منذ فترة ليست بالقليلة والحضارة الغربية في نسختها الأخيرة تخضع لاختبارات جسيمة تتعلق بكينونتها، تتعلق بجوهرها الذي تفخر به، بقدرتها على إظهار هذا الجانب الإنساني الذي زعمت في مرحلة ما أنها تعبر عنه، وفي واقع الأمر أنها قد فشلت في معظم هذه الاختبارات تباعا، إذ إنها عبر مجموعة منها مازالت تكرس لنمط عيش لا يكشف سوى عن تلك الجوانب البربرية في توافقاتنا البشرية التي نعيش عبرها، والتي تجلت خلال العقدين الأخيرين عبر تغيرات مفصلية في مفهوم مركزي في الحضارة الغربية وهو (الفردية).

تمثل هذه المفردة مفهومًا مركزيًا في الفكر الليبرالي الحديث، وربما كانت مفردة ذات أهمية ودلالة عندما تجلت عبر تناقضها الحتمي مع (الجماعة)، البحث عن (الذات) في مواجهة (الجماعة) وهو أمر يتسم بالمنطقية، غير أن التحولات الإبستمولوجية التي تتجلى في التطورات المعرفية والمنهجية المتتابعة، ومن ثم التغيرات الاجتماعية التي طرأت على المفهوم بعد غياب (الجمعي) اتسمت بالقسوة، تجلي الجشع، الأنانية، غياب التعاطف، إعلاء الغرائز الأولية، التمركز حول (الذات) في تجليها البدائي والأولي، الخوف من الآخر، التشكك في الغرباء، النهم المفرط في ماديته، غياب الإحساس بالأمان، تجليات تجعل من هذا الإنسان الذي سعى عبر عصور طويلة للتخلص من أوهامه الأولى، واستبعاد مخاوفه البدائية عبر رحلة الثقافة التي تأسست من خلال صيغ التعايش المشترك، يقف وحيدًا معزولاً في مواجهة “الرعب”.

اقرأ أيضًا: أطفالنا في مرمى الخطر ..50 منظمة عالمية  تنتج كتابا قصصيا يحارب “كوفيد”

ليس نهاية العالم

وما أدركه أن هذا “الفيروس” ليس نهاية العالم كما يزعم البعض، ولكنه ربما يمثل السؤال الأخير الذي تطرحه الطبيعة على البشرية في مفترق الطرق مثل هذه الأسئلة التي كان يطرحها الكائن الخرافي (أبو الهول) على المارة قبل العبور، وشرطًا للعبور، وهو مايستدعي إجابة مناسبة تضع الإنسان على طريق جديد يمكنه أن يتسع للبشر جميعًا.

فالتقدم التكنولوجي المتسارع الذي حول الغرب إلي كيان آلي بلا روح، وحول (اقتصاد السوق) المقترن بقسوة “اللوغوس” (عقل كلي يحكم العالم) _أو هكذا ترغب_ إلى عقيدة، وأثار التعثرات الكارثية المتوالية تقدم دلائل ومؤشرات علي ما يعانيه الغرب من انفصام. فالحضارة الغربية وبرغم إدعائها بأنها تقدم للبشرية طريق تحرّرها، ومسار تقدمها، والنسق المفهاهيمي/المعرفي لعولمة مشتركة، يقف اليوم أمام فراغ المعني غير قادر علي تحمل إرثه، والعقل الخفي للسوق يقف عاجزا عن وقف أو الحد من جنون الهروب إلي الأمام، وتدور الدوائر لتصبح قوة دولة (هوبز) القاهرة ملاذ للجميع. ويصمت كل من البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وتصعد إلى صدارة المشهد العالمي منظمة الصحة العالمية، وتعود الدولة الراعية للتجلي عبر إجراءات اجتماعية واقتصادية واسعة لمساندة المؤسسات ودعم الأفراد.

أرشيفية
أرشيفية

إن طبيعة البنية الفكرية التي نؤسس عليها إدراكنا العام بوجودنا تستمد مكوناتها، وتختبر صلابتها، الذهنية عبر مسألة “الامتلاك”، وكأن أفكارنا تطرح علينا مقولة ذهنية مفادها : “أنا أمتلك إذن أنا موجود” . وهو ما يعني في أحد تجلياته المساواة بين “ملكيتي” وبين “كينونتي”، وكلما تعاظمت ملكيتنا كلما تعاظم وجودنا، فالحضور الفعلي لما نمتلك سواء أكانت ملكية مادية أم معنوية، يعبر عن وجودنا، وتصبح القيمة الفعلية “الفورية” لي هي مقدار ما أملك متضمنا من أشياء، وما أملك من آراء ومعتقدات أيضا، تصبح هي وحدها “الحق” وما عداها “باطل”.

إن الخروج من فخ الربط الذهني في لا وعي الـ “أنا ” بين “الامتلاك” و”الكينونة” يتطلب المعرفة بالفوارق الحادة بين “الوجود” الإنساني، وبين الأشياء المادية، والأفكار والآراء والمعتقدات، والأدوار المتعددة التي ألعبها في الحياة، ليس بهدف التخلص منها، أو التقليل من أهميتها، ولكن من أجل الشعور بالتحرر من غواية الرغبة في الامتلاك، والانفصال عنها، بحيث أصبح قادرًا على اكتشاف ذاتي بمنأى عن كثافة الأشياء، وأصبح واعيا بصلتي بها، وقدرتي على الفكاك من أسر هذا الارتباط، واكتشاف الطبيعة النسبية والسطحية للإشباع الذي يحدثه فعل التملك، والتي لا ينتج عنها سوى الرغبة في المزيد، وهي رغبة لا تنتهي، وربما تتحول في إطار السعي المحموم إلى الإشباع، إلى “نهم” لا يكتف، بل أحيانا ما ينتج قلقا نفسيا نتيجة الشعور بعدم الاكتفاء. فأشكال “الوهم” المتعددة مثل “لي” و”ملكي”، و”هل من مزيد”، و”ينبغي لي أن أحصل على”، و”أحتاج إلى”، لا تعبر في صميمها عن “وجودي”، وسأظل دائما مهما كان “الشغف” عاجزًا عن الوصول إلى الإشباع، وسأبقى أسير الاحتياج الذي لا ينته.

اقرأ أيضًا: “هيومن رايتس واتش”: نخشى استغلال حكومات لأزمة “كورونا” في قمع الحريات

لحظة الموات والجمود

إن الرغبة الملحة في المزيد، لا يمكن لها أن تتوقف إلا بقدرتي على الوصول إلى الوعي بطبيعة الصلة بين مكونات وجوانب “وجودي” المتعددة، وبين ما هو خارج عن “الأنا” وضبط العلاقة بينهما، بهدف التخلص من المتطلبات الزائفة التي لا تمثل احتياجاتي الفعلية ، حينها يمكنني التخلص من كراهياتي الدائمة، ومخاوفي تجاه الآخر والتي تصور لي أنني الأفضل، وأنني دائما على حق.

يوجد الإنسان –إذن- في هذه اللحظة التي تتسم بـ (الموات/الجمود)، وفي هذا العالم الذي تسوده الحاجة، الندرة، العنف، والاستلاب، ويصير فيه (هو) نتاج لإنتاجه، بما يعني أن العمل الذي يقوم به، أي عمله الخاص وقد انقلب عليه، يصبح انتماؤه (هو) لمجموعة عاجزة، تحكمها قساوة المادة، حيث يشعر البشر جميعهم بالخضوع لما هو أقوى منهم، ولا سيطرة لهم عليه، محكومين بالهموم المعيشية اليومية، مقتولين بالوحدة، غير مبالين بالشأن العام، وفي ظنهم أن هذا هو العادي/الطبيعي، في نظام (طبيعي) بل وضروري، لايد لهم فيه ولا مفر لهم منه، حيث لا يعرفون حياة أخرى، في هذه الأثناء لم يصل البشر بعد إلى (التاريخ) ولم يشارك الإنسان بعد في صناعته، لأن التاريخ يبدأ حيثما تبدأ مجموعة من البشر في امتلاك مشروعها الخاص، حيث المشروع يعبر عن (حرية فردية) و(خلاص جمعي).

وهنا… يصبح من الضروري أن نعيد النظر في هذا النمط من العيش، وأن نتذكر أن أسوأ جريمة للإنسان تلك الجريمة التي لا تغتفر، تتمثل في اعتقاده بتفوقه الشخصي، وفي معاملة الناس على أنهم أشياء، وإن يكن ذلك باسم العرق أو الثقافة أو الرسالة… ألخ. وأن ندرك أن الأمل الوحيد في ألا يلقى “أحدنا” من “أمثاله” معاملة مجحفة، يكمن في إحساس الجميع إحساسا مباشرا (وهو في مقدمتهم) بأنهم موجودات “متألمة”، ومن ثم في قدرتهم على “العطف”، الذي يمكن أن يمنح القوانين، والعادات، والتقاليد، والأعراف، معنى أعمق وأكثر إنسانية، والتماثل مع جميع أشكال الحياة، بدءا بأشدها تواضعا، من أجل أن يتيح للناس (في عالم تزيد زحمته من الاعتبارات المتبادلة) العيش معا، وأن يعيد( بديهته الأولى) بوصفه (موجودا حيا ومتألما) شبيها بجميع الموجودات الأخرى، قبيل الانفصال/ التمايز عنها باعتبارات ومعايير تابعة وهامشية تؤكد على البنية العميقة للامساواة وتبررها.

للمزيد من مقالات الكاتب: اضغط هنا