الجدل الكبير الذي كان محيطًا بالسيد الصادق المهدي طوال حياته، اختفى فجأة مع مرضه ووفاته بفيروس كرونا اللعين. أحاطت به قلوب السودانيين، وكل من عرفه خارج السودان.

بعض الشباب السوداني المتمرد من شباب الثورة ولجان المقاومة، أبدو دهشتهم من سياسيين وصحفيين سودانيين كانت لهم رؤي معارضة للمهدي، ويصل بعضهم لحد العداء الصريح، وتحميل الرجل كل آثام الانتهازية السياسية. ورغم ذلك، ارتفعت أيادي الجميع  بالدعاء وهو يلقبون الزعيم السياسي والإمام الديني بـ”أبوي”.

اقرأ أيضًا: كانت مصر منفاه الاختياري.. من هو الصادق المهدي الذي تحققت رؤياه في حسني مبارك؟

وربما تكون الثلاثة عقود التي عرفتُ فيها السيد الصادق المهدي، تحاول أن تقترب من أسباب هذه الحالة التي يشعر معها الجميع أن مساحة ووزن إمام الأنصار لن يعوضها أحد.

أول مرة التقيت فيها بالرجل، كانت عام 1992 بمنزله في منطقة ود نوباي بمدينة أم درمان. كنت أحضر مؤتمرًا بالخرطوم مع وفدِ مصري، وطلب مقابلة الصادق المهدي بالطرق الرسمية آنذاك في الدولة السودانية التي وطأتها قدماي للمرة الأولى شابة لا تملك خبرة بالتعقيد السياسي السوداني، ولم تحدد موقفًا من طبيعة نظام الحكم الذي كان يرفع شعارات “نأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع”. ولأني من الفريق المناصر لتجار الاستقلال الوطني، أغوتني شعارات الانقاذ، ورغم ذلك، كان هؤلاء المسؤولون عن القبض علي من منزل الصادق المهدي، بتهمة بأني جاسوسة مصرية جئت لأمول المعارضة السودانية بـ700 دولار كنت أملكها في محفظتي!

عرفت أن انحيازات الصادق المهدي لنظم الحكم الديمقراطية لا يعود فقط لمصالحه السياسية، وإنما يعود أيضًا لتكوينه التعليمي

على أية حال، كُتب لي السلامة بعد اعتقال قصير، بينما بقي المهدي محدد الإقامة في منزله لعدة شهور لاحقة.

في لقائي الأول، استبقلني السيد الصادق المهدي بحفاوة وود آسر. ووجدت عشاءً مصريًا فاخرًا بانتظاري. وعلى مدار ثلاث ساعات تقريبًا، عرفت أن انحيازات الرجل لنظم الحكم الديمقراطية، لا يعود فقط لمصالحه السياسية، حيث أزيح عن الحكم كرئيس للوزراء بانقلابين عسكريين على يد كل من الرئيس الراحل جعفر نميري والجبهة القومية الإسلامية بواجهة عمر البشير عام 1989.

لكن هذا الانحياز، يعود أيضًا لتكوينه التعليمي، ومدى مساهمة هذا التعليم في بلورة شخصية المهدي من حيث الإيمان بالديمقراطية كقيمة عظمى، والانفتاح الفكري والثقافي على العالم، حيث قدم العديد من المؤلفات الهامة، منها: “مستقبل الإسلام في السودان”، “الإسلام والنظام العالمي الجديد”، “السودان إلى أين؟”، و”مسألة جنوب السودان.. تحديات التسعينات”، فضلًا عن مؤلفات أخرى بعناوين “الديمقراطية عائدة وراجحة” و”جهاد من أجل الاستقلال”.

مدرسة فيكتوريا بالإسكندرية في مصر، وكما قال لي بعد ذلك؛ لعبت دورًا كبيرًا في تكوينه الذهني والفكري. وهي المدرسة التي زامل فيها الملك حسين، عاهل الأردن الراحل، وكذا فتى الشاشة العالمي عمر الشريف. كما حصل الصادق المهدي على ماجستير في الاقتصاد من جامعة أكسفورد خلال فترة النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين.

هذا النوع من التعليم الراقي، والمنتمي إلى أعرق الديمقراطيات العالمية، جعله في تقديري شخصًا مفتوح الذهن والفكر على مايدور حوله، مبادرًا ومتفاعلًا ومنتجًا للأفكار، وبغض النظر عن مدى اتفاقه معها، لكنها ساهمت من منظور الرجل، في الأزمات المطروحة على بلده وإقليمه، حيث ساهم أيضًا في بعض الأطروحات الفكرية الإسلامية، على نطاق العالمين العربي والإسلامي.

ولعل بلورة شخصية الصادق المهدي بهذا الشكل، تفسر انخراطه في أنشطة مناهضة للاستعمار الإنجليزي بلندن، مرة داعمًا لاستقلال بلده، ومرة مناصرًا لمصر ضد العدوان الثلاثي، رغم أنه كان من التيار المعارض لمصر في هذا التوقيت، حيث كان وأسرته وطائفته، ضد أي نوع من أنواع الوحدة مع مصر، منحازين جميعًا لفكرة الاستقلال التام عن دولتي حكم السودان: مصر وبريطانيا.

والعلاقة العدائية بين حزب الأمة والأنصار وبين مصر، لم تتبدل إلا بعد أن استضافت مصر كل أطراف المعارضة السودانية المناهضة لحكم البشير على مدى 15 عامًا تقريبًا، منذ عام 1996، حينما خرج الصادق المهدي من السودان هاربًا من الحدود الشرقية، في عملية عرفت باسم “تهتدون”. واستمرت هذه الفترة حتى عام 2005 تقريبًا، حينما عقد التجمع السوداني المعارض اتفاق القاهرة مع البشير، على اعتبار أنه خطوة نحو تحول ديمقراطي لم يف به نظام البشير حتى نهايته في 2019.

وفي تقديري، أثرت هذه الفترة في إدراكات الصادق المهدي وحزب الأمة على نحو إيجابي تجاه مصر، فهو من ناحية أدرك مناهج صناعة القرار على المستوي الرسمي المصري، وتعقيداتها تجاه السودان، ومن ناحية أخرى تفاعل وأعضاء حزبه مع البعد الشعبي لمصر، أي الناس العادية.

وعلى مستوى ثالث، كان تفاعل الصادق المهدي مع النخب الأكاديمية والرأي العام المصري، كبيرًا لفترة تزيد عن عقد ونيف، سواءً بحضوره للمؤتمرات السياسية والعلمية، أو باستضافة الجامعات ومراكز الأبحاث المصرية له محاضرًا فيها في كافة أنواع القضايا.

أما ثالت عناصر تكوين رئيس الوزراء الوحيد المنتخب ديمقراطيًا في السودان طوال تاريخه المعاصر، فهو موقعه الديني كإمام لطائفة الأنصار، التي تقاسمت انتماء السودانيين مع طائفة الختمية، خصوصًا في الأرياف وبين المزارعين، بينما كان للموظفين والعمال وسكان المدن انحيازات لأحزاب اليسار، خصوصًا الحزب الشيوعي.

ويمكن القول إن فترة وجود المهدي بالقاهرة، أتاحت لي على المستوي الشخصي، اقترابًا كبيرًا من الرجل على المستوي الإنساني. وبحكم عملي مارست نوعًا من أنواع التقييم الذي يمكن أن يوصف بالقسوة النسبية لفترة حكمه القصيرة للسودان، سواء من حيث إلغائه لميثاق التكامل المصري السوداني الذي عقده الرئيسيين السادات ونميري، أو من سوء الإدارة السياسية لفترة حكمه، ما مهد لانقلاب البشير عليه بهندسة صهره حسن الترابي الذي تزوج أيضًا أخت المهدي، السيدة وصال.

وفي حقيقة الأمر، في هذا النوع من الجلسات، كان للرجل مبرراته القائمة على أن فترات الديمقراطية قصيرة في السودان، وكذلك مبررات أخرى قائمة على عدائه لليسار، أو ما يسمى بـ”القوى الحديثة في السودان”، وممارستها تحريضًا على نظام حكمه، عبر ما أسماه هو بـ”فوضى الصحافة”.

من الأمانة أن أعترف بسعة صدر الرجل، وقدرته على النقاش الممتد، وأيضًا على الاحتواء الإنساني

وربما يكون من الأمانة أن أعترف بسعة صدر الرجل، وقدرته على النقاش الممتد، وأيضًا على الاحتواء الإنساني. ولعل هذا الطابع الإنساني للصادق المهدي، هو ثاني أسباب تفرده كزعيم سياسي.

اقرأ أيضًا: من يقف وراء عدم تسليم البشير للجنائية الدولية؟

عداء المهدي لليسار ظل قائمًا وممتدًا حتى آخر ثورات السودان، وهو ماجعله متهمًا في أوساط شباب ثورة 2019 بأنه حاول إجهاض الثورة، وكذلك الفترة الانتقالية الحالية عبر تحالفات إقليمية، وهؤلاء يستندون في أطروحاتهم على أنه هبط إلي السودان بعد فترة من ملاحقات نظام  البشير له، مبشرًا بتوافق سياسي، ومخاطبًا الجمهور الذي استقبله عشية الثورة في الخرطوم، بموضوع أُعد سلفًا، لم يكن له علاقة بغليان الشارع السوداني.

ولعل ما يؤد هذه الرؤية، هي توقعاته التي قالها لي في إحدى زياراته للقارهة بعد الثورة، بأن الحكومة الانتقالية عمرها قصيرة.

ومع فقدان السيد الصادق المهدي، بكل قيمته ومكانته السياسية والدينية والإنسانية، وبخبراته المتعددة؛ سيكون صعبًا تعويض هذا الفراغ الكبير.

وفضلًا عن خسارتنا الشخصية، فإن معسكر مناهضة التطبيع مع إسرائيل في السودان، هو أهم الخاسرين من غيابه في هذا التوقيت الصعب، حيث جاهر بمناهضته لهذه العملية من منظورين ديني ووطني.