صباح الجمعة، كفن الحزن شوارع العاصمة السودانية الخرطوم، واحتشدت جماعة الأنصار، والسودانيين عمومًا، لاستقبال جثمان الزعيم السياسي السوداني الصادق المهدي الذي رحل عن عمر ناهز الـ85 عامًا.
وفجر أمس الخميس، توفي الصادق المهدي بالإمارات التي وصل إليها قبل نحو ثلاثة اسابيع بطائرة خاصة، بعد إصابته بكورونا.
وبعد خبر الوفاة، بدت مدينة أم درمان في حالة من الأسى والحداد، بعد أن ألقت نظرة الوداع الأخيرة على جثمان رئيس جماعة الأنصار والزعيم التاريخي لحزب الأمة السوداني.
تشييع الصادق المهدي بجنازة عسكرية
أقيمت للصادق المهدي جنازة عسكرية، باعتباره آخر رئيس وزراء منتخب للسودان، قبل أن يطيحه الرئيس المعزول عمر البشير في انقلاب عسكري عام 1989 دبرته الحركة الاسلامية، وأجهض التجربة الديمقراطية الثالثة في السودان.
كثير من الأصوات رجحت أن تؤول رئاسة حزب الأمة إلى نجل الصادق المهدي، اللواء عبدالرحمن
أُعلن الحداد رسميًا على المهدي لثلاثة أيام، فيما رافقت جثمانه الذي وصل ممدًا داخل صندوق خشبي، فرقة من الجيش، عزفت السلام الجمهوري. ولُفّ جسده بعلم الدولة المهدية التي أسسها جده محمد أحمد المهدي (1885 – 1899)، قبل أن تخف به خيول مطهمات كتقليد راسخ، ليوارى الثرى أخيرًا في مقبرة عتيقة داخل حوش الخيفة بالعاصمة التاريخية أم درمان.
خليفة المهدي المحتمل
تشييع المهدي صاحَبته حالة تدافع ومخالطة بشرية، تحدت الاحترازات الصحية لمواجهة الموجة الثانية من جائحة كورونا، في وقت يخضع فيه العديد من أفراد أسرة المهدي للحجر الصحي بالداخل، بمن فيهم مريم الصادق، التي باتت أقرب إلى لعب دورٍ أكبر في العمل الحزبي والسياسي بالسودان.
لكن كثير من الأصوات رجحت أن تؤول رئاسة حزب الأمة إلى اللواء عبدالرحمن الصادق المهدي، نظرًا لتقدير الجيش له، إضافةً إلى أنّ عبد الرحمن، وهو الابن الأوسط لوالده، رشحته الأسرة من قبل ليصبح مساعدًا للبشير داخل القصر الجمهوري، كي يتعلم مهارات الحكم، ويتعرف على تعقيدات إدارة البلاد من داخل القصر الرئاسي، وهو ما نجح فيه نسبيًا، وفقًا لما يراه البعض.
غير أنّه، وبالرغم من الفراغ السياسي الذي سيتركه الصادق المهدي، لكن لم يُعلن عن تركه وصية تفض الاشتباك بخصوص خليفته في الحزب وزعامة جماعة الأنصار، وهو الذي نجح في وقت مبكر من عمره، الجمع بين قيادة حزب الأمة وإمامة جماعة دينية ذات نزوع ثوري.
وكان آخر ما كتبه الصادق المهدي، وصية مطولة، ظهرت منها صفحة واحدة، ينعي فيها روحه، قائلًا: “أفضل الناس في هذا الوجود شخص يترحم مشيعوه قائلين: وقد شيعنا حقاني إلى الحق، إن إلى ربك الرجعى”.
القيادة الروحية والزمانية
وهب المهدي فكره وحياته للعمل العام، دون أن يزعم لمواقفه السياسية واجتهاداته قداسة وعِصمة من النقد، فلم يفقد حظوظه في القيادة الروحية والزمانية، كرجل حكيم من الأمة السودانية.
تولى رئاسة الوزراء مرتين، وألف أكثر من 100 كتاب حول الديمقراطية والحرية والإسلام والعلاقات الدولية. وقد ارتبطت ولادته بما يعتقد البعض أنه “إشارات غيبية” فُتلت على جديلة الخلق الاستثنائي في شخصيته، فيما جاء موته ليضاعف أحزان وحيرة السودانيين.
وكتب رئيس حركة “الإصلاح الآن”، غازي صلاح الدين تدوينة على صفحته بفيسبوك، قال فيها إن وفاة الصادق المهدي “أحدثت فجوة كبيرة في السياسة السودانية، ليس من السهل تقدير أبعادها ولا آثارها القريبة والبعيدة”.
وأضاف غازي: “امتدت مساهمات الراحل إلى خارج السودان، فكانت له صلات واسعة في المنطقة العربية والإسلامية، كما أنه كان من المؤمنين بقضية حوار الحضارات وله مساهمات كبيرة فيها”.
المهدي ومصر.. علاقة مصالح
رغم أن حزب الأمة، في منطلقاته التاريخية، هو كيان سياسي هدف إلى تحقيق المطامح الوطنية، والاستقلال عن دولتي الحكم الثنائي (بريطانيا ومصر) آنذاك، ويُعتبر المناوئ الأبرز للحركة الاتحادية التي نادت بوحدة وادي النيل؛ إلا أن الصادق المهدي لم يسفر عن أي عداء لمصر، وظل في حالة سعي متواصل لتجسير الهوة بين البلدين.
وتطبعت علاقة الصادق المهدي بمصر منذ أيام الدراسة الجامعية، حيث التحق بكلية فكتوريا بالإسكندرية عام 1948، قبل أن يتركها لأسباب ثقافية.
وظل منذ ذلك الوقت ينظر إلى مصر كجارة يستدعي التقارب معها حلّ جميع الخلافات، بما يحفظ حقوق البلدين في مياه النيل والمناطق الحدودية المتنازع عليها (حلايب وشلاتين)، مطالبًا بصورة قاطعة إبعاد الأجندة الحربية.
واختار المهدي مصر منفى اختياري له، وظل يلجأ إليها باستمرار متى حدثت انقلابات عسكرية في السودان أو ضُيّق عليه. وكانت القاهرة آخر محطة أقام فيها قبل سقوط نظام البشير، وذلك بعد الحكم عليه بتهم مختلفة في عام 2014، وصلت إحدى الأحكام للإعدام.
لكن في يوليو 2018، وعند وصول الصادق المهدي من برلين، بعد مشاركته في اجتماع المعارضة السودانية المعروف باسم “نداء السودان”، رفضت مصر دخوله لأراضيها، حيث كان يقيم منذ مارس 2018 ويتنقل منها بحرية. وطالبته السلطات حينها بالمغادرة من المطار، بعد انتظاره عدة ساعات بصالة كبار الزوار، لكنها عادت وسمحت له بالدخول مرة أخرى بعد تفاهمات مع الخرطوم.
المنفى الاختياري
ينظر المحلل السياسي ورئيس تحرير صحيفة التيار السودانية، عثمان ميرغني، لعلاقة الصادق بمصر من منطلق توازن المصالح بينهما.
وقال عثمان لـ”مصر360″ إن المهدي ظل يتخذ من مصر منفاه الاختياري، وأحيانًا تطلبه له الحكومات السودانية، ليكون تحت نظرها، كما فعلت مع عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي الراحل، والرئيس الأسبق جعفر النميري.
وأضاف ميرغني: “مصر دولة مفتاحية، وهي أنسب مكان ليقيم فيه المهدي، حيث يسافر إليها أحيانًا للتفرغ للكتابة، وأحيانًا عندما تسوء علاقته بالنظام الحاكم في السودان”.
وأرجع ميرغني توتر علاقة مصر بالمهدي في الموقف المذكور سابقًا، إلى خروجه عن طوعها، والذهاب إلى برلين لاجتمعات تضم الحركات المسلحة التي كانت تقاتل النظام السابق، لافتًا إلى أن القاهرة كانت تتعامل مع المهدي كواحد من القيادات السياسية المهمة، والحريصة على أن تكون لها صلات مستمرة بها حتى لو اختلفت وجهات النظر.
اقرأ أيضًا: من قائمة الإرهاب إلى المواجهة …”الآن يمكنكم دعم السودان”
وبالفعل كانت بعض مواقف الصادق المهدي تتعارض مع المواقف المصرية الرسمية، خصوصًا في ملفي التطبيع مع إسرائيل وإعادة تقسيم مياه النيل.
المهدي ورؤيا حاكم مصر
ولعل أكثر ما هو مثير للدهشية في علاقة المهدي بمصر، أن تطورات الأحداث فيها ظلت تؤرقه حتى في المنام. وقد حكى في حوارات صحفية، أنه في نوفمبر 2010، رأى في منامه من يخبره بأنه سيتناول الإفطار مع رئيس مصر، وحين ذهب لم يجد الرئيس حسني مبارك، وإنما شخص آخر، ليؤل حلمه بزوال حكم مبارك!
وبالجملة، لدى الراحل الصادق المهدي، كما يخبر بنفسه، رحلة طويلة مع الأحلام المتحققة. قال عن ذلك: “لدي 20 رؤية تحققت من قبل”.