تركت التونسية آسيا رشيد مدرستها مضطرة دون استكمال تعليمها، بعد فقدان أسرتها عائلها الوحيد، الأب الذي توفي في سن مبكرة.

ارتبكت حياة آسيا وشقيقاتها، اللاتي قذفت الاحتياجات الأساسية بهن إلى الحياة العملية، وأجبرن على زواج مبكر، يخفف عن الأم أعباء مصروفاتهن.

رشيد، تبلغ من العمر ٣٦ عامًا، متزوجة ولديها ولدين، وهي الأخت الصغرى لأربع فتيات لم تستطع أيًا منهن إكمال تعليمها بعد وفاة الأب.

حاولت آسيا إكمال تعليمها بعد فترة من زواجها، لكن إنجابها المبكر لم يمكنها من توفيق أوضاعها، فاستغنت عن حلمها لتحقيق آمال أبنائها.

حالة آسيا لم تكن الوحيدة في تونس، إذ يقدر عدد المنقطعين عن الدراسة سنويًا بنحو 100 ألف تلميذ، لا يملكون أي مؤهلات تساعدهم على الاندماج في سوق العمل.

ووفق الإحصاءات الرسمية التي أعلنت عنها الدولة، يزداد أعداد المتسربين من التعليم بسبب ارتفاع نسبة الفقر.

تقول آسيا: “اضطررت للعمل في سن مبكرة لتوفير أبسط مطالب الحياة قبل زواجي، مع الأخذ في الاعتبار أن التعليم في تونس مكلف جدًا مقارنة ببعض الدول الأخرى”.

هذا الأمر أكده مدير عام الدراسات والتخطيط ونظم المعلومات في وزارة التربية بتونس بوزيد النصيري، موضحًا أن 5.2% من مجموع التلاميذ في مختلف المراحل الدراسية يغادرون المؤسسات التعليمية سنويًا، بسبب الفقر.

وأشار إلى أن الوزارة تبذل جهودًا من أجل مكافحة الظاهرة التي يتوقع ارتفاع نسبتها.

أوضح النصيري أيضًا أن 60 % من الانقطاع المدرسي يتم بشكل طوعي نتيجة عدم قدرة الأهالي على تحمل مصاريف الدراسة، أو لأسباب نفسية تتعلق بالتلاميذ أو ظروف تهم العائلة، مع الأخذ فى الاعتبار أن “الإناث أكثر تمسكًا بالتعليم في تونس من الذكور بنسبة تتجاوز الـ 56 %”.

بائع العطر

في الجزائر، يجلس نديم الداخلوني (24 سنة)، بائع في أحد محال العطور، ترك المدرسة منذ أكثر من ١١ عامًا، بعد انفصال والديه.

نديم لديه أخوين صغيرين عاشا مع الأم بعد الانفصال، أما هو فكان مع والده، حيث عانى كثيرًا في حياته معه ومع زوجته الجديدة.

“كرهت حياتي، وتمنيت الموت كثيرًا .. حتى تركت لهم المنزل”.

ترك نديم المنزل، وظن الجميع أنه سيصير فاسدًا، لكنه أثبت العكس، وقرر أن يعمل في مجال بيع العطور مع أحد أصدقائه.

ويحاول نديم أن يدخر مبلغًا ماليًا يمكنه من دخول العام الدراسي المقبل لاستكمال حلمه.

 

تفكك أسري

 

حالة نديم مثلها الكثير في الوطن العربي.

ففي مصر، يعد التفكك الأسري أحد أهم أسباب تسرب الأبناء من التعليم.

ويؤدي ارتفاع نسب الطلاق والانفصال العاطفي بين الآباء والأمهات، إلى نقصان درجة الاهتمام والإشراف على الأبناء من قبل الأهل.

محمود صبحي (16 سنة)، ترك التعليم منذ 3 سنوات، بعد طلاق والديه، إذ لم يكن يلقى التشجيع الكافي من الأسرة ليستمر في الدراسة.

وفضلاً عن ذلك كان يتعرض للعقاب المعنوي أو البدني من قبل الأسرة بشكل دائم، بسبب المشكلات الشخصية بين الأب والأم.

تحت الحصار

تقل فرص الانتصارات كلما ازدادت جبهات القتال، فلا يمكن للمجتمعات أن تحقق انتصارات وتقدم علمي وعملي، مادام هناك شبح الفقر والصراعات المسلحة.

تلك نظرية ثابتة لا يمكن إغفالها على الإطلاق، وهي ما يفسر السبب وراء ارتفاع نسب الأمية والتسرب المدرسي، التي تعاني منها مناطق النزاع المسلح.

تقول هاجر سعدة، فتاة فلسطينية، إن نسبة التسرب التعليمي في فلسطين عالية جدًا بسبب الاحتلال الإسرائيلي.

وبغض النظر عن الرعب الذي يعيشه الأطفال هناك، فالأهالي أنفسهم يخشون السماح لهم بالذهاب لأي مدرسة خوفًا من القصف المفاجئ.

هناك عائلات كاملة مكونة من 3 أسر، إجمالي عدد أطفالهم يقارب 14 طفلاً، لم يقترب أي من أبنائهم من التعليم، وفق ما توضح هاجر.

بلغ معدل التسرب في العام الدراسي 2018/2017 حوالي 1.0% بين الذكور مقابل 0.6% بين الأناث، وذلك حسب الجهاز المركـزي للإحصاء الفلسطيني.

كارثة عربية 

تتعدد النماذج وتختلف من دولة لأخرى، جميعها تشترك في معاناة الحرمان من التعليم تحت ضغط عوامل مختلفة.

يوضح ذلك التقرير الصادر عن الأمم المتحدة في 2015، والذي يكشف أن قرابة 21 مليون طفل عربي تسربوا من التعليم أو يواجهون خطر التسرب.

وهو رقم مخيف، حث الباحثين والمختصين على السعي لمعرفة أسبابه والحيلولة دون تفشي هذه الظاهرة.

الروتين التعليمي

العملية التعليمية ذاتها واختفاء الوسائل التعليمية الشيقة للأطفال بها، يعد أحد أهم أسباب التسرب المدرسي في الدول التي لا تشهد حروبًا ونزاعات، وفقًا لنبيلة محمود الخبيرة التعليمية.

وتوضح نبيلة محمود أنه على الرغم من وجود تطور في كافة مجالات الحياة، وانفتاح العالم على شتى أنواع التكنولوجية، إلا أن عدم استعمال الوسائل التعليمية الحديثة كان سببًا في عزوف التلاميذ عن التعليم وتهربهم منه.

ويأتي هذا إلى جانب ضعف البرامج التعليمية، وعدم تجديدها، ووجود صعوبات وعراقيل تنفر الطلاب من التعليم.

وتضيف نبيلة أنه على الرغم من أن الطلاب عادة ما يصبحون ضحايا لإقدام الأهل على تسريبهم من التعليم، إلا أنه في بعض الأوقات توجد أسباب تتعلق بالطالب ذاته.

وتعدد هذه الأسباب الخاصة بالطالب، فتقول: “منها ضعف التحصيل الدراسي، ووجود صعوبات في التعلم”.

وتنصح بالمتابعة الدائمة والمستمرة لقدرات الطالب العقلية والذهنية، ومعرفة مستوى التأخر والتقدم بها بشكل دوري.

جائحة مجتمعية

يُعرف أستاذ الاجتماع، عبد الله الأعسر، ظاهرة التسرب المدرسي بأنها العزوف الكلي للطلاب، وعدم إلحاقهم بمرحلة الدراسة الأساسية، أو منعهم من استكمال ما بعدها.

ويصف الأعصر هذه الظاهرة “جائحة تعليمية خطيرة” تهدد مستقبل الدول واستقرارها، بل وتؤثر على المناخ الاقتصادي لها، ما يعزز انتشار عدد من المشكلات الاجتماعية المستقبلية مثل البطالة والسرقة والانحرافات السلوكية بأنواعها.

وربما لا تظهر كل العواقب في الوقت الحالي، لكنها حتمًا ستطفو على السطح بكوارثها وتأثيراتها على المجتمع بالتدريج، كما يوضح.

حقوق قانونية

كثير من المواثيق والقوانيين المحكمة وضعتها المنظمات العالمية لحماية حق الطفل في التعليم إلا أن الاختراقات تحدث من داخل كل دولة وفقًا لظروفها.

كان من بين تلك المواثيق وأهمها إقرار منظمة الأمم المتحدة لحماية الطفولة المادة رقم 29 من ميثاقها العام، التي تنص على ضرورة ضمان حق الطفل في التعليم وما لذلك من دور في تنمية شخصية الطفل ومواهبه.

وقد نص دستور اليونسكو، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان على بعض الاشتراطات الهامة التي يجب أن تتحقق ليحصلوا على حقهم في التعليم وتتمثل في عدم التمييز، بمعنى أن يكون التعليم متاحًا للجميع، دون تمييز سواء على أساس العرق، أو لون البشرة، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، وحصول الجميع على التعليم من دون تمييز أو إقصاء، ,هو ما يفتقده عدد كبير من أطفال الوطن العربي وفقاً للإحصائية سالفة الذكر .

الحقّ في التعليم – المبادئ الأساسيّة

حلول مقترحة

رغم كل الظواهر السلبية إلا أن كل شئ مازال تحت السيطرة، ومن الممكن التحكم في الأمر من خلال بعض الحلول التي من بينها تكثيف الدور التوعوي للمؤسسات المعنية بالأنظمة التعليمة في مختلف الدول العربية.

ويمكن كذلك تفعيل دور المؤسسات المعنية بتنظيم الأسرة، وتقليص نسب الإنجاب، فكلما كان عدد أطفال الأسرة قليل ساهم ذلك في زيادة قدرة الأب على تعليمهم وعزز القدرة على منع تسربهم، وفقًا لسارة شعبان أستاذ التعليم الحديث بجامعة القاهرة.

أما فيما يتعلق بالمناهج، فترى سارة ضرورة تحديث طرق العرض، حيث هناك أزمة خطيرة تتمثل في أن المسؤولين عادة ما يقوموا بتحديث المناهج ويغيروها من دولة لأخرى لكنهم لا يحدثوا طريقة العرض التي سيطرحوها على الطالب، وهو ما يتسبب في التسرب في كثير من الأحوال.

كذلك من الممكن تخصيص فصول للتدريس في المدارس في العطلات وإجازات الصيف في كل دولة لإلحاق المتسربين بالفعل، وهو ما يوازي فصول محو الأمية المصرية، وهو ما يعد تصليح للخطأ السابق الذي حدث للمتسربين القدامى من التعليم.

كما تفترح شعبان تغليظ العقوبات فيما يتعلق بالأسر التي تجبر الأبناء على ترك التعليم، دون اللجوء لطرق التعليم المجانية أو بذل الجهد من أجل الحصول على منح أو مساعدات لإكمال مراحل تعليم الأبناء خاصة المراحل الأساسية منها.