رغم مرور عامين على إخلاء سبيله، لا زالت قيود الحوائط الأربعة ترافق مخيلة ياسين محمد.
غادر الشاب الصغير أبواب السجن المغلقة، لكنها لم تغادره، يعيش على الأسفلت الذي حلم السير عليه مثل المواطنين العاديين، لكنه لم يعد يستمتع به.
يعيش محمد في هذه الحالة منذ سبتمبر 2018 ، حين أخلي سبيله، حيث فشلت معه سبل التعافي من المشاعر السلبية التي تتملكه.
يقول: “ما حدث معي داخل السجن كان صعبا لصغر عمري حينها، 19 عاما، ولقدراتي العقلية أن تستوعب حجم الأزمة التي بمر بها”.
حكم على ياسين في عمر الـ 19 عاما بمجموع أحكام تصل إلى 22 سنة، وغرامات تصل إلى 200 ألف جنية، و12 سنة مراقبة.
الخروج بعفو رئاسي
1275 يوما قضاها ياسين بين سجني طنطا وطره، حيث قضى عاما قبل الإفراج عنه بعد ورود اسمه بقائمة العفو الرئاسي سبتمبر 2015، خلال حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، وذلك بعد الحكم عليه في قضية مجلس الشورى بالسجن 3 سنوات، قبل تعديل الحكم بحبسه 15 عاما.
كما حكمت محكمة جنح قصر النيل بحبس ياسين لمدة عامين، لاتهامه بالتظاهر، في القضية رقم 324 لسنة 2014 جنح قصر النيل، قبل العودة مرة أخرى للحكم عليه بالحبس خمس سنوات وغرامة 100 ألف جنية، على خلفية مظاهرة للاعتراض على اتفاقية ترسيم الحدود الشهيرة بـ”اتفاقية تيران وصنافير”.
رُحل ياسين إلى عدد وافر من السجون، خلال فترة حبسه التي دامت 3سنوات ونصف، عاش خلالها حياة كاملة ولكنها بأوامر في تناول وجبات الطعام والنوم وحتى رؤية نور الشمس “السجن معلم فينا وهيفضل معلم لحد ما نموت”.
كيف يٌغير الحبس في شخصية السجناء؟
لا تنتهي أزمات المحتجزين بمجرد الخروج من باب السجن، حيث تواجههم مضايقات إدارية عديدة تلاحقهم، إلى جانب دفتر الذكريات المظلم المخفي في النفس، رغم مرور السنين.
وخلصت دراسات بحثية إلى أن فترات السجن الطويلة تغير من شخصية السجناء إلى أبعد حد، إذ تؤدي التغييرات المفاجئة أو الكبيرة في حياة الإنسان إلى اضطرابا نفسية، ومن بين هذه التغييرات التعرض لعقوبة السجن أو المرور بتجربة سيئة على المستوى الأسري، وكذلك التعرض لتجربة الفقدان.
وتعزو الدراسات هذه التغيرات إلى بيئة السجن التي تحكمها ضوابط وقواعد مشددة ولكنها مليئة بالمخاطر الاجتماعية، ستؤدي حتما إلى تغيير شخص السجين كليا.
وتتمثل هذه الضوابط في مصادر حق السجناء في اتخاذ القرارات، وانعدام الخصوصية، والوصم اليومي، والخوف المتكرر.
تحقيقات مستمرة، وغرف التأديب، وحضور الجلسات، جميعها أجزاء من حياة قاسية واستثنائية يعيشها المحتجز داخل السجن، ليتبع ذلك مضايقات بالخارج عند نقاط التفتيش، لمجرد إثبات الحكم في صحيفته الجنائية.
يقول ياسين: “لا أشعر بأني حر حتى بعد انتهاء الحبس، فلا أستطيع الخروج ليلا من المنزل بعد منتصف الليل، ولا أعرف الذهاب إلى أي مكان في مصر حتى لا يتم القبض على، لن أكون سليما”.
تأتي القاعدة الأولى من قواعد نيلسون مانديلا “يعامل كل السجناء بالاحترام الواجب لكرامتهم وقيمتهم المتأصلة كبشر، ولا يجوز إخضاع أي سجين للتعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”، التي تم اعتمادها في عام 1955، من جانب مؤتمر الأمم المتحدة الأول المعني بمنع الجريمة ومعاملة المجرمين القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء.
وفي عام 2015، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القواعد الموسعة، والمعروفة باسم “قواعد نيلسون مانديلا”، تكريما لأكثر سجناء القرن العشرين شهرة.
من محتجز إلى فنان تشكيلي
عامان هي أطول فترات الحبس التي عاشها ياسين، والتي أحدث فيه تغييرا كبيرا، يتحدث عنها: “اكتشفت أني فنان تشكيلي يقدر يعبر عن مشاعره ومواقفه ومشاهده التي يراها بالرسم”.
قرر ياسين التحليق بروحه من داخل الزنزانة للخارج عن طريق قلمه البسيط، برسم لوحات لمشاهده اليومية، والتقاط ملامح أبناء المحتجزين خلال الزيارات لرسمها وإعطائها لهم كهدايا، حتى عوقب بالحبس الإنفرادي، ولم يترك أدوات الرسم.
تغييرات عدة طرأت على شخصية ياسين، الذى تحول من محتجز إلى فنان تشكيلي. يتمنى وهو في الـ26 من عمره أن كل ذلك لم يحدث من البداية، رغم تحوله إلى فنان تشكيلي داخل الجدران المغلقة، فقلبه مازال لم يشف بعد.
وبحسب دراسات، فإن كثيرا من السجناء قد يصبحون أقل استعدادا للعيش كمواطنين صالحين في المجتمع بعد الخروج من السجن عن قبل دخوله.
اقرأ أيضا
السجون.. حين تصبح «حواضن» لصناعة التطرف
حجر مفتوح ومصير مجهول..رسالة المحبوسين احتياطيا من غياهب السجن
كأن باب السجن مازال مغلقا
تذكر القاعدة الثالثة من قواعد نيسلون مانديلا “إنَ الحبس وغيره من التدابير التي تفضي إلى عزل الأشخاص عن العالم الخارجي تدابير مؤلمة من حيث إنها تسلب الفرد حقَّه في تقرير مصيره بحرمانه من حرِّيته. ولذلك لا ينبغي لنظام السجون، إلاَّ في حدود مبرِّرات العزل أو الحفاظ على الانضباط، أن يفاقم من المعاناة الملازمة لمثل هذه الحال.
“كل ما عشته في الداخل مازال في أحلامي ومأثر على حياتي”، تحكي زينب عن فترة احتجازها لمدة 6 أشهر داخل سجن القناطر، والتي تأبى أن تنصرف عن مرافقتها حتى داخل أحلامها أثناء النوم.
كان تم القبض على زينب من مطار القاهرة الدولي في 17 أغسطس 2018 ليتم ضمها للقضية 441 لسنة 2018 حصر أمن دولة والمعروفة إعلاميا بقضية “الجناح الإعلامى لجماعة الإخوان”، ليتم حبسها منذ هذا التاريخ مدة جاوزت الـ 5 شهور، حتى قررت المحكمة إخلاء سبيلها على ذمة القضية بالتدابير الاحترازية، ليلاحق ذلك إلغاء التدابير بعد عام.
انعزال وكآبة وغربة
لا تملك الفتاة العشرينية سوى قلبها وعدستها التي كسرت بفعل القبض، ومازالت تحاول ترميم قلبها الذي أصاب بالرهاب.
تقول:” أصبحت أميل إلى الانعزال والبكاء لا استطيع تقبل ما يمكن أن يغضبني، أشعر بضيق في التنفس وكأن باب السجن مازال مغلقا”.
تحاول الفتاة تجاهل سيرة السجن كلما وقعت أمامها أو عبرت عن طريق أذنيها، فهي تأبى أن تتحدث عن ما مضى وكأنه لم يحدث، حتى بعد مضي عامين على إخلاء سبيلها :” روحي تختنق وجسمي يصاب بالتنميل أو بالخدران”.
استمرار هذه الحالة دفع زينب إلى مغادرة البلاد، والتحلق بعيدا عن الوطن وذكرياته: “ ” حتى بعد ما سافرت وأنا لسه بترعب لو حلمت مجرد حلم إني عدت وتم القبض علي مرة أخرى”.
المنطقة المظلمة
“بعد ما خرجت تأثير السجن كان واضح في اختياري لألفاظي لأني كنت محتجز مع جنائيين وكان عمري 18 سنة”، يبدأ ياسر في رواية ما عاشه خلال فترة حبسه التي انتهت منذ 5 سنوات، ولكنه لم ينس ما عاشه خلالها حيث كانت المساحة المخصصة للنوم له هي “شبر وقبضه” على حد تعبيره.
عانى ياسر، أحد المحتجزين في قضية أحداث مجلس الشورى، حيث تم حبسه ثلاث مرات داخل الحجز الانفرادي.
ولكن مع حلول فصل الشتاء يتذكر ماعاناه داخل غرفة تبلغ مساحتها متر ونصف في متر، تطلق عليها “التأديب”: كنت أتحدث مع كيس الشيبسي وفقدت الزمن حتى أخبروني إني ظللت بالتأديب 8 أيام ولكني لا أعلم بالتحديد”.
تزامن حبس ياسر “الانفرادي” مع احتفالات رأس السنة التي كان يرغب حينها في أن يخترق سور السجن ليحتفل مع أصدقائه،” أنا مهتم جدا أني ابسط نفسي اليوم ده لأهرب من تلك الذكرى”.
يحاول ياسر أن يتعايش مع ما حدث له في السنوات الماضية: “ذهبت عند السجن أكثر من مرة ونظرت إلى العنبر من الخارج”، يعلم ياسر بأن ما يفعله غير منطقي فهو لا يدري هل تجاوز الأمر أم إنه يتجاهله بالهروب.
خرج ياسر من الاحتجاز مع الجنائيين لمدة عام برؤية مختلفة له تتيح له التعامل معهم بالخارج حيث الدفاع عنهم والبحث عن حقهم في التمتع بحرية كاملة، نظرا لما يعانيه هؤلاء في حال استخراج “فيش وتشبيه”، فيقول: “الجنائي بيحاكم مرتين، مرة داخل السجن والثانية بالخارج من المجتمع”.
تعويض مشروط
متى يحصل الشخص على حقه في التعويض، يوضح المحامي ممدوح جمال إنه في حال حصول المحتجز على براءة أو عفو شامل يمحي آثار العقوبة الأصلية أو التبعية.
ويضيف جمال لـ مصر 360، في حال التعويض يبلغ يوم الحبس له 5 جنيهات، ومن المفترض أن ينال تعويضا عن كل الأيام التي قضاها داخل السجن.
أقرت المادة (54) من الدستور المصري، والمادة (312) مكرر من قانون الإجراءات الجنائية بالحق في التعويض المادي والأدبي عن الحبس الاحتياطي إذا ثبتت براءة المتهم.
وكان استحدث مشروع قانون الإجراءات الجنائية، الذي جاء في مقدمة أولويات أجندة مجلس النواب، نصًا يتعلق بالتعويض عن الحبس ينص على، “أن كل من حبس احتياطيًا، أو حكم عليه بعقوبة مقيدة للحرية، ثم صدر أمر نهائي باوجه لإقامة الدعوى الجنائية قبله، أو حكم بات ببراءته من جميع التهم المنسوبة إليه، يستحق تعويضًا عن الأضرار المادية والأدبية التي لحقت به مباشرة جراء تقييد حريته.
ويرى المحامي محمد زارع، المحامي بالنقض ومدير المنظمة العربية للإصلاح الجنائي، أن القضاء المدني والإداري أقرا بالتعويض لصالح محتجزين أو ممن لحق بهم أضرار نتيجة التعذيب.
وأشار إلى رفع دعاوي لمحتجزين تعرضوا للتعذيب أمام القضاء المدني بالإضافة إلى احتساب القاضي للأضرار المادية والنفسية التي وقعت بما فاته من كسب وما لحق به من خسارة خلال تلك الفترة أمام القضاء المدني.