“النقد الذاتي” كتاب شهير للمفكر المغربي علال الفاسي، أحد رواد ما يسمى بالسلفية الوطنية، أصدره أواسط القرن العشرين، ويدل عنوانه على حاجة الذات العربية الإسلامية إلى ممارسة النقد الذاتي لأجل الانعتاق والتحرّر.

مرّة أخرى، بصرف النظر عن حاجة النقد الذاتي بدوره إلى شيء من النقد، وذلك بالنظر إلى السقف الفكري الذي صُمم من أجله؛ يبقى النقد الذاتي كلمة السر التي نسيناها وصرنا نخبط خبط عشواء ثم نلقي باللائمة على الغير كما هي العادة.

لا ينمو العقل ويتطور إلا حين يتجاوز نفسه عن طريق النقد الذاتي

نسينا الدرس. لا ينمو العقل ويتطور إلا حين يتجاوز نفسه عن طريق النقد الذاتي. لذلك لم يكن تاريخ الحداثة في الغرب سوى تاريخ نقد العقل الغربي لذاته، من ديكارت، وروسو، وكانط، إلى نيتشه ومعظم الفلاسفة المعاصرين. كيف اختفى النقد الذاتي من وعينا الفقهي، والديني، والإسلامي؟

بإيجاز.. حكاية اختفاء النقد الذاتي

خلال النصف الثاني من القرن العشرين تغيّر اتجاه الرياح بنحو فجائي، حيث تراجعت السلفية الوطنية أمام زحف السلفية الجهادية وسائر فصائل الإسلام السياسي، وبقي اليسار نخبويا رغم إشعاعه. هكذا اختفى الحس النقدي ليحل محله المنطق الدعوي الذي سيستبد بعقول المسلمين طيلة عشرات السنين. ولا يزال الحال كذلك إلى غاية اليوم.

الانتقال من ثقافة النقد إلى ثقافة الدعوة، قاد إلى إجهاض مشروع الإسلام الإصلاحي الذي سبق أن تبلور مع جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والطاهر بن عاشور، ومختلف أقطاب السلفية الوطنية.

هكذا اختفى مطلب إصلاح البيت الداخلي، وحل محله شعار أن البيت الداخلي صالح بنحو كامل وشامل، وأن العيب كله في الخارج الذي يمثل الغرب الاستعماري، الصليبي، الكافر، وإلى آخر النعوت. هكذا انقلب الإسلام السياسي على الإسلام الإصلاحي.

كان يجب أن يتحقق النقد الذاتي عبر مواجهة الذات بسؤالها الحقيقي.

ما السؤال؟ هو ليس سؤال شكيب أرسلان، والذي تم اعتباره سؤالًا تأسيسيًا للمشاريع النهضوية العربية: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟

اقرأ أيضًا: الإرهاب العالمي والحاجة للنقد المزدوج

قد يبدو سؤال أرسلان كأنه مناسب لواقع الحال، سواء من حيث المضمون أم من حيث الصياغة، غير أن وجهة نظر تحليل الغرائز تكشف شيئًا آخر: تكمن معضلة سؤال أرسلان في أنه يحمل صيغة مقارنة بين حال الذات وأحوال الغير، وهي مقارنة بالغة الخطورة لجهة أنها غالبًا ما تؤجج الانفعالات السلبية وغرائز الانحطاط، من قبيل الحسد، والغيرة، والحقد، والأسى، والضغينة، وذلك عوض أن تنمي الانفعالات الإيجابية وغرائز السمو التي يحتاجها العمل والإبداع والتنمية وبناء الحضارة والسلام.

ماذا نقترح؟

يجب أن يُطرح سؤال التقدم بالنظر إلى التاريخ، لا بالمقارنة مع الآخرين. يجب أن يطرح السؤال على النحو التالي:

ما الذي يجعل تاريخنا الإسلامي تاريخ فتن مثل قطع الليل المظلم وفق تشبيه منسوب إلى رسول الإسلام؟ ما الذي يجعل تاريخ الإسلام يبدو كأنه تاريخ فتنة نائمة يوقظها بعض الملاعين بين الفينة والأخرى، وفق تشبيه آخر منسوب بدوره إلى الرسول، رغم أننا أمة تستقبل الناس بالسلام، تُحيّييهم بالسلام، وتترحم عليهم بالسلام؟!

ما الذي يجعل تاريخنا -رغم نوايا السلام- تاريخ حروب وفتن وفق شهادات وروايات الرواة والمؤرخين الأقدمين أنفسهم، وذلك منذ حروب الردة، وموقعة الجمل، ومعركة صفين، والفتنة الكبرى، والنهروان، وكربلاء، وهكذا دواليك، مرورا بفتاوى التكفير واستباحة الدماء، دون أن ننسى حروب العشائر والقبائل والعوائل طيلة العصر الوسيط، ووصولًا إلى فتن اليوم المشتعلة على امتداد العالم العربي، وذلك كله في انتظار فتنة السؤال، وفتنة الدجال، وسائر الأهوال؟

لكن أليست هناك من لحظات مشرقة في تاريخ الإسلام؟

اللحظات المشرقة في تاريخ الإسلام موجودة وتستدعي الاعتزاز. غير أنها كانت سريعة الزوال بحيث يصدق عليها المتن الصحابي الذي يرى أن “الحضارة لا تدوم”. ومقصود القول إن فترات السلم والازدهار، عادة ما تكون قصيرة الأمد، وسرعان ما تعقبها فترات الفوضى والاقتتال.

اللحظات المشرقة في تاريخ الإسلام موجودة وتستدعي الاعتزاز غير أنها كانت سريعة الزوال

هل تمثل الفتنة جوهرًا مُلازمًا للوضع البشري، بحيث لا خيار آخر غير درئها قدر الإمكان، أم أنها عطب في الحضارة يستوجب الإصلاح؟

لكن هل تاريخ “الآخر” في المقابل كله برد وسلام؟ الرد الشائع والعائم أيضًا أن معظم المجتمعات، بما فيها المجتمعات الغربية، شهدت فتنًا وحروبًا دمرت الأوطان وخربت العمران، فلا داعي لجلد الذات إذًا. عمومًا إذا عمت هانت! هكذا يقال بلا خجل ولا وجل. فهل مثل هذا الرد مقنع؟ مبدئيًا يبدو الجواب كأنه معقول: الجميع فعلها، وطالما المشكلة عامة فلا إشكال إذًا.

لكن، لكي لا ننخدع بالاستنتاجات المتسرعة، فإن تعميم الإشكال لا يعني إبطال السؤال، بل خلاف ذلك، معناه أن السؤال بدوره يحتاج إلى تعميم. مجمل القول إن البشرية جمعاء معنية بالسؤال.

اقرأ أيضًا: عن أصول الحكم في الإسلام… قراءة في حادثة السقيفة

لكن، ليس يخفى أن المجتمعات التي شقت طريق التقدم قد طرحت على نفسها السؤال نفسه: لماذا كان تاريخنا في معظم فتراته تاريخ حروب وفتن؟ ومن ثمة، تبعًا للجرأة في طرح السؤال، انتهت إلى إنتاج فكرتين ثوريتين في تاريخ البشرية: فكرة العقد الاجتماعي، وفكرة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

بلا شك هما فكرتان قابلتان للتطوير بنحو دائم، طالما الحداثة نفسها مشروع لم يكتمل بعد، وفق تعبير هابرماس، وطالما الثغرات هنا وهناك كثيرة وفق انتقادات فوكو وديريدا وبودريار وغيرهم. غير أن التفريط فيهما يعني العودة إلى عصور الهمجية، وحروب الجميع على الجميع. وليس هذا هو المطلوب.

مقصود القول

يجب مساءلة الذات بكل جرأة، نزاهة، وتواضع. لماذا تاريخنا بدوره هو تاريخ حروب أهلية وفتن طاحنة؟ لماذا حدثت مآسي الماضي وتكررت مرارًا، ولا تزال تتكرر إلى غاية اليوم؟ ما السبيل إلى مستقبل أكثر أمانا من الماضي؟

ذلك هو السؤال الذي من شأنه أن يوقظنا وينقذنا بعيدًا عن التنكر والإنكار. أما الإصرار على إنكار مآسي الماضي فمعناه الاستعداد لتكرارها مرة بعد مرة.