احترق دمي.
وارتفع ضغطي.
وأنا أتابع برنامج يتفكرون في حلقة خصصت لجدل الطلاق الشفهي.
هل يحق للرجل أن يطلق زوجته بثلاث كلمات؟ أم يمكن تقنين هذا الأمر من قبل الدولة؟
سؤال غريب.
يشبه إلى حد كبير السؤال “هل يحق للرجل التسري بالإماء (أي الجواري) اليوم؟
استضاف البرنامج الدكتورة آمال قرامي، أستاذة الفكر الإسلامي بجامعة تونس، والدكتور السيد فتح الله، عضو هيئة علماء الجمعية الشرعية.
مفكرتنا التونسية آمال قرامي تحدثت من منظور حداثي، يؤسس لرؤية تحترم كرامة وحقوق الإنسان. وهي في حديثها كانت قادرة على إظهار أن السجلات التاريخية، في نهاية الفترة المملوكية وفي الفترة العثمانية، تظهر أن الطلاق كان يجري بشاهدين ويوثق في المحاكم.
أما الدكتور السيد فتح الله فكان مصراً أن الدولة لا يحق لها أن تحل حراماً، أو تحرم حلالاً، وأن نطق الرجل بالطلاق شفاها، هو من ثوابت الدين والمعلوم من الدين.
ومع احترامي لشخصه الكريم فإن حديثه كان يعكس رؤية دينية “متخشبة” ظلت رهينة لقراءة فقهية مرتبطة بتاريخها، أي القرون الوسطى.
وتخشب الأزهر أصبح واضحاً للكثيرين والكثيرات.
تخشب يعكس إدراك هذه المؤسسة الدينية أنها بدأت تفقد سلطتها. سلطتها الدينية.
وأن الزمن يجري. يجري بعيداً عنها.
تحولت إلى كهنوت يصر على السيطرة على واقع الإنسان. تقول إن الإسلام لا يعرف كهنوت الكنيسة في القرون الوسطى (لم تعد كذلك اليوم) ولا ترى أنها هي نفسها أصبحت تجسيداً لكهنوت جديد، يصر على أن يكون وسيطاً بين الإنسان والرحمن. والأهم أنها في مواقفها اليوم تجسد أيديولوجية الإسلام السياسي، الذي يصر على أن الإسلام دين والدولة.
من الذي قال إن نطق الرجل بالطلاق شفاهاً هو “أمر إلهي”، لا يحق للدولة أن تقننه؟ من الذي قال إن الدولة عندما تستخدم حقها في حماية مواطناتها من الطلاق التعسفي، تحلل حراماً؟
لو أخذنا بحديث الشيخ على علاته، فهذا يعني أنه سيتعين على الدولة المصرية أن تفرض الجزية على مواطنيها ومواطناتها من المسيحيين والمسيحيات. هناك نص قرآني في الموضوع.
لو أخذنا بحديث الشيخ على علاته، فهذا يعني أنه سيتعين على الدولة المصرية أن تقطع يد السارق. هناك نص قرآني في الموضوع.
أو أن تقطع يد وقدم قاطع الطريق. هناك نص قرآني في الموضوع.
لو أخذنا بحديث الشيخ على علاته، فهذا يعني أنه سيتعين على الدولة المصرية أن تسمح للرجال بالتسري بالجواري، وتقبل ببيع الإنسان عبيداً وجواري. هناك نصوص قرآنية في الموضوع.
ومادامت الدولة المصرية كانت قادرة على تطوير قوانينها بما يتماشى مع مفهوم المواطنة المتساوية (أقول المواطنة المتساوية لا الشراكة)، ثم طورت قوانينها العقابية بحيث لا تشمل عقوبات بشعة تنتمي لزمانها (لاحظا أن الرسول الكريم لم يبتكر هذه العقوبات بل كانت هي السائدة في عصره، ولذا نجد القرآن يعكس تاريخه في هذا الجانب)، ثم حرمت ومنعت العبودية والتسري بالجواري باعتبار أن استعباد الإنسان يتناقض مع مفاهيم احترام كرامة الإنسان وحقوقه المتساوية.
مادامت الدولة المصرية فعلت كل هذا ولم يعترض شيخنا الأزهري عليها، رغم أنها في ذلك خالفت ما أسماه بالمعلوم من الدين، مادام الأمر كذلك، لِمَ يقف معترضاً على تقنين الطلاق الشفهي التعسفي؟
أم أن المسألة خيار وفقوس؟
الواقع، أن في كل ما يتعلق بحقوق المرأة، تقف المؤسسة الدينية الأزهرية موقفاً متصلباً يعكس وجهة نظر فقهية تنتمي إلى زمنها، القرون الوسطي من جديد.
ربما لذلك أتجنب استخدام تعبيرات فضفاضة مثل الشريعة الإلهية أو شريعة الله لوصف الشريعة. وهو ما تعرضت له في كتابي “الشريعة والمرأة”، الذي صدر عام 2016 عن دار أي بي تاوروس الأكاديمية البريطانية.
الشريعة هي فقه بشري.
أي أنها مجموعة من الآراء الفقهية التي تَوصل إليها فقهاء على مدار التاريخ الإسلامي، وخاصة بين القرنين السابع والعاشر الميلادي. يضع هذا التعريف الشريعة في إطارها البشري الزمني، فهي ليست مقدسة.
بل هي أراء فقهية لرجال ينتمون إلى زمانهم. نحترمهم، لكن آرائهم لا تلائم عصرنا هذا.
أراء فقهية بشرية، يمكن تغييرها.
عندما ننظر إلى الشريعة من هذا المنظور سندرك حدود ومواطن القصور فيها.
فنحن هنا لا نفكر في إمكانياتها النظرية لتوفير العدالة بعد مائة عام من اليوم. ما ننظر إليه في الواقع هو سياقها التاريخي وتنفيذها الفعلي على أرض الواقع، ومن ثم حدود ومواطن قصورها الواضحة.
الأكاديمي السوداني المعروف، عبداللهي احمد النعيم ـ الأستاذ في الدراسات الإسلامية _ قدم لنا توصيفا لواقع المرأة في الشريعة. النعيمي يقول بإن المرأة المسلمة “تتمتع بأهلية قانونية كاملة بموجب الشريعة فيما يتعلق بأمور القانون المدني والتجاري”، لكنها في نفس الوقت “لا تتمتع بحقوق الإنسان على قدم المساواة مع الرجل المسلم “.
ماذا يعني هذا؟
هذا يعني أنه بالإضافة إلى خلق مواطنة هرمية يقف على قمتها المسلم الذكر الحر (لا العبد)، فإن الطريقة التي تعامل بها الفقه مع وضع المرأة كانت متناقضة في كثير من الأحيان، حيث قدمت للمرأة بعض الحقوق وحجبت عنها الكثير من الحقوق الأخرى ، مع الحفاظ على فكرة أن الرجل المسلم هو الوصي وولي أمر المرأة.
دعونا نبدأ بالجزء الأول من توصيف النعيم. يقول إنه بموجب الشريعة، تتمتع المرأة المسلمة بالأهلية القانونية الكاملة فيما يتعلق بمسائل القانون المدني والتجاري. هذا يعني أنها يمكن أن تتملك وتبيع وتشتري كشخص له ذمة مالية مستقلة، وأنها عندما تتزوج يمكنها الاحتفاظ باسمها.
ومع ذلك، فإن النعيم محق أيضاً في القول إن النساء المسلمات لا يتمتعن، بموجب الشريعة الإسلامية، بحقوق الإنسان على قدم المساواة مع الرجال المسلمين.
في الواقع، تتعارض قوانين الشريعة مع أحكام اتفاقيات حقوق الإنسان الدولية.
اتفاقيات حقوق الإنسان واضحة حول المساواة بين الرجل والمرأة.
جوهرها هي المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948: “يولد جميع البشر أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق”.
مهد هذا المبدأ الأساس للمادة 16 من نفس الإعلان والمادة 16 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.
تصور المادتان الزواج والعلاقات الأسرية كشراكة متساوية يتم الدخول فيها والعيش فيها وحلها من قبل كل من الرجل والمرأة على قدم المساواة. و يُبرم الزواج من قبل شخصين بالغين (أي الثامنة عشره) ، بموافقتهما الحرة والكاملة ، دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين. وينبغي أن يكون للزوجين نفس الحقوق والمسؤوليات فيما يتعلق بالوصاية على الأطفال، وفي الحق في اختيار اسم الأسرة والمهنة والوظيفة، ونفس الحقوق فيما يتعلق بحيازة الممتلكات وإداراتها والتمتع والتصرف فيها، ثم تقسيمها بعد الطلاق.
قواعد الفقه الكلاسيكي، في المقابل، لازالت تعيش في قوقعة زمنية تعود إلى قرون ماضية. فالمرأة جزءٌ من هيكل اجتماعي هرمي، يسيطر عليه الرجل في القمة. وكشخصية قانونية يتم التحكم في المرأة قبل زواجها من قبل ولي أمرها، وبعد زواجها من قبل زوجها، وعند الطلاق تميز قواعد الفقه بشكل واضح ضدها.
شيخنا الأزهري ومؤسسته يصران على العيش في قوقعة الماضي.
لا يقبلان بتغيير يحترم في جوهره كرامة الإنسان وحقوقه المتساوية.
شيخنا الأزهري ومؤسسته يصران انهما هما، هما فقط من يتحدث باسم الله على أرضنا.
يرفضان تجربة تونس في قانونها العائلي.
والمدونة المغربية، على مثالبها.
وكلاهما جعلا من تقنين الطلاق، حماية المرأة من تعسف وجبروت الطلاق الشفهي، أساسا في قوانينها.
كلاهما اعتمد على رؤية حداثية للدين.
كلاهما فسر الدين بطريقة تختلف عن طريقة الأزهر.
دعونا إذن نضع النقاط على الحروف.
رؤية شيخنا الأزهري ومؤسسته تجسدان أيديولوجية الإسلام السياسي للدين، التي شوهت الدين، وتصر على أن الدين دين ودولة.
فلم نقبل بسلطتهما؟
حان الوقت لإعادة الدين إلى الحيز الخاص، الحيز الروحاني، واحترام حق الدولة في تقنين قوانين العائلة بصورة مدنية تحترم الإنسان، كرامته وحقوقه المتساوية، وبمرجعية حقوقية مدنية.
إذن، أعود وأقول.
احترق دمي
وارتفع ضغطي.
وأنا أتابع برنامج يتفكرون في حلقة خُصصت لجدل الطلاق الشفهي.
هل يحق للرجل أن يطلق زوجته بثلاث كلمات؟ أم يمكن تقنين هذا الأمر من قبل الدولة؟
سؤال غريب.
يشبه إلى حد كبير السؤال “هل يحق للرجل التسري بالإماء (أي الجواري) اليوم؟”