عندما تطلق (حكما) كهذا عن (نفسك) فأنا بالطبع لا أستطيع مناقشتك، فهذا وعيك بـ”ذتك” من ناحية و”اختيارك” الحر من ناحية أخرى، وهو ما يستدعي مني قرارا “ذاتيا” بأن أتعامل معك، ومع أفكارك، وحديثك، بوصفك (ليبراليا)، وهو الأمر الذي يستدعي مني طرح التساؤلات عندما تطرح أفكارا متناقضة مع رؤيتك عن نفسك.

فمصطلح الليبرالية يعني مجموعة من الأطروحات الفلسفية، بعضها فردي وشخصي يتعلق برؤيتك للعالم والآخر، وبعضها اجتماعي يتعلق بطبيعة التنظيم الاجتماعي وتصوراتك عن المجتمع وطريقة إدارته، ومؤسساته الحاكمة…ألخ، وبعضها اقتصادي يتعلق بطبيعة النظام الاقتصادي الذي تفضله في إدارة الموارد في مجتمعك، ومن ثم يصبح ما تطرحه من تحليلات وأحكام وعبارات منطلقا من هذه التنويعة الإدراكية التي أظن أنك على دراية بها في لحظة توصيفك لنفسك.

بينما تشكل تناقضاتك الداخلية أمرا أوليا في الحكم عليها حتى قبل الاختلافات المنهجية فيما بيننا، وهو ما يعني أنك لا تستطيع أن تكون ليبراليا في ممارساتك الشخصية والفردية، بينما محافظا وتقليديا في رؤيتك للمجتمع وتنظيماته الاقتصادية والسياسية، فأجدك ميالا لمؤسسات تسلطية، أو لترتيبات اقتصادية تنتمي الاقتصاد الموجه، أو لأعراف وتقاليد تنتمي لمجتمعات محافظة، وهو أمر لا يعنيني في حد ذاته، فلكل فرد حق الانتماء، ولكن يعنيني هنا التناقض الداخلي في رؤيتك، في حكمك وتوصيفك لذاتك.

 إذ يشكل الاتساق الداخلي في الرؤية عنصرا رئيس، بينما تشكل تناقضاتك علامات استفهام حول بنائك الفكري من ناحية، مصداقيتك من ناحية أخرى.

أسس الليرالية

فاللِيبرالية فلسفة سياسية/اقتصادية يرى مؤيدوها أنها قد تأسست على أسس الحرية والمساواة. وبينما تشدد على الحرية الفردية، نجدها تتغاضى في بداياتها عن المبدأ الثاني وهو المساواة (إذ يتجلى بشكل أكثر وضوحاً في الليبرالية الاجتماعية التي ظهرت فيما بعد), ويتبنى الليبراليون مجموعة واسعة من الآراء تبعاً لفهمهم لهذين المبدأين، ويدعمون أفكاراً مثل حرية التعبير، وحرية الصحافة، وحرية العقيدة، واقتصاديات السوق الحر، والحقوق المدنية، والمجتمع الديمقراطي، والدولة العلمانية، ويؤكدون على أنها مذهب فكري يتأسس على الحرية الفردية، واحترام استقلال الفرد بوصفه المعبر عن “الإنسان”، ومن هذا الفرد وحوله تدور فلسفة الحياة، وتنبع القيم التي تحدد الفكر والسلوك معا، فالإنسان يخرج إلى هذه الحياة حرا له الحق في الحياة، والحرية، وحق الفكر، والمعتقد والضمير، بمعنى حق الحياة كما يشاء ووفق قناعاته لا كما يشاء له، فالليبرالية تعني حق الفرد -الإنسان- أن يحيا حراً كامل الاختيار، وما يستوجبه من تسامح مع غيره، وقبول الاختلاف، حيث تعد كل من الحرية والاختيار حجرا الزاوية في الفلسفة الليبرالية، ولا نجد تناقضا هنا بين مختلفي منظريها مهما اختلفت نتائجهم من بعد ذلك.

وترى الليبرالية أن الوظيفة الأساسية للدولة هي حماية حريات المواطنين مثل حرية التفكير، والتعبير، والملكية الخاصة، والحرية الشخصية وغيرها، ولهذا يسعى إلى وضع القيود على السلطة، وتقليل دورها، وإبعاد الحكومة عن السوق، وتوسيع الحريات المدنية. 

عصر التنوير

وبرزت الليبرالية كحركة سياسية خلال عصر التنوير، عندما أصبحت تحظى بشعبية بين الفلاسفة والاقتصاديين في العالم الغربي. وقد رفضت المفاهيم الشائعة آنذاك مثل: الامتياز الوراثي، وتدين مؤسسات الدولة، والملكية المطلقة والحق الإلهي للملوك. 

وعادة ما ينسب للفيلسوف الإنجليزي (القرن السابع عشر) جون لوك الفضل في تأسيس الليبرالية باعتبارها تقليدا فلسفيا مميزا، وقد أكد لوك أن لكل فرد الحق الطبيعي في الحياة والحرية والتملك، وأضاف أن الحكومى يجب ألا تنتهك هذه الحقوق وذلك بالاستناد إلى مفهوم جديد تتأسس عليه طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وهو: العقد الاجتماعي. وهو ما يجعل الليبراليون يعارضون الرؤية المحافَظة/التقليدية، ويسعون لاستبدال الحكم الديكتاتوري المطلق في الحكومة بديمقراطية تمثيلية وسيادة القانون.

أما عن الاقتصاد فهو يعني الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق، ويقوم على ضرورة عدم تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية، فالسوق يضبط نفسه بنفسه، والاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق يعني حرية الفرد حرية مطلقة في التملك، وأن يقوم بأية أنشطة اقتصادية، وألا تقوم الدولة بأي نشاط اقتصادي يستطيع فرد أو مجموعة أفراد القيام به.

إذن نحن أمام منظومة فكرية متكاملة الأبعاد، ولكنها بطبيعة الحال تحوز على رضا البعض وفقا لمصالحهم الخاصة بطبيعة الحال، ويكتنفها كثير من التناقض في تمثلاتها الواقعية وتطبيقاتها العملية، فبينما يتحدث منظرو الليبرالية/ الرأسمالية العالمية بكلماتهم الأنيقة حول السعادة، والرفاه، والحرية لجميع البشر، يموت ملايين الأطفال في نزاعات مسلحة وحروب تصنعها وتمولها وتغذيها الرأسمالية العالمية، كما يموت ملايين الأطفال من جراء أمراض كان يمكن علاجها، ويعيش الملايين تحت وطأة شروط حياتية قاسية في ظل المجاعات، والتلوث، والتهديدات اليومية.

 وعلى الجانب الآخر يعيش ملايين البشر في ظل شروط النظام الرأسمالي المجحفة، مهددين بالخروج من النعيم في حال لم يتمكنوا من الالتزام الصارم بشروطها ومحدداتها التي تستهلك حياتهم ماديا وروحيا.

اقتصاد السوق

والانتصارات المتلاحقة للرأسمالية في نسختها “المتوحشة” تطرح بديلا أيديولوجيا واحدا، تروج له وتقدمه بوصفه الرؤية التي تعبر عن “نهاية التاريخ”. فبعد الحديث عن “نهاية القومية” من خلال “نهاية التاريخ والجغرافيا”، تطرح الرأسمالية نهاية “الايديولوجيا” ومن ثم نهاية السياسة، كي يصبح الحاكم الأوحد للعالم دون انحياز ودون “قدرة على تغييره” هو (اقتصاد السوق) بما يملكه من (عقل كلي) كامن يسيطر على العالم في محاولة أخيرة للمنتصر لتمكين “اليأس”، وتثبيت “هندسة الخضوع” للسيطرة على كافة أدوات التغيير والمقاومة، ومن ثم إلزام البشر جميعا بهذه الرؤية، والإعلان عن نهاية “الأيديولوجيا” وإخضاع الثقافة والفنون مثلما تمكنوا من السيطرة على “الإعلام ووسائله المختلفة”. ومثلما تمكنوا أيضا من السيطرة على التعليم وأدواته المتنوعة عندما تمكنوا من تحويل “المؤسسات التعليمية” لمصانع لإنتاج “آلات بشرية” خاضعة وخائفة.

يطرح منظرو الليبرالية مقولة يؤكدون من خلالها على أن (اقتصاد السوق) الذي يسيطر عمليا ونظريا على العالم، ويعد المرجع الرئيسي للمجتمع البشري، يمتلك عقلا خاصا يذهب بالعالم نحو (سوق عالمي متجانس) و(عقلاني) قادر على أن يؤمن بدوره احتياجات البشر دون تمييز، وعلى السياسة أن تمارس دورها في حفظ استقلالية وعقلانية هذا (السوق). ويبدو هذا الطرح وكأننا أمام عالم مثالي يحكمه ” عقل كلي عادل” لا يفرق بين البشر، ويضمن لهم جميعا السعادة والرفاه دون تمييز، وإذا ما تمكننا من استبعاد السياسة والايديولوجيا يبدو الأمر أننا أمام (علم موضوعي محض) وعقل مستقل قادر على إدارة شئون العالم.

بيد أننا في اللحظة ذاتها، إذا ما نظرنا إلى واقع العالم في العقود الخمس الماضية، التي تمكن فيها (اقتصاد السوق) من السيطرة، حيث حقق انتصارات حاسمة نلحظ أن التناقض بين النظرية والواقع تناقضا حادا وظاهرا للعيان. حيث يسيطر نسبة قليلة من سكان العالم على مجريات الأمور به، فهم يملكون المال والنفوذ والسلطة، بينما يعيش الغالبية الساحقة تحت وطأة شروط النظام الرأسمالي العالمي الذي يمكن أن نعده بطمأنينة نسخة “محسنة” من النظام العبودي.

عقب الحرب الأهلية الأمريكية (والتي كانت كما يزعمون من أجل إنهاء عصر العبيد والإقطاع، خاصة في ولايات الجنوب) قال أحد (العبيد) الذين (تحرروا ) ساخرا من فحوى الحرية التي وهبوها إياه، كنت عند سيدي أجد احتياجاتي الأساسية، أجد المأكل، والمشرب، والمأوى، أما الآن فأنا أناضل من أجل تأمين هذه الاحتياجات، وفي أحيان كثيرة أتنازل عن حريتي وأكثر، من أجل تأمين هذه الأشياء التي كانت تبدو بسيطة أو غير مهمة، فلقد ظن الناس أن التحرر من الإقطاع والعبودية هو السبيل إلى السعادة، ليفعل الإنسان ما يريد، وقتما يريد، دون قيود من أحد، فعلى ما يبدو أنهم قد أصبحوا سادة أنفسهم، والمتحكمون في حياتهم، ولكن يبدو(كما أدرك هذا العبد) أن هذا لم يحدث، إذ في واقع الأمر أصبحت الحرية بالنسبة له لا تعني سوى العمل أو الموت جوعا، بل وأصبحت تعني القلق وعدم الأمان بالنسبة له ولغالبية البشر.

وبينما الحال على هذا النحو يفاجئنا (عبد) آخر بمقولة تبدو صادمة أكثر من سابقتها إذ يقول: لم يتحسن شيئ في حياتي ولم أصبح حرا كما يدعون، فقط تمكنت من تحسين شروط عملي، ولكني مازلت أكدح من أجل توفير احتياجاتي الحيوية الأولية.