فقد أحمد التهامي وظيفته “تدريجيًا” كمُدخل بيانات بإحدى مؤسسات المجتمع المدني الناشطة بمحافظة الإسكندرية. خُفض راتب التهامي من ستة آلاف جنيه إلى أربعة آلاف، لكن غيره من العاملين بالمؤسسة، استُغني عن خدماتهم.
مؤسسة التهامي ليست استثناء بكل تأكيد، إذ فقد كثيرون ممن يعملون بالمؤسسات المدنية فرص عملهم الأساسية، في إطار سياق مخنوق تعيشه تلك الشريحة في السنوات الأخيرة، تسبب في توقف أنشطة وتعطل منح واردة من الخارج لهذا القطاع.
وخلال السنوات الأخيرة، تعرضت مؤسسات المجتمع المدني في مصر لتضييقات متعددة المستويات من قبل الحكومة المصرية، كان آخرها أمنيًا بالقبض على ثلاثة مسؤولين بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، تسببت في حملة واسعة من الانتقادات المحلية والدولية، كان من بينها إدانة الأمم المتحدة، وإعرابها مرتين عن قلقها من استمرار حبس موظفي المبادرة المصرية.
ما يعتبره حقوقييون “خنقًا” للمجتمع المدني المصري، يؤكدون أيضًا أنه ينسحب بخسائر اقتصادية وإعلامية على البلاد، رغم تأكيدات الحكومة المستمرة على جهودها في ملف حقوق الإنسان وفقًا للمقررات الدولية.
خسائر اقتصادية للتضييق على المجتمع المدني
يؤكد حقوقيون مصريون أن حملات التضييق على المجتمع المدني في مصر، تتسبب في خسائر اقتصادية مباشرة وغير مباشرة.
وقال جمال عيد، المدير التنفيذي للشبكة العربية لحقوق الإنسان، إن الخسائر الاقتصادية من التضييق الأمني على المجتمع المدني “هائلة”، لافتًا إلى مستويات متعددة للخسارة.
اقرأ أيضًا: أمين الأمم المتحدة ينضم إلى “حملة القلق” من حبس موظفي المبادرة المصرية
في عام 2016، أغلقت قوة أمنية فروع مكتبات الكرامة لمؤسسها جمال عيد، في أحياء القاهرة، قبل أن يشمل الإغلاق جميع فروعها في الجمهورية. وكانت مكتبتا الكرامة، تقدم خدمات ثقافية مجانية لأبناء المناطق التي تتوفر بها فروع للمكتبة، وهي مناطق في أغلبها عشوائية ومهمشة، مثل دار السلام وطرة والخانكة. بإغلاقها خسرت تلك المناطق رافدًا ثقافيًا ومساحة للأنشطة الاجتماعية والتعليمية، كانت تساهم في سد فجوة حكومية.
يؤكد جمال عيد في حديثه لـ”مصر360″ أن قطاعًا كبيرًا من المواطنين “يعيش في أماكن نائية تهملها الحكومة ولا تشعر بها أو تهتم بها”، ساهم المجتمع المدني بأدوار تنموية في هذه المناطق، والتي تضمنت أيضًا عملًا حقوقيًا تثقيفيًا. “مؤسسات المجتمع المدني قدمت في هذه المناطق خدمات المرافق الأساسية، مثل الصحة والصرف الصحي، وكذلك التعليم، وأيضًا الثقافة والوعي والمساعدة القانونية”، يقول جمال عيد.
نجاد البرعي: “لا يمكن إنكار الآثار الاقتصادية الوخيمة على المجتمع المدني”
على مستوى آخر، خسرت البلاد أموالًا، بالعملة الصعبة غالبًا، كانت تدخلها منحًا لمؤسسات المجتمع المدني. وعادة ما تدور هذه الأموال عبر البنوك والقنوات الرسمية لدورة رأس المال، ما يعني استفادة مباشرة للدولة، إضافة إلى استخدامها في مشاريع تنموية متنوعة.
وبسبب التضييق الأمني على المجتمع المدني المصري، قلصت الجهات المانحة، بدرجة كبيرة، الأموال التي كانت تصل مصر من الجهات المانحة، وفقًا لعيد.
على هذا، يعلق المحامي الحقوقي نجاد البرعي، في حديث لـ”مصر360″، بأنه “لا يمكن إنكار الآثار الاقتصادية الوخيمة للتضييق على المجتمع المدني”. ويشير البرعي إلى الأموال التي كانت تدخل للدولة بـ”بطرق شرعية ومن خلال البنوك”، والتي كانت المنظمات “تدفع مقابلها ضرائب”، كما يشير إلى توفير هذه المؤسسات فرص عمل مباشرة وغير مباشرة عن طريق أنشطتها.
لكن، على جانب آخر، تراجعت أيضًا الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مصر، للعام الثاني على التوالي لأدنى مستوياته في آخر خمس سنوات، بحسب بيانات البنك المركزي.
ولا يمكن هنا التغاضي عن وضعية المجتمع المدني في هذا السياق، إذ يلعب ازدهاره، وخفض مستويات التضييق الأمني، دورًا في طمأنة المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال الأجانب.
عودة لنموذج مكتبات الكرامة، إذ كانت توفر هذه المؤسسات خدماتها لأكثر من 260 ألف طفل ومراهق، قبل أن تتوقف بحملة أمنية، دون أن تتوفر لهؤلاء أي بدائل حكومية.
فرص عمل ضائعة
من جهة أخرى، توفر هذه المؤسسات، مصادر دخل لخزينة الدولة عبر الضرائب العامة وضرائب الدخل التي تدفعها، كما أنها توفر، بطبيعة الحال، فرص عمل، تسبب التضييق الأمني في تقليلها أو تقليل رواتب العاملين بها. بهذا الشكل، يصبح المواطن خاسرًا، ولو بصورة غير مباشرة، من التضييق على المجتمع المدني، فضلًا عن خسائر من نوعٍ آخر.
يؤكد المحامان نجاد البرعي وجمال عيد أن “العديد من الأشخاص فقدوا عملهم أو خفضت رواتبهم بسبب ما يمارس على المجتمع المدني من تضييق”. من هؤلاء ياسين عبدالله، الذي كان يعمل “أوفِس بوي” بإحدى مؤسسات المجتمع المدني بالقاهرة، قبل أن يُستغنى عن خدماته: “من أكتر من سنتين بدأوا يقللوا المرتب لأنه مفيش فلوس كفاية للمرتبات، وبعدها بلغوني الاستغناء عني”، كما قال.
كان الوضع أفضل مع أحمد التهامي، فلم يفقد عمله بمؤسسة مدنية بالإسكندرية، لكن راتبه خُفض بمعدل الثلث، من ستة آلاف جنيه إلى أربعة آلاف.
ينضم فتحي فريد، المسؤول بجمعية مساواة للتدريب والدراسات، إلى قائمة النشطاء المدنيون الذين يؤكدون الضرر الاقتصادي الواقع من “خنق المجتمع المدني” في مصر.
ويؤكد فريد على أن المواطن هو أكبر المتضررين، كون المنظمات المدنية، كانت تقدم خدمات متنوعة للمواطنين في مناطق يغيب عنها أثر الدولة بشكل كبير.
خسائر إعلامية و”سمعة”
تعتبر قضية التمويل الأجنبي، أحد أبرز محطات المواجهة بين الحكومة المصرية والمجتمع المدني، حين اتُهم 43 ناشطًا، مصريون وغير مصريين، بـ”إنشاء مؤسسات أهلية دون ترخيص، والحصول على تمويل أجنبي بقيمة 60 مليون دولار دون ترخيص”.
وبعد الإدانات للمتهمين الـ43 في القضية التي بدأت من عام 2011، حكم على كل من فيها بالبراءة في ديسمبر 2018، لكن مع ذلك، لا تزال بعض الأصوات الإعلامية تدين المحكوم لهم بالبراءة باعتبارهم مدانين في القضية.
اقرأ أيضًا: موقف حقوقي: لا للتوسع في حظر السفر.. والجلسات العرفية ليست حلا للتهجير القسري للمسيحيين
على خلفية هذه القضية التي استمرت لنحو سبع سنوات، تعدد مصادر الانتقاد والتنديد دوليًا بما وصف بالتضييق على المجتمع المدني واستهداف حقوق الإنسان في مصر. أساء ذلك لصورة مصر دوليًا، أو كمال قال عيد: “صورة مصر بالخارج باتت قاتمة، وتعتبرها أغلب دول العالم دولة مستبدة”.
يتفق نجاد البرعي مع عيد في ما وصل إليه، قائلًا لـ”مصر360″ إن “تقدم صورة مصر في الخارج، وعبر وسائل الإعلام، على أنها دولة قمعية”، معتبرًا بذلك أن “الدولة خسرت فعليًا ما لم يمكن تعويضه، بسبب هذا الهجوم الذي كان يمكن أن يكون تعاونًا مثمرًا لصالح البلد”.
ويرى البرعي أن ما أسماه بـ”الطريق التي اختارته الحكومة” في التعامل مع المجتمع المدني، يقصد “الهجوم والملاحقات الأمنية”؛ لا يخدم الاستقرار، على حد قوله.
المجتمع المدني “ستار لمعاداة الدولة”؟
على الجانب الآخر، ومع تجاوز التكلفة الاقتصادية، ترى داليا زيادة، مديرة مركز دراسات الديمقراطية الحرة، أن بعض المؤسسات المدنية تجعل من العمل الحقوقي “ستارًا لسياسات معادية للدولة”، متهمةً هذه المؤسسات بالعمل وفق أجندة تدعمها جماعة الإخوان المسلمين.
جاءت تصريحات زيادة على خلفية القبض على ثلاثة من مسؤولين المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. وقالت زيادة أن المؤسسات المدنية التي أشارت لها، “تتوقع عودتها في الأيام المقبلة، بعد إعلان فوز جو بايدن”، لذا فهي تعتقد أنه “يجب مواجهة هذا الأمر بصرامة أكثر من قبل الدولة لتحقيق الاستقرار، بجانب نشر الحقائق وتوعية الرأي العام العالمي بخطورة هذه المنظمات والتأثير السلبي وأكاذيبها وتحيزاتها السياسية على العلاقات بين الدول”، على حد قولها.
لكن المحامي الحقوقي نجاد البرعي، يرى أنه على العكس من ذلك، فإن هذه الطريق التي اختارته الحكومة في التعامل مع المجتمع المدني من ملاحقات أمنية “لا تخدم الاستقرار”.