بزته الغريبة، والوشم الذي يغطي ذراعه، دخان سجائره، وهيئته التي تليق بزعيم مافيا عتيد الإجرام، كل ذلك لم يمنحوا العالم سببًا وحيدًا لكراهية دييجو أرماندو مارادونا، الذي غادر حياتنا قبل عام كامل، حتى منافسوه مهما جلدهم أحبوا أن يشيدو به كثيرًا .. يا له من لاعب.

356 يوم قضاهم البشر على هذا الكوكب بدون أحد أهم من لمس كرة القدم عبر تاريخها، فكيف كانت رحلة الأرجنتيني الذي ناصر الشيوعية وحكامها في أمريكا اللاتينية، وعاش مترفا في بعض الأحيان؟

ومع ذلك، اختار مارادونا دائما أن يكون سعيدًا على أن يكون غنيا، رفض أن يتحول لآلة وأن يدخل عجلة الاحتراف على غرار زملائه، كان ذلك خطأ بالتأكيد لكن رغم ذلك لم تغب الكاميرات عن مارادونا يوما، لقد كان قادرًا على الاستحواذ عليها في كل مكان، كان محبًا للحياة وضحية لها أوقات كثيرة.

لمارادونا فضل على كرة القدم يتجاوز فضلها عليه. اللاعب القصير الذي حمل فقراء بيونس إيرس، عاصمة الأرجنتين وأكبر مدنها، إلى منصات التتويج، هو نفسه الذي جعل العالم يتابع كرة القدم بشغف ويدين له بالمتعة.

لم تكن كرة القدم كأيامنا الحالية الحديثة: الملايين تتابع تعرف كل نتائج الدوريات في كل مكان، وتعرف أسماء لاعبي المنتخبات، ويمكن أن تتابع أي مباراة في أي مكان تحب بضغطة زر على ريموت التلفاز، أو التنقل بسلاسة بين الشبكة العنكبوتية لمعرفة جديد كرة القدم بدون مجهود.

في زمن مارادونا “أكتوبر 1960- نوفمبر 2020″، كان الجميع يبدأ فقط التعرف على التلفاز خاصة في البلدان الفقيرة، كان مجرد جهاز صغير يوضع في المقاهي أو بيوت الأثرياء ويلتف حوله عشرات المشاهدين في انتظار كأس العالم.

بيليه أبيض جديد

الأخبار القادمة كانت تشير إلى أن ساحر جديد في الطريق للفوز بكأس العالم، رغم المشاكل والأزمات التي حاصرته، أو كما وصفوه حينها “بيليه أبيض جديد” يمكن الآن أن نشاهده ونستمتع به ونعوض ما فاتنا، تتابعه الجماهير بشغف بالغ يكاد تقتحم رؤوسهم شاشات التلفزيون، يا له من مراوغ.

كان مارادونا الصلة الأخيرة بين كرة القدم الحقيقية القائمة على المتعة والاستمتاع، وبين الاحتراف بأمواله وتدخلاته التي تتحكم في اللاعبين، دييغو ذلك النموذج الذي جمع بين كرة القدم كلعبه وموهبة دون أن تفسده الأموال.

حاول الاستمتاع دائمًا حتى لو أثارت نزواته المشاكل والأزمات، لكنه كان حريصًا على أن يكون سعيدًا وعلى أن يجلب المتعة للجماهير دون التفكير في مقابل ما.

كيف تجاوز دييجو اللعبة؟

تتجاوز حياة الأرجنتيني الراحل فكرة لاعب كرة القدم، القصص التي خلفها ورائه وهو يمارس لعبته المفضلة كانت تكفي لمئات الأفلام والأعمال الدرامية.

قبل رحلة نابولي وانتقال الساحر الأرجنتيني إلى إيطاليا لم يكن يعرف هل سيمارس الكرة من جديد أم لا؟. كان حزينًا وبائسًا بعد فترة برشلونة، قدمه في الجبس وحالته النفسية من سيئ إلى أسوأ.

دييجو في برشلونة
دييجو في برشلونة

في مباراة برشلونة وأتليتكو بلباو، وقع مارادونا فريسة سهلة لـ جويكوتشيا، تقدم البلوجرانا بثلاثية نظيفة، لكنه خسر دييجو، تدخل جويكوتشيا بعنف ليتسبب في كسر ساق الساحر الأرجنتيني وتبدأ رحلة جديدة من المعاناة، 6 أشهر كاملة عانى فيها من الإصابة حتى ظن أنه لن يعود للكرة من جديد.

لم تمض فترات مارادونا في برشلونة بشكل جيد وانتهت بمباراة نهائي الكأس وفضيحة مشاجرة لاعبي برشلونة وأتليتكو بلباو.

“سكة مخدرات”

كان قد لجأ للمخدرات ولم يعرف أين سينتقل، رافضًا شيكا على بياض من برشلونة وقرر أن يغادر لكنه لم يعرف أين يمكن أن يرحل.. في الوقت نفسه كان الجنوب الإيطالي ينتظر مجدا لم يتحقق لا قبل ولا بعد ماردونا.

«أنا هلعب مع الخسران».. سمعت الجملة من «فارس» في «الحريف» لكنها تنطبق تمامًا على ماردونا أن تترك برشلونة بمجدها خلفك جنون، لكن مع ماردونا لا .. جنونه عظمة وفن وسحر ينثر على الناس حمل دييجو نابولي إلى أفاق لم تكن الجماهير تحلم بها.

«لم أكن أعرف أي شيء عن نابولي، كان بالنسبة لي مجرد شيء إيطالي مثل البيتزا، لكن كنت سأقبل بأي شيء للرحيل عن برشلونة.. لكن لماذا لم أذهب ليوفنتوس أو ميلان أو إنتر؟ مشجعو نابولي أضربوا عن الطعام من أجلي، عينت نفسي مدربا ورئيسا للفريق وتغلبنا على عنصرية الطليان لنحقق إنجاز أفضل من المونديل» – دييجو مارادونا متحدثًا في مذكراته عن فترته مع نابولي.

بداية رحلة نابولي

ذهب مارادونا لنابولي لقضاء فترة بسيطة يمكن من خلالها أن يفكر في كيف ستكون مسيرته.

لم يكن يعرف اسم النادي ولا تاريخه، ولم يكن النادي له اسم كبير في إيطاليا ولا أوروبا.

كان مفلسا بحاجة للمال ومديونا، فهو لم يجن من كرة القدم شيئا رغم أنه كان في الـ 25 من عمره، حتى أنه اضطر لبيع بيته في برشلونة لسداد الديون، لكنه بمجرد أن وصل إلى ملعب «سان باولو» معقل نابولي وجد 80 ألف شخص لمشاهدته، وقتها تغير كل شئ.

في نابولي، حقق الفتى القادم من الكامب نو الدوري بعد 60 عامًا من إنشاء النادي، وكان قريبا كذلك من دوري أبطال أوروبا، كل ذلك مع إدارة لا تنفق الأموال وملعب سيئ للتدريب، لكنه وضعهم على خريطة الأندية الكبيرة.

إلى يومنا يدين نابولي، الذي لم يحقق بعد رحيله شيئا، بالكثير والكثير.

اختار مارادونا دائما أن يكون سعيدًا على أن يكون غنيا، رفض أن يتحول لآلة وأن يدخل عجلة الاحتراف على غرار زملائه، كان ذلك خطأ بالتأكيد لكن رغم ذلك لم تغب الكاميرات عن مارادونا يوما، لقد كان قادرًا على الاستحواذ عليها في كل مكان، كان محبًا للحياة وضحية لها أوقات كثيرة.

«كان الناس يقولون إن ماردونا فشل مع المنتخب لماذا لا زلت تثق به؟ لكنني وثقت به لأنني كنت أعلم أنه سيصبح الأفضل في العالم، كان قراري صعب لكني أثق في دييجو»

كارلوس بيلاردو مدرب المنتخب الأرجنتيني في كأس العالم 1986.

كأس العالم 1986

بل مشاركة الأرجنتين في مونديال 1986 بالمكسيك لم يكن وضع راقصو التانجو في أحسن حال؛ حيث لعب الفرق 7 لقاءات لم يتمكن من الفوز سوى في لقاء يتيم وهو الأخير له أمام منتخب إسرائيل، وتلقى هزيمة في ثلاث لقاءات أمام بيرو فرنسا والنرويج وتعادل في 3 لقاءات.

وأصبح منصب بيلاردو مهددًا، فيما كان الاتحاد الأرجنتيني منقسمًا حول منحه الفرصة أو إقالته.

بدأ المنتخب الأرجنتيني البطولة في حال يرثى لها أمام كوريا الجنوبية ولكنه فاز بثلاثة أهداف مقابل هدف بصناعة مارادونا وتعادل مع إيطاليا بهدف لكل منهما في الجولة الثانية قبل أن يعود لطريق الانتصارات أمام بلغاريا بهدفين نظيفين.

يد الله

وفي دور الـ16 فاز المنتخب الأرجنتيني على نظيره الأوروجواي بهدف نظيف ثم الفوز على إنجلترا بيد ماردونا في الهدف الشهير.

صعد مارادونا القصير فوق الجميع مدافعي إنجلترا فارعي القامة، لكن يده كان لها قول آخر، ليصفر علي بن ناصر محتسبا الهدف الأشهر في تاريخ البطولة.

كان هدف البطولة، كأس العالم في حوزة الأرجنتين، الجميع غاضب، ثورة كبيرة على سرقة هذا اللص غير الشريف للكرة وإحرازه هدف بيديه، ثم بهدوء وثقة يقول إنها «يد الله».

اللصوص مكروهون تصرفاتهم غير مقبولة لكننا وقبل مارادونا لم نجد لصا يحبه الناس ويطالبون ببرائته مهما ارتكب من جرائم كما حدث مع دييجو.

في نصف النهائي واجه المنتخب الأرجنتيني نظيره البلجيكي الذي كان ندًا قويًا، ولكن مارادونا تدخل كعادته ويحرز هدفين متتاليين لتتأهل الأرجنتين رسميًا إلى نهائي البطولة، ليواجه ألمانيا ويفوز باللقب.

كان مارادونا غائبًا عن الأرجنتين منذ تلقيه بطاقة حمراء في مونديال 1982 وانتقل من برشلونة الإسباني إلى نابولي الإيطالي في صيف 1984 بعد مشاكله في النادي الكتالوني، ولكنه بدأ مع بيلاردو تصفيات أمريكا اللاتينية المؤهلة لنهائيات عام 1985.

هكذا كان ماردونا ساحرا، يمكنه أن يجلب لك الانتصار دائمًا وحيدًا ضد 11 لكنه بطل، مهما مرت مسيرته بأزمات لكنه قادرًا على صنع فارق ما، الوحيد بين كل المشاهير الذي تمكن أن يكون بين الأضواء دائمًا ومثيرًا.

اقرأ أيضا

دييجو مارادونا، مسيرة أسطورية في صور 

لماذا أحببنا مارادونا؟

مر بأزمات من المنشطات إلى المخدرات، ابتعد عن الكرة مرات، مر بأزمات صحية ونفسية كثيرة، لكنه ظل دائمًا محور اهتمام الجميع كحالة نادرة وآخر ملوك الكرة الشراب في التاريخ، الذي غفر له الناس كل خطاياه حتى لو كانت سرقة كأس العالم.

مارادونا
مارادونا

حياته المشاغبة دائمًا الخارجة عن كل التقاليد وغير المألوفة كانت محط الأنظار بعد اعتزال الكرة، وهو مدرب فاشل مع الأرجنتين وفي الدوري الأرجنتيني وفي دوريات أخرى كانت مثيرة، تجده وهو يجلس كالملوك على كرسي العرش الموضوع على مقاعد البدلاء.

بزته الغريبة، والوشم الذي يغطي ذراعه، دخان سجائره، وهيئته التي تليق بزعيم مافيا عتيد الإجرام، كل ذلك لم يمنحوا العالم سببًا وحيدًا لكراهيته حتى منافسوه مهما جلدهم أحبوا أن يشيدو به كثيرًا .. يا له من لاعب.

«أتذكر حينما كنت طفلاً  ذات يوم عاد والدي مرّة من العمل، وكان يومها لم يتقاض مالاً يكفي لإطعام ثمانية أفراد. كنا ننتظره بصمت، لأنه لم يكن لدينا طعام لنأكل، الناس لا يمكنهم أن يفهموا ذلك، وأعني بالخصوص أولئك الذين لم يتضوروا جوعًا يومًا ما، نحن لم نحتفل يومًا بعيد ميلاد لأحدنا، لأننا لا نملك المال لفعل ذلك، الأصدقاء والأقارب كانوا يمنحونك قُبلة بمناسبة عيد ميلادك، وتلك القُبَل كانت بمثابة أكبر هدية، فالفقراء لا يخذلونك ولا يتخلون عنك أبدًا».

دييجو أرماندو ماردونا متحدثًا عن نشاته الفقيرة.

محمد البرمي