في أربعينية الحسين، خلال الشهر الماضي، والذي صادف مرور الذكرى الأولى لاندلاع المظاهرات الشعبية العراقية، أو ما عرف بـ”انتفاضة تشرين”، ضد الفساد وتوغل النفوذ الإيراني، حدثت مواجهات عنيفة ومحتدمة بين زوار مرقد الحسين، في محافظة كربلاء، وسط بغداد، من جهة، وعناصر الميلشيات الولائية، المدعومة من إيران، وكذا أنصار التيار الصدري، التابع للزعيم الشيعي، مقتدى الصدر، من جهة أخرى.

وفي ظل التعبئة الشعبية المتواصلة، منذ ما يقارب العام، تحولت المناسبة الدينية التي خضعت لعقود في ما يخص تنظيمها وإدارتها، السياسية والأيدولوجية، لهيمنة الميلشيات الطائفية، إلى فرصة للاحتجاج على توغلهم، وخرق النفوذ التقليدي لهم. 

وإلى جانب الهتافات والشعارات المضادة، رفع المحتجون صور ضحايا التظاهرات الذين سقطوا في الساحات والميادين، في مقابل صور قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، وأبو مهدي المهندس، القيادي بالحشد الشعبي العراقي، واللذين قتلا في غارة أمريكية، مطلع العام الحالي، وقد ظهرت بين عدد من الوفود، خلال الزيارة الأربعينية، وفي مواكب العزاء.

صدامات مستمرة

تعد الصدامات المستمرة بين أنصار التيار الصدري والمحتجين في العراق، خلال الشهر الجاري، استئنافاً لحالة الضغط الشعبي القائمة، منذ الشهر الماضي، لاسيما بعد انخراط الصدر في الجدل الدائر مع “متظاهري أكتوبر”، والتهديدات التي رددها من خلال تغريداته عبر حسابه الرسمي في موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”.

ووصف الصدر المتظاهرين بـ”المندسين الذين يتغلغلون بين المحتجين لإثارة الفوضى والفتنة”. وغرد عبر حسابه الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”: “إن المخربين يخططون لفتنة بدعم خارجي مشبوه”.

دشن المتظاهرون هاشتاغ (#مقتدى_الصدر_قاتل)، عبر منصات التواصل الاجتماعي بالعراق، حيث اعتبروا الاعتداءات التي جرت من جانب أنصار الصدر، الجمعة الماضية، “مجزرة ثانية”.

 وقد أسفرت عن مقتل خمسة متظاهرين، وإصابة نحو 80 آخرين، بحسب البيانات الرسمية، الصادرة عن وزارة الداخلية العراقية، بينما تشير تقديرات حقوقية أخرى إلى ارتفاع عدد القتلى إلى سبعة أشخاص. 

من جانبه، أكد محافظ ذي قار، ناظم الوائلي، أن الوضع الأمني في المحافظة مستقر، بينما حظر التجول جاء تحسباً لأي طارئ، فقط، مؤكداً على “حيادية” قوات الأمن، وعدم انحيازها لطرف على حساب الآخر. 

بيد أن رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، أصدر عدة قرارات من بينها، إقالة قائد الشرطة في المحافظة، وتشكيل لجنة للتحقيق في الأحداث، كما ألغى تصاريح حمل السلاح، بهدف “منع أي تداعيات تضر بالسلم الأهلي في العراق”، بحسب الناطق الرسمي بلسان رئاسة الوزراء، اللواء يحي رسول.

وأضاف رسول أن “توتير الأوضاع في العراق ليس في مصلحة البلد، وأن لا بديل عن القانون والنظام والعدل ومن ضمن ذلك العدل تجاه الدماء التي أريقت في الأحداث”.

وضعية التيار الصدري

للتيار الصدري خصوصية في العراق بخلاف التيارات السياسية والطائفية الأخرى، التي تشغل حيزاً مؤثراً في الأوساط الشيعية، إذ إنه يمثل أحد أهم المدارس الحوزوية، ويعد من بين المرجعيات الدينية التاريخية، التي ظلت تتخذ موقفاً ضد الجمهورية الإسلامية في إيران، فرفضت الالتحاق بـ”التشيع” الإيراني، ووقفت أمام مقولاتها السياسية والعقائدية مثل “تصدير الثورة”، وبنفس الدرجة، تصدت للتأويلات الدينية والأيدولوجية لمبدأ الولي الفقيه، في نسخته الخمينية، بينما ظلت تحتمي بمرجعية “النجف” في مقابل مرجعية “قم”.

وعليه، يعارض الصدريون كافة التيارات الشيعية المدعومة من طهران، مثل الحشد الشعبي، وعصائب أهل الحق، ومنظمة بدر، بل أن التيار الصدري انخرط في صراعات دموية مسلحة مع ميلشيات “العصائب”.

واقع سياسي مأزوم

تعكس أحداث العنف في العراق، واقعاً سياسياً مأزوماً، حسبما يوضح الباحث العراقي، منتظر القيسي، والذي يرى أن الصدر الذي تراجع عن موقفه بصدد عدم المشاركة في الانتخابات النيابية العراقية، المزمع إجراؤها في يونيو العام المقبل، بدأ يتهيأ من خلال عناصره شبه العسكرية لإحباط الحراك الشعبي، وتنشيط قواعدة الشعبية.

ويضيف القيسي لـ”مصر 360″، أن الصدر الذي يتحرى الفوز بأغلبية في مجلس النواب، بل ويسعى إلى تسمية رئيس الوزارء من التيار الصدري، يمثل صدامه العنيف مع المتظاهرين قلقاً، على أكثر من مستوى، لاسيما في ظل المتغيرات المتسارعة بالمشهد السياسي العراقي، حيث يتحرك نحو تحشيد قاعدته، والتي تعرضت مثل غيرها إلى هزات عقب الانتفاضة الأخيرة، وبالتالي، تحتاج القواعد الاجتماعية إلى دور مضاعف من خلال الكتل الشيعية، لإعادة بناء سردياتها السياسية، بهدف تحفيزها وضمان فعاليتها.

وأعلن الصدر تراجعه عن قراره بعدم خوض الانتخابات المقبلة، في النصف الثاني من الشهر الجاري، حيث قال في بيان رسمي: “إن بقيت وبقيت الحياة سأتابع الأحداث عن كثب وبدقة، فإن وجدت أن الانتخابات ستسفر عن أغلبية (صدرية) في مجلس النواب أنهم سيحصلون على رئاسة الوزراء، وبالتالي سأتمكن بمعونتهم وكما تعاهدنا معاً على إكمال مشروع الإصلاح من الداخل، سأقرر خوضكم الانتخابات”.

وتابع: “السبب الذي أدى إلى قسمي بعدم دخول الانتخابات سيزول وأكون في حل من نفسي، لنخلص العراق من الفساد والتبعية والانحراف”، مضيفاً: “يا أيها الأحبة إن الدين والمذهب والوطن في خطر، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”.

اقرأ أيضا:

بعد حذف خانة المذهب.. إلغاء المحاصصة أبرز مطالب الاحتجاجات في العراق

استعراض سياسي؟

ومثلما قام عدد من قيادات الميلشيات المدعومة من طهران، بتنظيم موكب ديني هائل، بعد الهتافات ضدهم، في أربعينية الحسين، قام التيار الصدري بالأمر ذاته، قبل أيام قليلة، وذلك بهدف “استعراض القوة السياسية، ومحاولة ترميم العلاقة مع حواضنهم المجتمعية أو تمرير صورة تعكس التماسك والصلابة، في ظل المنافسة الانتخابية الصعبة على إثر الاحتجاجات الشعبية، بالإضافة لبعث رسائل لعدم أطراف وقوى محلية”. يقول الباحث العراقي منتظر القيسي.

وقبل شهر، انطلق موكب ديني، في كربلاء، سمي بـ”فصائل المقاومة الإسلامية”، شارك في تنظيمه وحضوره، الأمين العام لميليشيا “كتائب سيد الشهداء”، أبو آلاء الولائي، والمتحدث باسم تحالف ما يعرف بـ”الفتح”، الذراع السياسي للحشد الشعبي، أحمد الأسدي.

والأمر ذاته، حدث عقب الدعوة التي أطلقها صالح محمد العراقي، المقرب من التيار الصدري، والتي تسببت في خروج أنصار التيار، الجمعة الماضية، في تظاهرات في ساحة التحرير، التي يتواجد فيها ناشطو “انتفاضة تشرين”، وقد وصف ساحة التحرير بأنها “كادت أن تكون مكاناً للفاحشة ومعصية الله”.

وأضاف على حسابه الرسمي في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”: “وجب علينا أن نرفع صوت الله فيها”، داعياً أنصار التيار الصدري في بغداد وكربلاء والنجف إلى “الصلاة في ساحة التحرير صلاة الجمعة الموحدة”.

توقعات الانتخابات المقبلة

وإلى ذلك، يرى الباحث العراقي، علي ناجي، أن الانتخابات، تلك المرة، ستتم وفق قانون مختلف، وربما سيفاقم ذلك الأمر من تعقيدها، حيث سيضحى التصويت على الأفراد بديلاً عن اللوائح أو القوائم، كما سيجري تقليص نطاق الدوائر.

ويردف ناجي في حديثه لـ”مصر 360″: “بغض النظر عن استعراض القوة في المواكب التي تقوم بها الفصائل السياسية والدينية، فإن الوضع بالنسبة للتيار الصدري، يبدو صعباً ومعقداً للغاية، فقد حصل في ظل تحالفه مع القوى المدنية والعلمانية، من بينها الحزب الشيوعي العراقي، على نحو 65 مقعداً، في انتخابات العام 2018، وذلك في ظل شعبيته داخل البيت الشيعي، باعتبار أحد رموز المقاومة ضد النظام السابق للرئيس صدام حسين، والبعث، إضافة للاحتلال الأنجلو أمريكي”.

لماذا يبقي الصدر في المنطقة الرمادية؟

ويلفت ناجي إلى أن الصدر من بين قادة الكتل الشيعية الذين تمكنوا، خلال الفترة السابقة، من خلق صورة غير تقليدية عن زعماء التيار الشيعي، حيث أبقى نفسه في “المنطقة الرمادية” مع طهران، حسب وصفه، رغم زياراته المعلنة لها، حيث إنه زار أيضاً السعودية والإمارات، كما سجل مواقف سياسية جريئة حين طالب بتفكيك الحشد الشعبي بعدما حقق مهمته في قتال تنظيم داعش الإرهابي، وكذا مطالبته الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي. 

ورغم كل ذلك، فإن طموح الصدر الأخير بالحصول على أغلبية برلمانية، وأن يكون رئيس الوزراء من التيار الصدري، حسبما يتم الترويج لذلك، يبدو أمراً “غير وارد”، في ظل تراجع شعبيته، إثر انتفاضة تشرين، لاسيما وأنه لم يحظ بأغلبية أثناء مقبوليته، الاجتماعية والسياسية.