بشكل مفاجئ، وفي بيان عن وزارة الري السودانية، أعلن السودان يوم السبت 21 نوفمبر الجاري، انسحابه من المفاوضات الجارية حول سد النهضة.

برر السودان هذا الانسحاب بـ”عدم جدوى المفاوضات وفقًا للمنهج القديم”، مطالبًا بـ”رعاية الاتحاد الأفريقي، ووجود خبراء أفارقة للتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم ومرضي للأطراف الثلاثة إعمالًا لمبدأ الحلول الأفريقية للمشاكل الأفريقية”، بحسب ما جاء في البيان.

يأتي موقف السودان بعد نجاحه في إقناع كل من مصر وإثيوبيا باستئناف المفاوضات مطلع هذا الشهر، بعد طلب من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على هامش اتصال هاتفي بينه وبين رئيس وزراء السودان عبدالله حمدوك، كان الغرض منها الاتفاق على السلام بين السودان وإسرائيل.

اقرأ أيضًا: سد النهضة: من الدعم إلى المعارضة ومخاوف الجفاف.. تحولات الموقف السوداني

بهذا الشكل، بدا موقف السودان الأخير، الانسحاب من المفاوضات، غريبًا ومفاجئًا بالنسبة للمراقبين والمتابعين لملف سد النهضة، فما السر المحتمل لهذا اللغز؟ وما هي الخيارات المتاحة أمام مصر على ضوء هذا التطور؟

أبرز المحطات في مفاوضات سد النهضة

قد يكون ضروريًا التذكير بداية بأن المفاوضات الحالية حول قضية سد النهضة، مستمرة منذ نحو تسع سنوات. نستعرض لكم فيما يلي أبرز محطاتها:

نوفمبر 2011: شكلت لجنة فنية دولية مستقلة، مكونة من خبراء من كل من مصر والسودان وألمانيا وفرنسا وجنوب أفريقيا، لدراسة الجوانب الفنية المتعلقة ببناء السد الإثيوبي.

مايو 2013: قدمت اللجنة الفنية الدولية تقريرها الذي تضمن العديد من التحفظات في ما يتعلق بمسائل الأمان والسلامة في بناء السد، فضلًا عن إشارته لتسبب السد المتوقع في حدوث نقص بتدفق المياه لدولتي المصب، وغيرها من الآثار السلبية اقتصاديًا واجتماعيًا.

كما طالبت اللجنة بإجراء دراسات أعمق حول السد، الأمر الذي رفضته إثيوبيا، وتوقفت المفاوضات على إثر ذلك.

أغسطس 2014: عادت المفاوضات مرة أخرى بعد لقاء جمع بين الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزارء الإثيوبي آنذاك هايلي ديسالين. واتُّفق على تشكيل لجنة وطنية للخبراء من الدول الثلاث: مصر وإثيوبيا والسودان، إضافة لشركة استشارية دولية لإجراء الدراسات الإضافية عن السد.

مارس 2015: وُّقع على اتفاق حول إعلان المبادئ بالعاصمة السودانية الخرطوم، بين الزعماء الثلاثة: السيسي وديسالين وعمر البشير، رئيس السودان آنذاك.

وأكد الاتفاق على تعاون الدول الثلاث على أساس التفاهم والمنفعة المشتركة، وحسن النوايا، وعلى أساس مبادئ القانون الدولي.

السيسي والبشير وآبي أحمد
رؤساء الدول الثلاثة بعد إعلان المبادئ

ديسمبر 2015: وُقّع على وثيقة الخرطوم، وهي وثيقة قانونية ملزمة للدول الثلاث، تضمنت ردودًا على جميع الملاحظات الفنية حول السد. وعليه، اختير بشكل نهائي، مكتبين فرنسيين للإشراف الفني على السد، بدلًا من المكتب الهولندي الذي كان أعلن انسحابه في وقت سابق.

يناير 2016: قدمت مصر مقترحًا فنيًا إلى إثيوبيا بزيادة فتحات تصريف المياة في جسم السد من فتحتين إلى أربع فتحات، لضمان كفاية تصريف المياه عند المناسيب الضعيفة. رُوجع المقترح من قبل الشركة الإيطالية المنفذة للسد، لكن إثيوبيا رفضته، ولم يعترض السودان على الرفض الإثيوبي.

أكتوبر 2017: قدم المكتبان الفرنسيان التقرير الفني الاستهلالي حول السد، والذي اُعترض عليه من قبل إثيوبيا والسودان، مقابل موافقة مصرية، ما دفع مصر في يناير 2018، إلى طلب مشاركة خبراء من البنك الدولي في المفاوضات، لكن إثيوبيا رفضت أيضًا، ولم يعلق السودان.

أغسطس 2019: قدمت مصر مقترحًا فنيًا متكاملًا حول السد، رفضته إثيوبيا، ولم يعلق السودان مرة أخرى.

نوفمبر 2019: بدأت جولة جديدة بمشاركة واشنطن وخبراء البنك الدولي والدول الثلاث. وخرجت في فبراير 2020 وثيقة شاملة سميت “وثيقة واشنطن”، وحينها أعلن عن موافقة الدول الثلاث على 90% من بنودها، لكن لاحقًا أثناء استكمال المفاوضات على البنود المتبقية، أعلنت إثيوبيا رفضها لكامل الوثيقة، وتحفظ السودان عليها. وتوقفت بعدها المفاوضات تماما الى ان عادت على النحو الذى أشرنا الية في المقدمة

هذا العرض المختصر لأبرز محطات التفاوض، على مدار نحو تسع سنوات، يوضح طبيعة مواقف الدول الثلاث من المفاوضة كمبدأ، ومن مساراتها، ففي حين تبدي إثيوبيا مراوغة تصل أحيانًا إلى التعنت، يبدو موقف السودان غامضًا.

كما يكشف هذا العرض، أن جوانب الخلاف في المفاوضات ليست فنية بما يتطلب وجود خبراء من الاتحاد الأفريقي كما قال السودان بعد انسحابه الأخير، خاصة وأن المفاوضات الأخيرة، نفسها التي انسحب منها السودان، كانت تحت رعاية الاتحاد الأفريقي.

إذًا لماذا انسحب السودان؟

بناءً على ما سبق، وعلى مجمل محطات التفاوض وتفاصيلها، فعلى الأرجح أن هناك تفسيران محتملان لانسحاب السودان:

موقف حازم تجاه إثيوبيا

من المحتمل، أن الحكومة السودانية التي باتت تحظى بترحيب دولي – غربي، على العكس من حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير؛ ترغب في توظيف الموقف المتأزم في الداخل الإثيوبي على خلفية الصراع المسلح بين حكومة آبي أحمد والتيجراي؛ للدفع بعملية التفاوض قدمًا، عبر تبنيها موقفًا أكثر حزمًا، يجبر إثيوبيا على التخلي عن المراوغة والتعنت.

وينبني هذا الاحتمال على ثلاثة عناصر:

1. خطورة السد على السودان، على مستوى الأمان والسلامة لجسم السد نفسه، بسبب العديد من الملاحظات الفنية حول بنائه وموقعه الجيولوجي، خاصة مع قربه من السودان، بل إنه بني على أراضٍ كانت تابعة لإقليم بني شنقول السوداني، قبل ضمنها بالقوة قبل عقود، من قبل الإمبراطورية الإثيوبية.

2. التأثير المؤكد للسد على حصة السودان في مياه النيل، خاصة أثناء فترة ملء بحيرة السد ودون تنسيق مسبق مع دولتي المصب.

سد النهضة
يمثل سد النهضة خطرًا على السودان من الناحية السلامة الفنية لجسد السد وموقعه الجيولوجي

3. التلويح الإثيوبي المستمر، والمتصاعد مؤخرًا، برغبتها في إعادة النظر حول تقسيمة حصص مياه نهر النيل بين الدول الثلاث، واعتبار اتفاقية عام 1959 بين مصر والسودان، غير عادلة.

تأييد لإثيوبيا؟

من المحتمل أيضًا أن السودان قرر المراهنة بالمخاطر السابق ذكرها لسد النهضة، وغيرها مما يتعلق بالأمن القومي السوداني؛ وقرر مساندة الموقف الإثيوبي بإعطاء أديس أبابا فسحة من الوقت للوصول إلى يونيو 2021، موعد الملء الثاني لخزان السد، قبل التوصل لاتفاق نهائي. وفي هذه الحالة ستصبح عملية التفاوض برمتها غير ذات جدوى.

اقرأ أيضًا: النظام السابق والكهرباء.. لماذا يتأرجح موقف السودان الرسمي من سد النهضة؟

يأتي هذا الاحتمال على ضوء ما يتردد من فوائد محتملة من السد للسودان، خاصة في ما يتعلق بتنظيم مياه الفيضانات التي تتسبب في أضرار بالغة للعديد من مناطق البلاد.

كيف يمكن أن تتحرك مصر؟

ما سيرجح أحد الاحتمالين هو التعامل المصري مع الملف على ضوء آخر تطوراته، إذ من المرجح أن تمسك مصر بالتفاوض على أساس وثيقة واشنطن التي أعلن توافق البلدان الثلاثة على 90% من بنودها، مع ترحيبها بمقترح السودان بدور أكبر للاتحاد الأفريقي وخبرائه؛ قد يدفع بالسودان للعودة مجددًا إلى مسار المفاوضات، خاصة في حال إنجاح تقريب وجهات النظر في الـ10% المتبقية من بنود وثيقة واشنطن.

الخيار الثاني أمام مصر في ظل هذه المستجدات، هو تصعيد الملف كاملًا، وبشكل حاسم، أمام مجلس الأمن،  إعمالًا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.