في كتابه الجديد “أرض موعودة“، كشف الرئيس الأمريكي السابق بارك أوباما عن موقفه من جماعة الإخوان التي يرى أنها غير مؤمنة بقواعد التعددية الديمقراطية، “العديد من دول المنطقة اعتبرتهم خطرًا داهمًا. كما أن الفلسفة الأصولية للجماعة تجعلها غير جديرة بالثقة كحارس على التعددية الديمقراطية.. وهو ما يجعلها تمثل إشكالية محتملة للعلاقات الأمريكية المصرية”.

حديث أوباما عن الإخوان، جاء في سياق سرده لذكرياته عن أحداث ثورة 25 يناير 2011، وتواصله المتكرر مع الرئيس الراحل محمد حسني مبارك في ذلك الوقت، منذ اندلاع الثورة وحتى إعلان مبارك التنحي في 18 فبراير.

ضرب أوباما بكلامه الموثق عن الإخوان “الخزعبلات” التي صدرتها منصات ومنابر الإعلام المصري منذ عام 2013، والتي لاحقت الرجل بتهة “الأخونة”، بينما تحدثت بعضها عن إسلامه السري ونسج آخرون قصصًا خيالية حول علاقته التحتية بالتنظيم الدولي عبر أفراد من أسرته، وظلت تلك الاتهامات تترد في بعض وسائل الإعلام حتى قبيل حسم نائبه جوزيف بايدن معركة الرئاسة الأمريكية الأخيرة لصالحه.

الرئيس الأمريكي السابق كغيره من رؤساء الولايات المتحدة لا يهتم كثيرًا سوى باستقرار الدول التي ترتبط بمصالح بلاده، فاستقرار مصر ودول الخليج والحفاظ على أمن إسرائيل هي أولويات أي إدارة أمريكية في المنطقة بغض النظر عن طبيعة الأنظمة الحاكمة فيها، وهو ما وضح فيما بعد فانتقاد إدارة أوباما للسلطة التي تسلمت زمام الأمور في مصر بعد سقوط الإخوان لم يدم طويلا، والمطالبة بإعادة دمج الإخوان في المرحلة الجديدة توقفت بعد انتخاب رئيس وبرلمان جديد في مصر.

اقرأ أيضًا: “شاهد ملك” على السقوط في بئر التزوير

أوباما وخلال حديثه عن أحداث الثورة المصرية في كتابه الذي صدر الأسبوع الماضي، اعتبر أن جماعة الإخوان هي أقوى تنظيم سياسي في مصر، “بعيدًا عن الجيش”، وعرفها بأنها “منظمة إسلامية سنية كان هدفها الأساسى أن تحكم الشريعة الإسلامية مصر والعالم العربى كله، وبفضل تنظيمها وتركيزها على العمل الخيرى كانت تتفاخر بكثرة أعضائها، رغم كونها محظورة رسميًا”.

ونظرًا لتنظيمها وقاعدتها الكبيرة، رجّح الرئيس الأمريكي الأسبق أن تفوز الجماعة في أي انتخابات في ذلك الوقت، “الإخوان كان التيار المرجح فوزه في أى انتخابات حرة نزيهة”، وذلك لأن شركاء الثورة من أكاديمين وشباب ونشطاء المنظمات والأحزاب العلمانية، لم تكن لهم أرضية في الشارع المصري.

وقال الرئيس الأمريكي السابق في كتابه: “بقدر ما كان هؤلاء الشباب مقنعين ومثيرين للإعجاب، كان على أن أذكر نفسى بأنهم مع الأكاديميين ونشطاء حقوق الإنسان وأحزاب المعارضة العلمانية والنقابيين وغيرهم في الخطوط الأمامية للاحتجاجات، يمثلون جزءًا بسيطًا من المصريين، فإذا تنحى مبارك وخلّف فراغًا مفاجئًا في السلطة فلن يكون هؤلاء الأقرب لملء هذا الفراغ”.

وحمل أوباما الرئيس المصري الراحل مبارك، مسؤولية وصول الإخوان إلى السلطة، في ظل غياب قوى مدنية فاعلة ومؤسسات قوية مستقلة تدعم أي عملية انتقال ديمقراطي للسلطة “كانت إحدى مآسي عهد مبارك الديكتاتوري أنه أعاق تطور المؤسسات والتقاليد التي قد تساعد مصر على الانتقال إلى الديمقراطية بشكل فعّال، مثل الأحزاب السياسية القوية، والقضاء المستقل والإعلام الحر، وتوفير رقابة محايدة للانتخابات، وجمعيات مدنية ذات قاعدة عريضة، وخدمة مدنية فعالة، واحترام حقوق الأقليات”.

لخص أوباما الأزمة التي واجهت الثورة المصرية في عبارته السابقة، فجريمة مبارك الكبرى والتي لم يحاكم عليها كما لم يحاكم عليها أسلافه، وهي تجريف المجال العام وإماتة السياسة وتخريب مؤسساتها من أحزاب ونقابات ومنظمات عمل مدني، إما بملاحقة كوادرها أو تدجينها وإدخالها حظيرة السلطة، ففي ظل غياب معارضة مدنية منظمة قفزت الجماعة الدينية إلى السلطة لملء الفراغ الذي أعقب تخلي مبارك عن الحكم.

ويسترسل الرئيس الأمريكي في سرد ذكراياته عن أحداث الثورة التي كان يتابعها من مكتبه البيضاوي على الهواء مباشرة ويقول: “عرضت قنوات الأخبار صورًا من ميدان التحرير، حيث المظاهرات التى كانت تضم في الأيام الأولى وجوها شابة وعلمانية، ليست مثل الطلاب والنشطاء الذين حضروا خطابى في جامعة القاهرة في يونيو 2009، وفي المقابلات كانوا يبدون مستنيرين ومتعلمين مُصرّين على سلمية تحركهم، ورغبتهم في التعددية الديمقراطية، وسيادة القانون، واقتصاد حديث ومبتكر يمكن أن يوفر وظائف ومستوى معيشة أفضل”.

“هؤلاء الشباب بمثاليتهم وشجاعتهم في تحدى نظام قمعى، لم يكونوا مختلفين عن الشباب الذين ساعدوا في هدم جدار برلين أو وقفوا أمام الدبابات في الميدان السماوي ببكين، ولم يكونوا مختلفين أيضًا عن الشباب الذين ساعدوني في حملتي الانتخابية.. قلت ذات مرة: لو كنت مصريًا في العشرينيات، لكنت في الغالب مع هؤلاء المتظاهرين ضد مبارك، لكني بالطبع لم أكن كذلك، بل كنت رئيس الولايات المتحدة”، يضيف أوباما.

ويعلق أوباما على خطاب الرئيس الراحل الذي أعلن فيه عدم ترشحه مجددًا للرئاسة قائلًا: “بدا أن مبارك سيفي بوعده لويزنر (مبعوث أوباما وسفير أمريكا الأسبق في مصر)، فقال إنه لم يكن ينوي أبدًا ترشيح نفسه لولاية أخرى كرئيس وأعلن أنه سيدعو البرلمان المصري -الذي يسيطر عليه بالكامل- لمناقشة تسريع جدول زمني لانتخابات جديدة. لكن شروط النقل الفعلي للسلطة كانت غامضة للغاية لدرجة أن أي مراقب مصري سيستنتج أن أي وعود يقدمها مبارك الآن يمكن أن تذهب أدراج الرياح، في اللحظة التي تخمد فيها الاحتجاجات”.

حذر أوباما الرئيس المصري من وصول الإخوان إلى السلطة بسبب تعنته مع مطالب الجماهير، وعرض في اتصال هاتفي مع مبارك عقب خطابه العاطفي ما يقطع الطريق على وصول الجماعة إلى السلطة، “إذا بقيت في منصبك وأدى هذا إلى تأخير العملية الانتقالية، كما أعتقد، فإن الاحتجاجات ستستمر وربما تخرج عن السيطرة، وإذا كنت تريد ضمان انتخاب حكومة مسؤولة لا يهيمن عليها الإخوان المسلمون، فقد حان الوقت الآن للتنحي واستخدام مكانتك وراء الكواليس للمساعدة في تشكيل حكومة مصرية جديدة”.

اقرأ أيضًا: شرعية الأنظمة بين “الرضا العام” و”السخط العام”

سعى أوباما أن يصل مع مبارك إلى حل من شأنه منح الأحزاب السياسية المعارضة والمرشحين المحتملين للرئاسة الوقت الكافي لبناء قاعدة جماهيرية وتطوير برامج جادة للحكم، كما سيسمح لمبارك بالتقاعد كرجل دولة طاعن في السن، “ما قد يساعد في تخفيف وطأة التصورات المنتشرة في المنطقة بأننا كنا على استعداد للتخلي عن الحلفاء القدامى عند تعرضهم لأدنى قدر من المتاعب”.

لكن مبارك رفض النصيحة ورد على أوباما بصوت مرتفع: “أنت لا تفهم ثقافة الشعب المصري. الرئيس أوباما، إذا مضيت إلى مرحلة الانتقال بهذه الطريقة، فسيكون ذلك أخطر شيء بالنسبة لمصر”.

وأصر مبارك خلال المكالمة على ضرورة بقائه في منصبه، وكرر أن الاحتجاجات ستنتهى قريبًا، وأضاف قرب نهاية المكالمة: “أنا أعرف شعبي، إنهم أناس عاطفيون، سأتحدث معك بعد فترة وجيزة، وسأخبرك أنني كنت على حق”.

ويعلق أوباما على موقف مبارك المتعنت قائلا: “لقد أعطيته أفضل نصيحة، وكنت قد عرضت عليه خطة لخروج مشرف.. عرفت أن أي زعيم يحل محله قد ينتهى به الأمر ليكون شريكًا أسوأ للولايات المتحدة، وربما أسوأ بالنسبة للشعب المصري. والحقيقة أنه كان بإمكاني أن أتعايش مع أى خطة انتقال حقيقية يقدمها، حتى لو حافظت على جزء كبير من شبكة نظامه. لقد كنت واقعيًا بما فيه الكفاية لأفترض أنه لولا الإصرار العنيد لهؤلاء الشباب في ميدان التحرير، لكنت عملت مع مبارك لبقية فترة رئاستي”.

وبناء على موقف مبارك المتعنت وإصرار المتظاهرين على رحيله، استقر الرأي داخل الإدارة الأمريكية إلى صياغة بيان يدعو الرئيس الراحل للتنحي، ويروي أوباما تلك اللحظات قائلًا:  “قد لا أكون قادرًا على منع الصين أو روسيا من سحق المعارضين بهما، لكن نظام مبارك تلقى مليارات الدولارات من دافعى الضرائب الأمريكيين، زودناه بالأسلحة، وتبادلنا المعلومات، وساعدنا في تدريب ضباطهم، وبالنسبة لى فإن السماح لمتلقى تلك المساعدات -وهو شخص نسميه حليفًا- بارتكاب أعمال عنف غاشمة ضد المتظاهرين السلميين، هو خطأ لم أرغب في السكوت عليه. سيؤدى سماحنا بذلك إلى ضرر كبير بفكرة أمريكا، ومن شأن هذا إلحاق الكثير من الضرر بى أيضًا. قلت لفريقي: دعونا نعد بيانًا ندعو فيه مبارك للتنحي الآن”.

ويعرض أوباما موقف بلاده مما يجري في مصر والمنطقة والتي يعتبرها البعض محرك عرائس “على عكس معتقدات الكثيرين في العالم العربى وعدد ليس بالقليل من المراسلين الأمريكيين، فإن الولايات المتحدة ليست محرك عرائس، تمسك دائما بخيوط البلدان التى تتعامل معها وتتحكم فيها، حتى الحكومات التى تعتمد على مساعداتنا العسكرية والاقتصادية تفكر أولًا وقبل كل شيء في بقائها، ولم يكن نظام مبارك استثناءً”.

مرت الساعات والعالم كله والإدارة الأمريكية تتابع تطورات الموقف الذي انتهى بإعلان عمر سليمان نائب الرئيس حينها تنحي مبارك عن السلطة، وانفجرت الاحتفالات في ميدان التحرير بالإنجاز الذي تحقق فقد ذهب مبارك واعتقدت الجماهير في ميادين التحرير أن حقبة الظلم والاستبداد انتهت إلى غير رجعة، وأن مصر ستفتح صفحة جديدة من تاريخها عنوانها “الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية”، وأن طريق الديمقراطية بات ممهدا لتأسيس دولة مدنية حديثة، لكن لم تأت الرياح بما تشتهي السفن، فكما توقع أوباما تمكنت الجماعة المنظمة من الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، فيما توقفت القوى المدنية وتنظيمات شباب الثورة عند محطة الثورة ولم يبرحوا مكانهم، في الوقت الذي كان الإخوان يرتبون فيه أوراقهم مع المجلس العسكري وبعض الحلفاء الدوليين والأقلميين.

بتجريفه للحياة الساسية منذ توليه السلطة، وبعناده ورفضه لنصائح أوباما وغيره، حرم مبارك مصر من وجود مؤسسات سياسية مدنية قادرة على ملء أي فراغ قد يحدث في السلطة، بمعنى أوضح سلم الرئيس الراحل الدولة إلى الجماعة التي لا تملك من أدوات الحكم شيئ ولا تعترف بالديمقراطية إلا حينما تستخدمها في الوصول للسلطة، وهو ما لم يقبله الشعب المصري ولم تقبله مؤسسات الدولة، وحدث ما يشبه اتفاق غير معلن على إسقاط الجماعة.

سقطت الجماعة وعاد قادتها وكوادرها إلى السجون، لكن الأمر عاد كما كان عليه قبل يناير، تم تجفيف منابع السياسة مرة أخرى، وحوصرت الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والنقابات والإعلام، وأجهض النظام الذي تسلم مفاتيح السسلطة بعد سقوط الإخوان أي محاولة لوجود بديل مدني قد ينافسه في أي استحقاق انتخابي، أو يحل محله في حال حدوث فراغ جديد.