دأبت أم محمود على عملها اليومي في المهنة الأكثر شيوعًا بين الطبقات الأقل حظًا اجتماعيًا وهي تنظيف البيوت. تقول لي إنها تربي ستة أطفال. أندهش من العدد. تقول إن زوجها يرغب في المزيد من الأبناء لأنهم “عزوة”. يرغب في عائلة كبيرة، ولا شيء سوى الإنجاب.
تمارس مهام عملها، وتتابع الصغار حتى لا يتسربون من التعليم، وتلهث في متابعة الدروس الخصوصية، وتوصيل المدارس.
وفي يوم توقفت أم محمود عن الحضور، وحين تحدثت إليها، قالت إنها قررت التوقف عن العمل بعد تدخل عائلتها لحمايتها من زوجها العاطل الذي دأب على تعنيفها، فقررت الأسرة أنه لابد من اتخاذ وقفة.
توقفت أم محمود، في حين لم تتوقف أخريات كثيرات، في أعمال مختلفة. سطع سؤال في عقلي: ماذا تفعل النساء اللواتي لا يملكن شهادة عليا ومصدر دخل.
في حين تتراجع بشدة أساليب التعلم اليدوي، تبقى النساء وحيدات، معزولات عن التحرر الحقيقي
في ثمانينات القرن الماضي، كانت من مقررات الدراسة فى مدرستي الإعدادية (المدرسة الحكومية بإحدى قرى الدلتا) حصص أساسية في التدبير المنزلي، والمجال الصناعي.
في حصص التدبير المنزلي تعلمتُ الخياطة والتطريز، والطهي، والنسيج على النول، وصنعت سجادتي الأولى. وفي حصص المجال الصناعي، تعلمت الدائرة الكهربائية وفن الأركت. كانت بالمدرسة ورشة، كما كان هناك مطبخ.
ولسنوات طويلة أتمكن من الخياطة بشكل جيد، وأُصلح كثير من الأغراض في السباكة والكهرباء. لكن هذه الحصص اختفت بلا رجعة. حتى في المدارس الخاصة ومدارس اللغات لم تعد هناك حصص تُعلم أشياء يدوية، وكأن العمل اليدوي بات سُبة.
ماذا تفعل النساء في بلادنا حين يحتجن إلى مصدر دخل؟
حين نفكر في الأمر ونسعى نحو إيجاد حلول، سنجد أبواب عِدة موصدة في وجوهنا. في حين تتراجع بشدة أساليب التعلم اليدوي، تبقى النساء وحيدات، معزولات عن التحرر الحقيقي.
يُعجبني موقف عائلة أم محمود، حين تصدوا للزوج العاطل أغلب الوقت. لكن ماذا بعد؟ ما مصير ستة أطفال بلا دخل؟ وهل ستصمد أم محمود أمام جوع واحتياج أطفالها؟
كانت أمي تجلس إلى جواري، تنبهني لأخطاء غرز التطريز، وتصصح لي. وفي الأفلام أُشاهد اللقطات والإشارات لفتاة تتدرب في مدرسة تطريز. وعندما كان مقرر علي تعلم النسيج، شاركتني أمي أيضًا اختيار الخيوط وتعلم الخطوات الأولى لصناعة سجادة صغيرة بحجم النول الذي صنعه لي أبي.
فهل تبدأ الحكاية من اختفاء المناهج التي تعزز الحرف اليدوية، أم من التعالي على الحرف اليدوية؟
أعتقد أن الأمر بدأ من حالة التعالي على الحرف اليدوية، ومن التعامل مع الحرفي بوصفه من طبقة اجتماعية أقل. كما بدأ مع الأفكار الطبقية التي تسود المجتمع وتتوغل.
بات الاهتمام بتعلم الحرف اليديوة أمر ثانوي، ولم يكترث الأهل سوى بحصص اللغة الإنجليزية والفرنسية، وإكساب أبنائهم لكنة غربية. هذا التوجه الذي ساد المجتمع. وشيئًا فشيئًا اختفت حصص المجالات الصناعية، والتدبير المنزلي، ثم ضاعت حصص الموسيقى أيضًا وكذلك الرسم، والمكتبة. أصبحت جميعها مجرد ملء فراغات في الجدول المدرسي.
وانسحب عدم الاهتمام بهذه الحصص من المدارس الحكومية إلى أنواع المدارس الأخرى بكافة مستوياتها.
أم محمود هي نموذج لآلاف السيدات اللواتي لا يعرفن شيء يكتسبن به رزقهن سوى العمل مساعدات منزليات. وحتى في هذا العمل، لا تكون جميع النساء بنفس المهارة والمستوى، ما يؤثر على عملهن.
بات الاهتمام بتعلم الحرف اليديوة أمر ثانوي، ولم يكترث الأهل سوى بإكساب أبنائهم لكنة غربية
تبدأ الحكاية دائمًا من التعليم. ونتحدث عن التعليم الأساسي الحكومي، ذلك الذي يكشف عن مهارات الأفراد وينميها، وليس مستوى آخر. من التعليم نغرس احترام العمل اليدوي، حين يكون الجميع شركاء في معرفته وتعلمه.
في كل يوم تتعرض عشرات وربما مئات لأشكال مختلفة من التعنيف من الزوج وأرباب العمل. الزوج الذي يركز على الاستحواذ على ما تحصل عليه زوجته من مال، غير مهتم بالبيت أو الأبناء. وأرباب الأعمال الذي يبحثون عن مستوى مبالغ فيه. وفي النهاية لا تمتلك آلاف النساء سوى الاستمرار في قبول التعنيف واعتياده.
فهل نبدأ في تعليم بناتنا وأولادنا حرف يدوية تكون سلاح لمواجهة الحياة؟