“النقد المزدوج” هو عنوان كتابٍ للمفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي، يدلّ على حاجتنا إلى نقد كل من الذات (التراث) بسبب تخلفنا عن ركب الحضارة المعاصرة، والآخر (الغرب) الذي يستثمر أحيانًا تخلفنا، ويخون مبادئ التنوير لحسابات استعمارية أو ما بعد استعمارية.

لا أذكر الأمثلة التي أوردها الخطيبي، لكن لدينا اليوم مثال دال: الإسلام السياسي ثمرة تخلفنا، لكنه جزء من رهانات دولية تستثمره، إذ لا تخفى ارتباطات فصائل الإسلام السياسي بالأجهزة الأمنية البريطانية منذ القرن الـ19، وبالأجهزة الأمريكية منذ أواسط القرن الـ20، ما يعني أن مقاربة الإرهاب العالمي تحتاج إلى استعادة شيء من النقد المزدوج، نقد كل من الذات والآخر.

بيد أن هذا النقد يطرح سؤالين شائكين:

أولًا، هل لا يزال التمييز بين الذات والآخر ممكنًا في زمن العولمة، والهجرة، والضواحي، والإنترنت، والإرهاب العالمي؟

ثانيًا، هل يمكن لعقل معطل بسبب النقل والعنعنة، أن يساهم في نقد الحضارة المعاصرة القائمة على العلم والمعرفة؟ ما يعني أننا، بقدر حاجتنا إلى النقد المزدوج، نحتاج أيضًا إلى إخضاع النقد المزدوج نفسه لشيء من النقد.

قبل الدخول إلى التحليل لدينا خلاصة أولية: الإرهاب معضلة نابعة من الموروث الثقافي الإسلاميّ الذي يحتوي على ذخيرة مدمرة من فتاوى التكفير، وأدعية اللعن والشتم والكراهية، مدعومة بإجراءات تعطيل العقل، ونسف أساسيات العيش المشترك، غير أنّ المسؤوليّات الأخلاقيّة والسياسية مشتركة في المستويات الإقليمية والدولية.

مقصود القول: لعل الإرهاب الذي يضرب بعض المجتمعات الغربيّة اليوم، يضع الغرب نفسه أمام مستوى معين من مسؤولياته. بلاشك يبقى ابن تيمية، سيد قطب، والقرضاوي، جميعهم متهمين رئيسيين، لكن دوائر الإدارات الغربية لها نصيب من المسؤولية؛ فكثيرًا ما شاهدنا الغرب يضحي بإرثه التنويري في سبيل التواطؤ مع جماعات متطرفة شرق وجنوب المتوسط، وفي الضواحي الغربية، بدعوى الحريات الدينية، أو النسبيّة الثقافية، أو لأجل يد عاملة رخيصة، أو لغاية ليّ ذراع هذا الحاكم أو ذاك، فضلًا عن رهانات استشراقية لبعض علماء الاجتماع الذين قد يعرفون عن مناهج الدراسة أكثر ما يعرفون عن موضوع الدراسة، وقد يقعون في غواية ما هو غرائبي، مما يجعل الأمر نوعًا من السياحة السوسيولوجية.

 لعل الإرهاب الذي يضرب بعض المجتمعات الغربيّة اليوم، يضع الغرب نفسه أمام مستوى معين من مسؤولياته

ثمّة معطيات أساسية تتعلق باللاوعي الجمعي والمتخيل الديني لدى المسلمين، والتي يصعب الإلمام بها عن طريق المعاينة كما هو حال الدراسات الطبيعية، بل لا بدّ من المعايشة من داخل البنية الثقافية والدينية لزمن قد يطول أحيانا.

مثلًا، لا يمكن للباحث أن يكتفي بحسن الإصغاء إلى الخطاب السياسي الذي ينتجه بعض السياسيين المسلمين أو الإسلاميين، لا سيما وأن كثيرين منهم لا يقولون سوى ما يريد الآخر سماعه، طالما كانوا ذواتًا واعية بدورهم، وبالتالي ذواتًا مراوغة أيضًا. أما حين ينتمي المنصتُ إلى العالم المتقدم فعلى الأرجح سيسمع سرديات محبكة لحساب أهوائه.

اقرأ أيضًا: ما الإرهاب؟

وكي نكون صرحاء، يمثل “كتمان السر” قيمة أخلاقية عالية داخل مجتمعات شرق وجنوب المتوسط، أعلى من قيمة العدالة نفسها. وهو معطى قد لا يستحضره الدّارس الغربي بسبب منظومة قيمه المغايرة، فيكون لذلك أثر بليغ على نتائج الدراسة.

مشكلة أخرى تتمثل في أنه لا تزال معظم مساجد أوروبا إلى اليوم خارج إشراف الدولة الوطنية التي توجد فوق أراضيها، ولقد صارت خلال السنوات الماضية تحت سيطرة جماعة الإخوان المسلمين من جهة، وأردوغان من جهة ثانية، هذا الأخير الذي حوّل معظم الأئمة الأتراك في أوروبا إلى جواسيس وأبواق للدعاية كما تكشف بعض التقارير الأمنية.

كثيرة هي الجهات الأوروبية التي صدقت وُعود طارق رمضان بالعمل على تطوير نموذج لإسلام أوروبي متصالح مع إرث التنوير الأوروبي، فحصد الرجل بذلك المال والشهرة والإعلام، لكن في النهاية جاء الإسلام الذي وعد به نسخة سيئة عن الإسلام الإخواني، بل أشد سوءًا، وهذا كله في انتظار كلمة القضاء حول تهم الاغتصاب التي تلاحقه تباعًا.

يجب البحث عن جذور الإرهاب داخل الخطاب الديني الذي يسمعه المسلمون في المساجد والمدارس ووسائل الإعلام، وهو خطاب يحمل المضامين نفسها، المفاهيم نفسها، والقيم نفسها:

أولًا، إنه خطاب يعتمد على مفاهيم تنتمي إلى عصر التوسّعات الإمبراطورية (دار الحرب، دار الإسلام، الولاء، البراء، الطاغوت، الجهاد، اللواء، الجماعة، الطاعة، الغنيمة، الجزية، العورة، إلخ).

ثانيًا، إنه خطاب يؤجج الانفعالات السلبية (الغضب، الغيرة، الكراهية، الحقد، الثأر، العصبية… إلخ).

ثالثًا، إنه خطاب ينكر الحريات، المساواة، وحقوق الأقليات (تكفير الآخر، النظرة الدونية للمرأة، التسلط على الحياة الشخصية… إلخ).

رابعًا، إنه خطاب يرسخ الوسواس بوجود مؤامرة عالمية ضدّ الإسلام (عبارات “أعداء الإسلام”، “أعداء المسلمين”، “الشيطان الأكبر”… إلخ).

خامسًا، إنه خطاب يلعن غير المسلمين جهارًا ونهارًا، ويتوعّدهم بالهلاك في الدنيا قبل الآخرة (أدعية الويل والثبور وعظائم الأمور).

غير أننا نعلم في المقابل بأن معضلة الغرب تكمن في أن مفهوم الحريات الدينية يضعه أمام إحراج يمنعه من مطالبة المسلمين بإصلاح خطابهم الديني لكي يتوافق مع الحداثة، لا سيما وأنّ الأمر يتعلق بأقلية دينية، وللأقليات حساسيتها في الخطاب الحقوقي المعاصر، بحيث تمثل حقوق الأقليات الدينية أحيانًا ورقة للإحراج الحقوقي والابتزاز السياسي.

لذلك، يتطلب الأمر تعاونًا جديًا بين النخب الغربية التي يجب أن تتخلص من فخ الإحراج الحقوقي، ونخب التنوير في العالم الإسلامي التي يجب أن تتخلص من فخ الجُبن الفكري.

تتضمن القيم الأساسية التي يزرعها الخطاب الديني الشائع في نفوس المسلمين التحريض على كراهية النصارى، اليهود، الكفار، والحضارة المعاصرة، وفي حال أدلجة الدين تتسع اللائحة لتصبح على النحو التالي: اليهود، النصارى، الماسونيون، الشيوعيون، المثليون، والحضارة المعاصرة. تلك هي لائحة البراء لدى فصائل الإسلام السياسي. فإن لم يكن البراء بالفعل -بسبب قلة الحيلة أو قلة ذات اليد- فليكن بالقلب على أضعف الإيمان.

معضلة الغرب تكمن في أن مفهوم الحريات الدينية يضعه أمام إحراج يمنعه من مطالبة المسلمين بإصلاح خطابهم الديني

غير أن تلك اللائحة تذكرنا -إذا استثنينا المسيحيين- بلائحة النازييين إبان صعودهم. كان هدف هتلر تدمير الحضارة الغربية من الداخل باعتبارها تعيق “تفوق العرق النازي”، والذي خُلق لكي يكون متفوقًا، وفقًا للسردية النازية. وتلك هي الخلفية العنصرية التي ورثها المتطرفون الإسلاميون اليوم من كل من التراث التكفيري والفاشية المعاصرة، وذلك بعد أن نصبوا أنفسهم قادة أمة جُعلت “خير أمة”، وجُعلت “وسطًا” لكي تحكم العالم بجهاته الأربع، غير أن الحضارة المعاصرة تعيق مسعاهم، ولذلك وجب العمل على تدميرها.

اقرأ أيضًا: “كلفة الدم”.. خسائر الإرهاب الاقتصادية

لقد لاحظتُ، كما لاحظ الكثيرون، كيف كان تنظيم داعش خلال الأسابيع الأولى لتشكّله يركز جهده الاستقطابي على أبناء المهاجرين في الديار الأوروبية، وعلى رأسهم أبناء المغاربة. ثم ظهر أن السبب الفني يتعلق بامتلاك أبناء المهاجرين المسلمين لجنسيات وجوازات سفر تمكنهم من التحرك عبر العالم بحرية أكبر. غير أن السبب الثقافي يتعلق بكون الثقافة الدينية التقليدية التي يتلقونها تكرس لديهم مشاعر الاجتثاث والاغتراب، قبل أن يقال لهم، إن غربتهم لهي من صميم غربة الإسلام.

رغم ذلك تتحمل سلطات الدول الغربية نصيبها من المسؤولية السياسية والأمنية في تفشي الإرهاب المعولم. الأدلة كثيرة، وهذا أحدها: منذ سنوات طويلة ظهرت خلايا جهادية علنية في عدد من أحياء مدن سبتة ومليلية (مستعمرتان إسبانيتان شمال المغرب). واستغلت تلك الخلايا واقع الحريات على الأراضي الإسبانية، واستطاعت تجنيد عديد من شباب المدن المغربية القريبة من المستعمرتين لأجل القتال في سورية والعراق (تطوان، الفنيدق… إلخ)، قبل أن يلوحوا بحلم إعادة الأندلس إلى “دار الإسلام”، وهو ما يفسر لماذا ينحدر أغلب المقاتلين المغاربة في سورية والعراق من تلك المناطق بالذات؟

مجمل القول، لقد صارت المسؤوليات معولمة أمام رعب معولم، وتلك هي المسألة إجمالًا.