علمتنا الخبرات المتتالية في عالمنا المنكوب بالحروب والصراعات والأوبئة، أن السمات الشخصية لصاحب القرار السياسي، تلعب دورًا في تعقيد المشاكل أو حلها.
وإذا كنا قد جبلنا على القول إن هذا العامل دوره مركزي في العوالم المتخلفة أي دول العالم الثالث.
فقد قدمت الولايات المتحدة الأمريكية على زمن ترامب نموذجًا أن العالم الأول والمتقدم، يمكن أن يكون رهينة لحماقات القادة وسوء تصرفاتهم.
وذلك حين دفع الأمريكيون ومايزالون أثمانًا باهظة لعدم اعتراف رئيسهم بتأثير فيروس (كوفيدـ١٩) على مصائرهم وحيواتهم.
وعلى النمط الأمريكي تدفع إثيوبيا، بل والقرن الإفريقي أثمانًا باهظة لحالة من حالات تضخم الذات لآبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي، الذي حصل علي جائزة نوبل للسلام، بقرار متعجل وغير مبرر من لجنتها تندم عليه حاليًا، خصوصًا وأن الجائزة في اعتقاد الكثيرين أصبحت مسيسة بامتياز ، ومطية بشكل أو بآخر لتوجهات سياسية غالبًا تتم صناعتها في واشنطن.
وعلى عكس المطلوب من أن تكون جائزة نوبل التي حصل عليها آبي أحمد عام ٢٠١٨ دافعًا للمضي في صناعة السلام في بلاده والإقليم، عززت الجائزة حالة الاعتزاز بالنفس لدي آبي أحمد ، واعتبر الجائزة رسالة مساندة من الغرب لتوجهاته أيًا ما كانت، وكيفما هي نتائجها.
ولعل ما ساعد رئيس الوزراء الإثيوبي على ذلك أنه رجل بروستانتي متدين ومن أتباع الحركة الخمسينية (حركة دينية بروتستانتية).
إقليم التجراي الإثيوبي يتحدى آبي أحمد بانتخابات منفردة
ويمكن القول إن هذه المنظومة النفسية والفكرية الحاكمة لعقلية آبي أحمد تعززت مع الترحيب العالمي، الذي تم به استقبال اتفاقه مع الرئيس الإرتيري أسياسي أفورقي، بشأن الخلاف الحدودي بين البلدين.
وقيامه بالتوسط بين عدد من بلدان القرن الإفريقي والتقريب بينها، وذلك بعقد مصالحات بين إرتيريا من جانب وجيبوتي والصومال من جانب آخر.
وذلك فضلاً عن أدواره الإيجابية في الأزمة السودانية بعد ثورة ٢٠١٩ .
أما على الصعيد الداخلي، فقد أفرج عن المعتقلين السياسين وسمح بعودة المعارضين من الخارج إلى بلادهم.
ويبدو أن شعبية آبي أحمد الإقليمية المترتبة على أدوراه، وطبيعة الإسناد العالمي له، قد شجعته على تفجير الاتفاق السياسي التي تمت بلورته في سياق الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية (IBRDF) مابين عامي ٢٠١٦و٢٠١٨.
جوهر محمد: “أنا أورومي قبل أي شيء وإثيوبيا فرضت علي”.
وهو الاتفاق المترتب على احتجاجات واسعة النطاق، هددت إثيوبيا، واندلعت عام ٢٠١٤، وامتدت لعامين، ووصفت بأنها الربيع الإثيوبي.
وذلك من جانب قومية الأورومو التي ينتمي إليها آبي أحمد، حيث تمت المطالبة بالحكم الذاتي للإقليم، وذلك علي يد الناشط السياسي جوهر محمد، الذي قال “أنا أورومي قبل أي شيء وإثيوبيا فرضت علي”. وهي المقولة التي تبلورت كحملة سياسية عارضت النظام الإثيوبي بادئة من الشتات الأمريكي، حيث انطلقت في ولاية مينيسوتا لتصل إلى إثيوبيا، وذلك من على منبر محطة تليفزيونية فضائية -وحسابات تواصل اجتماعي- تحت اسم شبكة إعلام الأورومو.
آبي أحمد لم يزن هذه الأزمة الإثيوبية الكبيرة بميزانها المنطقي، بل تجاهل طبيعة دلالاتها، ومخاطر تجاوزها.
فطبقًا لخطاب جوهر محمد المنافس السياسي لآبي أحمد، والذي اعتقله الأخير منذ يوليو الماضي، بعد إعلانه خوض السباق الانتخابي ضد آبي أحمد، فقد تم الاتفاق علي تصعيد آبي أحمد ليكون رئيسًا للوزراء، طبقًا لشرط ألا تتم عمليات إزاحة لها طابع عنفي لقومية التيجراي المهيمنة على مفاصل الدولة العميقة، خصوصًا في الجانبيين الاقتصادي والأمني.
وذلك نظرًا لحداثة وهشاشة صيغة التعايش بين القوميات الإثيوبية، ومخافة تكرار شبح الحرب الأهلية الإثيوبية، التي اندلعت عدة مرات كان آخرها قبل ثلاثة عقود فقط.
وأخذ آبي أحمد مسألة هشاشة الوضع في إثيوبيا بنوع من الخفة، كما يشهد بذلك جوهر محمد، حيث جمعت الرجلين حورات مطولة في الولايات المتحدة الأمريكية، حين ذهب آبي أحمد إلى هناك طالبًا دعم إثيوبيي الخارج أو الديسابورا، وهم المؤثرين على التفاعلات الداخلية في إثيوبيا من زاوية تفاعلاتهم مع دوائر صناعة القرار الأمريكي سواء في الإدارة أو الكونجرس.
الشاهد أن إيمان آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي بكارزيمته الشخصية وبمناهج الديناميكية التي يعتنقها جعلته يقدم على إلغاء الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية في ديسمبر ٢٠١٩.
إثيوبيا .. “هستيريا القمع”.. معارضو “آبي أحمد” في السجون
وهي الجبهة التي كانت مكونة من القوميات الإثيوبية الكبري الأمهرا والأورومو والتيجراي والشعوب الإثيوبية الجنوبية.
وقدم أحمد كبديل تحالفًا جديدًا للحكم، يضم إلى جانب القوميات الكبرى شعوبًا إثيوبية كانت مهمشة مثل بني شنقول والقمبيلا.
وقد طرح آبي أحمد إطارًا فلسفيًا لحزبه الجديد هي “ميديمر” (تعني التآزر بالأمهرية) كما أسماه الازدهار أو الرفاه.
ويبدو أن ديناميكية آبي أحمد قد خانته في هذه الخطوة لأنه ببساطة تجاهل معطيات الواقع الإثيوبي من زاوية أن الاندماج الوطني مفهوم مجهول لدى القوميات الإثيوبية، التي كونت دولة بالعنف المسلح قبل قرن ونيف فقط من الزمان على يد الإمبراطور ملنيك الثاني.
من هنا رفضت جبهة تحرير تيجراي حل الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية، والتي حكمت إثيوبيا اعتبارًا من عام ١٩٩٤، وذلك بصيغ تعايش فيدرالي أقرها دستور أجاز في المادة ٣٩ منه حق الانفصال لأي قومية متي أجرت استفتاءً داخليًا على ذلك.
وبطبيعة الحال لم تشارك جبهة التيجراي في حزب آبي أحمد الازدهار، كما فقد آبي أحمد حليفه الأهم ليما ميجرسيا، الذي كان وزيرًا للدفاع ولكن آبي أحمد قد أزاحه عن موقعه بعد رفض حل جبهة الشعوب الإثيوبية.
طرح آبي أحمد إطارًا فلسفيًا لحزبه الجديد هي “ميديمر” (تعني التآزر بالأمهرية) كما أسماه الازدهار أو الرفاه.
الأزمة السياسية الممتدة في إثيوبيا طوال ٢٠٢٠ ساهمت في اندلاع حرب إثيوبية داخلية، سيكون لها نتائج مدمرة على النسيج الاجتماعي الإثيوبي الهش أصلاً.
وذلك بطبيعة الإجراءات الحكومية الحالية في أديس أبابا، فضلاً عن عمليات الاعتقال الواسعة للصحفيين، فإن حواجز التفتيش على الهوية هي في الشوارع حاليًا، وحملات التتبع للموظفين التيجراي سواء في الهيئات الحكومية أو الدولية جارية على قدم وساق.
وكذلك تم تجميد ٣٤ شركة تابعة للتيجراي، من المحتمل أن تكون فيها استثمارات خليجية.
بل أن قمة المأساة أن يقوم قائد الجيش الإثيوبي باتهام مدير منظمة الصحة العالمية تيدروس إدهانوم غيبريسوس بالانخراط في دعم جبهة تحرير تيجراي بالأسلحة لمجرد انتماء الطبيب للإقليم.
وفي هذا السياق، فإن العداء يتعمق بين قوميتي الأمهرا والتيجراي الذين قصفوا مدينة بحر دار السياحية مرتين، كما أقدم الأمهرا بدورهم على نزع ملكية أراضي في منطقة جوندر، متنازع عليها بين الطرفين مستغلين ظروف الحرب.
أما على مستوى القرن الإفريقي، فإن إرتيريا تحتل موقعًا رئيسيًا في ديناميات هذا الصراع المسلح، وذلك بحسبان أن قومية التيجراي هي قومية مقسمة بين كل من إرتيريا وإثيوبيا.
وهو ما يجعل حسابات أسمرا تسير دائمًا نحو عدم استقواء لتيجراي الإثيوبيين، بما له من تأثيرات على التوازنات الداخلية الإرتيرية.
من هنا نستطيع أن نفهم التحالف بين آبي أحمد وأسياس أفورقي وهو التحالف الذي جعل أسمرا هدفا لقصف إقليم التيجراي الإثيوبي.
على الصعيد السوداني، فإن التكلفة الاقتصادية التي تتحملها السودان تبدو كبيرة نتيجة لجوء الفارين إليها، والذين يقدر عددهم بأربعة آللاف شخص يوميًا.
ولكن التكلفة السياسية والتأثير على استقرار شرق السودان سيكون مؤثرًا في حالة سيولة الموقف الأمني ودعم البجا الإرتيرين للبجا السودانيين ضد قبيلة البني عامر في شرق السودان، وهي المنطقة التي تشهد تواترات حاليًا.
من هنا فقد أقدم السودان على إغلاق كامل حدوده مع كل من إثيوبيا وإرتيريا، حيث لا يدخل منها إلا الفارين المدنيين من ويلات الحرب.
ولا تبدو الصومال بعيدة عن هذه التفاعلات، إذ أن تنظيم الشباب الجهادي قد يجد هذه البيئة الصراعية مناسبة للانتقام من أديس أبابا، التي خاضت حربًا ضد التنظيم في الصومال، خصوصًا وأن الجيش الإثيوبي سحب عناصره من بعثة الاتحاد الإفريقي هناك.
إجمالاً يبدو لنا أن جائزة نوبل للسلام قد مكنت عدوًا للسلام في إثيوبيا، ولم تشجع على صناعته مدفوعة بانحيازات تاريخية غربية عمياء لإثيوبيا، ساهمت في تأسيسها إسرائيل منذ خمسينيات القرن الماضي، بحسبان أن إثيوبيا من دول التخوم للعرب، ومن موقعها هذا تستطيع أن تساند إسرائيل ضدهم.
كما أن قبيلة الفلاشا اليهودية هي القبيلة ال١٣ في الأسباط اليهودية.
ومن هذه الزوايا دعمت تل أبيب أديس أبابا ضد إقليم التيجراي بصواريخ الدرون، ومن هذه الزاوية أيضًا سنشهد فترة من عدم الاستقرار في القرن الإفريقي.