرها بنهاية آخرى حيث يطلب “أحمد سبع الليل” من زميله مناولته الناي وقبل أن يعزف به، يشاهد “العقيد توفيق شركس” وهو يستقبل دفعة جديدة من المعتقلين ليتنطلق صرخة “أحمد سبع الليل” مع صوت عمار الشريعي: “الدم اللي في إيديا.. بالليل ينده عليا.. ويقولي قتلت مين.. ويقولي يا إنسان تفرق السجان ازاي من السجين.. قلبي اللي كان بريء زي الطير الطليق.. ازاي ضلت عيونه لما شاف الطريق.. آه يا عيون بريئة.. مين بدل الحقيقة.. ومين قلب المعاني قدام عيني فـ دقيقة”.

 

ضد الحكومة

“مصطفى خلف” مقاوم آخر في “ضد الحكومة” لعاطف الطيب، مقاوم عائد للوقوف ضد السلطة التي كسرته وحولته إلى محامي فاسد يقتات على قضايا التعوبضات، عاد من خوفه وانكساره بعد اصطدمه كما يصف في المرافعة الشهيرة في أحد مشاهد الفيلم “بحالة شديدة الخصوصية” عندما اكتشف أن أحد المصابين في حادث اصطدام أتوبيس مدرسة بقطار، هو ابنه الذي لم يكن يعرفه، يقف مطالبًا بمحاكمة المتسببين الحقيقيين في الحادث وهم وزير النقل ووزير التعليم ورئيس السكة الحديد، لا سائق القطار أو عامل التحويلة، يستمر في المطالبة بمثول أعضاء الحكومة أمام القضاء، مقاومًا كل أشكال الترهيب التي تعرض لها من اعتقال وتعذيب ومحاولات قتله.

هكذا استمرت أشكال المقاومة المختلفة لشخصيات أحمد زكي في الهروب، ومستر كارتيه، والرجل الثالث، وولاد الإيه، وحسن اللول والبطل، وهيستريا، وأضحك الصورة تطلع حلوة.

نماذج مقاومة جسدها أحمد زكي بصدق وعمق شديد، بتماهي وتوحد مع الشخصيات من الصعب أن يضاهيه فيه فنان آخر في السينما المصرية، فقد غاص أحمد زكي في شخصيات أفلامه وأبعادها الاجتماعية والنفسية، تلبسته هذه الشخصيات وأسكنته تقلباتها المزاجية وحالتها النفسية، بل وآلامها الجسدية، وأمراضها، للدرجة التي جعلته يصاب بتقلصات عصبية غريبة في القولون، تحير فيها طبيبه، أثناء أدائه دور “العقيد هشام أبو الوفا” في فيلم “زوجة رجل مهم” كما روى أحمد زكي بنفسه في برنامج “لسه فاكر” مع المذيعة نهال كمال.

مهما حاولنا فلن يمكننا تغطية الجوانب الإبداعية للفنان العظيم أحمد زكي، والذي تحل ذكرى ميلاده اليوم 18 نوفمبر، لكننا نستطيع أن نقول دون أي تردد أنه نجم سينما المقاومة وفارسها العظيم.