مع الآلاف من أهالي مدينة فايد، جلس الشاب النحيل أحمد فؤاد نجم في مساء العاشر من أكتوبر 1951، وإلى جواره الراديو، في انتظار خطبة زعيم الأمة، مصطفى النحاس باشا، مخاطبًا نواب البرلمان: “من أجل مصر وقعت معاهدة 1936، ومن أجل مصر أطالبكم بإلغائها”.

رفقة 80 ألف عامل مصري، ترك الشاب النحيل، العمل في معسكرات الإنجليز بمدن القناة، بعدما اندلعت المظاهرات في شتى أنحاء مصر تدعيمًا لقرار الوفد وزعيمه النحاس باشا.

لم يكن هذا اللقاء الأول للشاب، ذي الـ22 عامًا آنذاك، مع السياسة، لكنه قبل هذا التاريخ بخمس سنوات، شارك في المظاهرات ضد الإنجليز، عندما كان يبيع أظرف الجوابات في التروماي.

هكذا كانت بدايات شباب النحيل أو أحمد فؤاد نجم، الذي رددت الجموع أشعاره، وظل صدى السياسة وقضيتها المركزية الوطنية جزءًا من حياته حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، في مثل هذا اليوم قبل سبع سنوات.

عاش نجم حياة مليئة بالأحداث الدرامية، بداية من وفاة والده ضابط الشرطة عزت أفندي، ثم إخراجه من الكتاب ليعمل أجير في الأراضي الزراعية في قريته بمحافظة الشرقية، ثم دخوله ملجأ الأيتام بالزقازيق، وخروجه دون أن يتعلم مهنة يستطيع العيش منها، ثم عودته إلى قريته ليعمل كلافًا للبهائم لدى إحدى أسر القرية، نهاية بسفره إلى القاهرة ثم الإسماعيلية والعمل في معسكرات الإنجليز.

أحمد فؤاد نجم .. كيف غيّر السجن حياته؟

كانت التجربة الأكثر مرارة وإلهامًا، التي صنعت أحمد فؤاد نجم كإنسان وشاعر مرتبطًا بمجتمعه وآلام فقرائه، هي المدة التي قضاها في سجن أرميدان، الذي غادره في 11 مايو عام 1962، بعد قضائه ثلاثة أرباع مدة حبسه ثلاث سنوات بتهمة التزوير واختلاس مهمات أميرية، لـ”اشتراكه مع أحد السعاة في هيئة السكة الحديد التي كان يعملان بها في تزوير استمارات الأقمشة”.

في السجن اطّلع أحمد فؤاد نجم على عمق الأزمات الاجتماعية لزملائه. شاركهم فيها وتحسس ممراتها، وقابل “الشيوعيين”، كما يحب تسميتهم، عللى رأسهم الروائي عبد الحكيم قاسم، والناقد الأدبي سامي خشبة، والكاتب السياسي حسين شعلان.

تبادل نجم مع السجناء الثلاثة الأحاديث والنقاشات، في السياسة والأدب والشعر، ففتحوا أمام الشاب البسيط أفاقًا من المعرفة، عرفوه على قصائد “شاعرهم” فؤاد حداد، واستمعوا إلى أشعاره وناقشوه فيها.

في السجن ألف ديوانه الأول “صور من الحياة والسجن”، الذي شارك به في مسابقة الكتاب الأول تحت رعاية المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون وعلى إثرها فاز بالجائزة. ومن السجن إلى المجلس الذي فاز بجائزته، خرج “الفاجومي” ليجد في انتظاره وظيفة وتيارًا من المثقفين اليساريين يرون فيه “المعبر الأول عن مشروعهم السياسي”.

بعد خروجه التقى “نجم” بالكاتبة سهير القلماوي، التي كتبت مقدمة ديوانه الأول، ووصفته بـ”الشاعر السجين”، لترسله بتوصية إلى مكتب يوسف السباعي، سكرتير عام مجلس الفنون آنذاك، ليسجل حلقة مع الإذاعي طاهر أبو زيد “فتحت أمامه جميع الأبواب”، فأصبح موظفًا في “منظمة التضامن” وشاعر معتمد في الإذاعة.

“حوش قدم” ورحلة مع الشيخ إمام

كان سعد الموجي، أحد المثقفين الذين تعرف عليهم نجم بعد خروجه من السجن، واحدًا من المتيمين بألحان وأغاني الشيخ إمام عيسى، فاصطحب “نجم” معه إلى حجرة الشيخ إمام في حارة “حوش قدم”، وقضوا الليلة ما بين عزف “الشيخ” وغنائه لسيد درويش وأم كلثوم، وما بين الاستماع لأشعار نجم.

هذا اللقاء نسج علاقة عشق بين نجم والشيخ إمام. رفض “الفاجومي” مغادرة الغرفة وقرر العيش مع الأخير، لترتبط أواصر حياتهما حتى الممات. يقول نجم: “عندما بدأ الشيخ إمام يغني تحفة سيد درويش الجميلة، أنا هويت وانتهيت، كنت فعلًا هويته وانتهيت”.

غنى الشيخ إمام من أشعار نجم ألحانًا ارتبطت بقضايا الوطن السياسية والاجتماعية، أبرزها ما أنتجاه بعد نكسة يونيو 1967.

ورغم ما شهده أحمد فؤاد نجم في شبابه، إلا انطلاقه نحو الغوص بكيانه وأشعارها داخل الواقع السياسي/الاجتماعي، بدأ عقب هزيمة 1967، على أعتاب عامه الأربعين، الذي “تنفذ فيه عادة طاقة الثوار، ويصفي المتمردون تمرداتهم ويتفرغون لتربية عيالهم”، حسبما يقول إبراهيم عيسى، صاحب مقدمة مذكرات “نجم” التي كتبها الشاعر الراحل تحت عنوان “الفاجومي”.

رفقة الشيخ إمام طاف، أحمد فؤاد نجم جامعات مصر لحضور مؤتمرات الطلاب السياسية، خلال  فترة السبعينيات.

أنشدا سويًا للجنود على الجبهة: “واه يا عبد الودود. يا رابص ع الحدود. ومحافظ ع النظام. كيفك يا واد صحيح. عسى الله تكون مليح. وراقب للأمام. امك ع تدعى ليك. وع تسلم عليك. وتقول بعد السلام. خليك جدع لابوك. ليقولوا منين جابوك. ويمسخوا الكلام. واه يا عبد الودود. ع اقولك وانت خابر
كل القضيه عاد. ولسه دم خيك ما شرباش التراب. حسك عينك تزحزح يدك عن الزناد. خليك يا عبده راصد لساعة الحساب”.

ورفضًا للممارسات القمعية لحكومة السادات، واعتقال المعارضين والطلاب، أنشد نجم والشيخ إمام: ” كل ما تهل البشاير من يناير كل عام.. يدخل النور الزنازن.. يطرد الخوف والضلام.. يا نسيم السجن ميل ع العتب وارمي السلام.. زهر النوار وعشش في الزنازين الحمام.. من سكون السجن صوتي نبض قلبي من تابوتي بيقولولك يا حبيبتي كلمتي من بطن حوتي سلمي لي عالحبايب يا حبيبتي”.

وفي رفض سياسات الانفتاح الاقتصادي، والارتماء في أحضان أمريكا، أنشدا خلال زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون للقاهرة: “شرفت يا نيكسون بابا يا بتاع الووترجيت.. عملولك قيمة و سيما سلاطين الفول و البيض.. فرشولك اوسع سكة من راس التين على مكة.. وهناك تنزل على عكة ويقولو عليك حجيت.. ماهو كل الداير داير..  الله يا اصحاب البيت. جواسيسك يوم تشريفك على كيفك نصبولك الزار.. يتقطع فية الموس و القارح و المنضار”.

هكذا استمر نجم طيلة حياته، معبرًا صادقًا بأشعاره عن هموم الناس العامة والخاصة، مهاجمًا بلا هوادة أعدائهم وناهبي ثرواتهم، والمتشدقين باسمهم والمتاجرين بهمومهم، منحازًا لانتفاضات الجماهير في كل الفترات، منذ انتفاضة الخبز وحتى ثورة الخامس والعشرين من يناير، فلم يهاب الفقر أو السجن، لأنه كما يقول عنه صلاح عيسى: “يملك جسارة لا تخاف ولا تتردد ولا تحسب، لأنها لا تملك ما تخاف عليه، ولا تسعى لكي تملك ما قد يجعلها تخاف عليه”.