في تطور أخير للصراع الأمريكي الإسرائيلي مع إيران، أعلنت طهران يوم الجمعة الماضي عن مقتل فخري زاده أكبر علمائها النوويين، مشيرةً بأصابع الاتهام إلى إسرائيل، الأمر الذي أعاد الحديث عن حرب الاغتيالات، التي بدأت إبان الحرب العالمية الثانية، وتواصلت مع احتدام سباق التسلح النووي، ما يفتح بابًا للتساؤل عن موقع جرائم اغتيالات العلماء في مبادئ القانون الدولي.
فخري زاده .. “لم يكن شخصًا عاديًا”
فخري زاده الذي كان محاطًا بحراسة مشددة لحظة مقتله في عاصمة بلده طهران، لم يكن شخصًا عاديًا، إذ قارنت صحيفة “نيويورك تايمز”، في تقرير نشرته في 2015، بينه وبين روبرت أوبنهايمر الفيزيائي، الذي أدار مشروع مانهاتن وأنتج أول الأسلحة الذرية خلال الحرب العالمية الثانية، ووصفته وسائل إعلان عدة بأنه “أبو القنبلة الإيرانية”.
وأعلن “تلفزيون برس” الإيراني الناطق بالإنجليزية، اليوم الإثنين، أن السلاح المستخدم في اغتيال زاده “صنع في إسرائيل”، بينما أشارت وسائل إعلام غربية إلى ضوء أخضر لهذه العملية تلقته تل أبيب من الرئيس دونالد ترامب، الذي يسعى لإفشال محاولات خلفه المنتخب المنتخب جو بايدن في العودة إلى الاتفاق النووي.
اقرأ أيضًا: اغتيال كبير علماء النووي بإيران.. هل تسعى إٍسرائيل لإفشال مساعي بايدن الدبلوماسية؟
وقال قائد الجيش الإيراني اللواء عبد الرحيم موسوي، عقب الحادث، إن إيران تحتفظ بحق “الانتقام من العدو”، مشيرًا إلى “يد أمريكا والكيان الصهيوني خلف عملية الاغتيال”، التي أكد أنها لن تمنع إيران من المضي في طريق التقدم والتطور السلمي.
لماذا علماء الشرق الأوسط؟
في تصريح صحفي تعليقًا على الحادث، قال المرشح الرئاسي السابق في مصر ومساعد وزير الخارجية الأسبق عبد الله الأشعل إن اغتيال العالم محسن فخري زادة، الجمعة الماضي، يمثل “ضربة استباقية” لجأت إليها إسرائيل لحفظ تفوقها النووي في المنطقة.
وأضاف الأشعل أن دولة الاحتلال صممت مشروعها الصهيوني على كل ما يمكن أن يقدم الدعم اللازم لتطويره، بغض النظر عن أخلاقيات الوسائل. وأشار إلى أن الاحتلال الإسرائيلي يلجأ دائمًا إلى الضربات الاستباقية باغتيال العلماء واستهداف المشاريع التي يشرفون عليها وهي في مهدها، حفاظًا على تفوقها العسكري، الذي تعاونها الولايات المتحدة منذ الستينيات فب الإبقاء عليه.
وينص القانون الأمريكي على أن مبيعات السلاح الأمريكية للشرق الأوسط ينبغي ألا تعرض للخطر هذا التفوق العسكري النوعي لإسرائيل.
ولعل الاتفاق الأخير في أكتوبر الماضي خير مثال على هذه السياسي، حينما تعهّدت الولايات المتّحدة خطّيًا بالحفاظ على “التفوّق العسكري” الإسرائيلي في الشرق الأوسط، في وقت تتخوّف فيه الدولة العبرية من احتمال موافقة واشنطن على طلب شراء مقاتلات شبح متطوّرة من طراز “إف-35”، تقدمت به الإمارات التي بدأت قطار التطبيع من إسرائيل في المنطقة العربية.
وإسرائيل هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك طائرات إف 35، ومن المقرر أن يصل عدد مقاتلاتها من هذا الطراز إلى 50 بحلول عام 2024، بقيمة 100 مليون دولار للطائرة الواحدة.
من ذاكرة الاغتيالات
سميرة موسى
في 15 أغسطس عام 1952 لقيت العالمة المصرية سميرة موسى مصرعها، أثناء زيارتها معامل نووية بالولايات المتحدة، حيث كانت تقطع طريقًا وعرًا في مرتفع بكاليفورنيا، قبل أن تفاجأها سيارة من الاتجاه الآخر، صدمتها وألقت بها في المنحدر.
موسى حصلت على الماجستير في موضوع التواصل الحراري للغازات من لندن، التي درست بها أيضًا الإشعاع النووي، وحصلت على شهادة الدكتوراة في الأشعة السينية وتأثيراتها على المواد.
وحرصت الولايات المتحدة على تبني موهبتها وعرضت عليها التجنيس، لكنها رفضت وعادت إلى مصر، وأنشأت هيئة الطاقة الذرية، وعملت على تنظيم لقاءات دولية حول الطاقة الذرية.
وبينما قيدت حادثة مصرعها ضد مجهول، أشير بالاتهام إلى الموساد الإسرائيلي.
بدأ المشد مساره المهني في المفاعل النووي بأنشاص، وانتقل للنرويج للتدريس، وهناك ضغط عليه ليتجنس ويعيش فيها لكنه ظل يرفض، بل صرح برفضه لأطروحات الحركة الصهيونية بخصوص فلسطين، مما جلب إليه عداء ومضايقات كثيرة، واضطر على إثرها للعودة القاهرة، ثم إلى بغداد التي اضطلع فيها بدور كبير في تسهيل مهمة التأسيس لبرنامج نووي عراقي، وترأس البرنامج النووي العراقي الفرنسي المشترك.
استدعي المشد إلى فرنسا لمعاينة شحنة من اليورانيوم، لكنها كانت رحلته الأخيرة، حيث عُثر عليه مذبوحًا في غرفته يوم 14 يونيو 1980. وبعد اكتشاف جثته، وُجهت الاتهامات إلى الموساد الإسرائيلي، لكن تحقيقات الشرطة الفرنسية لم تخلص إلى شيء، وقيدت القضية ضد مجهولـ حتى اعترفت إسرائيل والولايات المتحدة رسميًا باغتياله في فيلم تسجيلي مدته 45 دقيقة، عرضته قناة “ديسكفري” الوثائقية الأمريكية تحت عنوان “غارة على المفاعل”، وتم تصويره بالتعاون مع الجيش الإسرائيلي.
جمال حمدان
تميز حمدان بقدرته الكبيرة على فهم الأبعاد الاستراتيجية للقضايا الكبرى، ووظف تخصصه في الجغرافيا في فهم حركية التاريخ وتطورات الأحداث العالمية، وسبق له أن تنبأ عام 1968 بانهيار الاتحاد السوفياتي بعد دراسات وافية.
عمل جمال حمدان الأبرز تمثل في اهتمامه بإسرائيل وتفكيك بنيتها الفكرية والأصول التي بنت عليها مشروعها، ونجح في هدم مقولاتها من وجهة نظر أنثروبولوجية.
كما تنبأ بانهيار الولايات المتحدة الأميركية، وقال إنها تصارع لتبقى في القمة، وتستغل في سبيل ذلك قوتها العسكرية.
وعثر يوم 17 أبريل 1993 على جثة حمدان ملقاة في بيته ونصفها الأسفل محترق، وظن الجميع أن الواقعة سببها تسرب غاز، بينما أكد مقربون منه أن مؤشرات عدة تؤكد أن الحادثة وقعت بفعل فاعل.
وفي 2010 ذكر الروائي المصري يوسف القعيد أن حمدان كان قبيل وفاته قد انتهى من تأليف ثلاثة كتب “اليهود والصهيونية وبنو إسرائيل”، و”العالم الإسلامي المعاصر”، والثالث عن علم الجغرافيا، وكل تلك الكتب اختفت بعد موته.
كما نقل عن شقيق حمدان قوله إن الأسرة سمعت بسفر مفاجئ لطباخ جمال حمدان ثم اختفائه نهائيًا، مثلما تأكد أن رجلاً وامرأة من الأجانب سكنا فوق شقته لشهرين ونصف، واختفيا بعد مقتله.
سلوى حبيب
أستاذة في معهد الدراسات الأفريقية، تميزت بعطاء علمي بارز وبأبحاث مناهضة للحركة الصهيونية تكشف محاولات سيطرة إسرائيل على منابع القوة في الدول الأفريقية.
وأنجزت بحثًا عن “التغلغل الصهيوني في أفريقيا”، إلى جانب نحو ثلاثين بحثًا كلها تتحدث عن إسرائيل والدول الأفريقية سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وكان لأبحاثها تأثير كبير.
ووجدت سلوى حبيب مذبوحة في شقتها، ولم تنجح الأجهزة الأمنية في العثور على القتلة الذين نفذوا العملية بشكل احترافي. ووجهت الاتهامات إلى الموساد الإسرائيلي بالوقوف خلف قتل سلوى حبيب، بسبب نجاحها في تسليط الضوء على أساليب تل أبيب في اقتحام دواليب القارة السمراء، بأساليب علمية توثيقية واضحة.
سمير نجيب
بعد حرب يونيو 1967 شعر سمير نجيب عالم الذرة المصري أن بلده في حاجة إليه، فترك منصبه كأستاذ مساعد بجامعة ديترويت الأمريكية وحجز مقعدًا على الطائرة المتجهة إلى القاهرة في 13 أغسطس 1967، وفي ليلة سفره اصطدمت سيارة نقل بسيارته ولقي مصرعه في الولايات المتحدة، حيث تلقى قبل وفاته عروضًا مادية وعلمية كثيرة لإثناءه عن الرحيل. واتهمت إسرائيل أيضًا بتدبير اغتياله.
عمل سمير نجيب في “ديترويت” تحت إشراف أساتذة الطبيعة النووية والفيزياء وسنه لم تتجاوز الثالثة والثلاثين، وأظهر نبوغًا مميزًا خلال بحثه الذي أعده في أواسط الستينات أثناء بعثته إلى أمريكا لدرجة أنه فرغ من إعداد رسالته قبل الموعد المحدد بعام كامل.
سعيد السيد بدير
سعيد السيد بدير عالم مصري آخر تخصص في مجال الاتصال بالأقمار الصناعية والمركبات الفضائية خارج الغلاف الجوي، توفي في 14 يوليو 1989 بالإسكندرية، في واقعة يصفها الكثيرون بأنها عملية قتل متعمدة، إذ أكدت زوجته أن إحدى الجهات المخابراتية وراء اغتياله، خاصة بعد توصله من خلال أبحاثه إلى نتائج متقدمة جعلته يحتل المرتبة الثالثة على مستوى 13 عالمًا فقط في حقل تخصصه النادر في الهندسة التكنولوجية الخاصة بالصواريخ.
نشرت أبحاث سعيد السيد بدير في جميع دول العالم حتى أتفق معه باحثان أمريكيان في أكتوبر عام 1988 لإجراء أبحاث معهما عقب انتهاء تعاقده مع الجامعة الألمانية.
وذكرت زوجته أنها وزوجها وأبناهما كانوا يكتشفون أثناء وجودهم في ألمانيا عبثًا في أثاث مسكنهم وسرقة كتب زوجها، ونتيجة لشعورهم بالقلق قررت الأسرة العودة إلى مصر على أن يعود الزوج إلى ألمانيا لاستكمال فترة تعاقده، ثم عاد إلى القاهرة في 8 يونيو عام 1988 وقرر السفر إلى أحد أشقائه في الإسكندرية لاستكمال أبحاثه فيها، حيث عثر عليه جثة هامدة.
في كتاب بعنوان “Rise and Kill First“، صدر في 2018، قال المؤلف رونين برغمان إن إسرائيل نفذت خلال الـ70 عامًا الماضية عمليات اغتيال قُدرت بـ 2700 عملية، تمثل عمر دولة الاحتلال منذ ظهورها. وكانت إيران من بين دول منطقة الشرق الأوسط، التي سعت إسرائيل لتصفية علمائها، خدمة لتفوقها العسكري. ولم يكن فخري زاده أول هؤلاء العلماء بل سبقه إلى مصيره آخرين.
الاغتيال في القوانين الدولية
صباح يوم 28 يونيو 1914 كان موكب ولي عهد النمسا فرانز فرديناند وزوجته الدوقة صوفي شوتيك عائدًا إلى القصر، حينما استقبله الطالب القومي من صرب البوسنة والهرسك جافريلو برانسيب، أسكن رصاصتين في جسد الأمير وزوجته، لتشتعل الحرب العالمية الأولى وتعقبها الحرب العالمية الثانية، التي راح ضحيتها 60 مليون قتيل.
اقرأ أيضًا: علماء إيرانيون اغتالتهم إسرائيل
ومع ما مثلته الحرب العالمية الأولى من بشاعة، وما أعقب فشل عصبة الأمم في نزع فتيل حرب عالمية ثانية، تأسست الأمم المتحدة في عام 1945 لإيقاف الحرب بين البلدان، وإيجاد مساحة من الحوار بينهم.
وبعد ثلاث سنوات من هذا التاريخ، أصدرت الأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948، والذي نص في مادتيه الثالثة والخامسة، على إدانة أي من أشكال القتل أو المعاقبة بالقتل خارج القضاء, فهل تقع اغتيالات العلماء تحت طائلة القانون الدولي؟
في تقرير نُشر يناير الماضي، عقب مقتل قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في بغداد، تساءلت هيئة الإذاعة البريطانية عن موقف القانون الدولي من الاغتيالات، حيث نقلت عن أستاذ القانون الدولي في جامعة أوكسفورد البريطانية، دابو أكاند، إن “الاغتيالات التي ترتكبها الدول دفاعًا عن النفس لمنع وقوع هجمات وشيكة، تُعد مقبولة بموجب ميثاق الأمم المتحدة“، وذلك إشارة إلى مقتل سليماني، الذي وصفت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالإعدامات العشوائية والقتل خارج نطاق القانون، أنييس كالامار، عملية اغتياله بأنه “عملية قتل تعسفية” انتهكت الميثاق الأممي.
وينص ميثاق الأمم المتحدة في الفقرة الرابعة من مادته الثانية، على أنه “يمتنع أعضاء الهيئة جميعًا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة”.
إلا أن المادة 51 من الميثاق نفسه تعيد الحديث عن قانونية اغتيال العلماء إلى النقطة صفر، إذ تقر المادة بحق “الدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي، والتدابير التي اتخذها الأعضاء استعمالاً لحق الدفاع عن النفس تبلغ إلى المجلس فورًا، ولا تؤثر تلك التدابير بأي حال فيما للمجلس – بمقتضى سلطته ومسؤولياته المستمرة من أحكام هذا الميثاق – من الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يرى ضرورة لاتخاذه من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه”.