تتحدد طبيعة الدولة وتصوراتنا عنها وفقًا لمجموعة من المفاهيم والمبادئ الأساسية. التي تصبح مع الوقت عنصرًا من عناصر تفكيرنا ورؤيتنا العامة.
والاختلاف بين أطراف المجتمع ربما يصبح فاعلاً في حال أثيرت نقاشات مجدية عن مفهومنا حول: ماذا نقصد بالدولة وطبيعتها؟ دون الدخول في متاهات حول نوايا كل طرف من الأطراف المتناقضة، وصولاً لحالات من الشجار العبثي، الذي يخلو من المنطق. وهي آفة معرفية من الضروري على كل عاقل أن يتجنبها.
ومن ثم يصبح من الضروري تجنب سوء الفهم المتبادل بالتعرف على فكر الآخر. وليس هذا بهدف الاقتناع بمحتواه بقدر فهم مفردات اللغة المشتركة. وذلك للتأكد من أن كل طرف يتحدث حول نفس الموضوع أو المفهوم محل الجدال.
ربما يتصور البعض أن جدالاً من هذا النوع يشكل ترفًا فكريًا. أو أن البعض يتحدث هنا عن تمارين عقلية، تنتمي لما هو افتراضي. ولكن في واقع الأمر المسألة تحوذ أهميتها من تداعياتها الواقعية، التي تواجهنا يشكل يومي، وعواقبها التي تطرح تحدياتها على كل فرد على حده. وهو أمر أشبه بالدخول في غرفة مظلمة لنرتب حاجياتنا حسب ألوانها.
وفي كل الأحوال، حتى هذه اللحظة لم يبتكر العقل البشري رؤية أخرى لإدارة المجتمع بعيدًا عن الدولة بصورتها الراهنة. وهي الصورة التي يؤكد الجميع على ضرورتها من ناحية، وعلى قدرتها على الحفاظ على مواطنيها وسلامتهم من ناحية أخرى. وذلك رغم اختلافهم البيّن حول طبيعتها ودورها، والعلاقة بين مؤسساتها العامة وأعضاء المجتمع. وهو ما يعني ببساطة الإجابة على تساؤل أولي حول ترتيب الأولويات المفاهيمية: لمن الأولوية الدولة أم المجتمع؟! المؤسسات أم الأفراد؟!
المواطنة والدولة المسيطرة
يرى الطرف الأول ذلك النموذج المثالي للدولة الذي طرحه “هوبز” حول الدولة المسيطرة والباطشة (التنين) التي يجب أن تسيطر على كل شئ، عبر مؤسساتها المتنوعة، منعًا للاحتراب، وحفاظًا على الحدود، وتكريسًا لغلبة المجموع في مواجهة الفرد، بحجة أن الأفراد يزولون وتبقى الدولة، ويستمر المجموع،
وهو مفهوم قديم يتأسس على رؤية للإنسان بوصفه كائن غريزي يسعى خلف مصالحه الخاصة واحتياجاته الأولية المباشرة. ومن ثم يصبح الإنسان (الفرد) عدوًا لأخيه الإنسان. إذا ما واتته الفرصة انقض القوي على الضعيف.
وهنا يصبح غياب الدولة، يعني غياب القوة التي تمنع هذ الاحتراب، وتصبح الدولة هي الملاذ والملجأ، والطرف الوحيد الذي يحق له احتكار القوة من أجل منع الاقتتال. وهؤلاء يصبح تحقيق الأمن أسمى أمانيهم، وأعظم مطالبهم من القائمين على شؤون الدولة. وهنا تصبح الدولة هي (المركز) والبشر هم الهامش. وفي تاريخ مصر مثالاً واضحًا على ذلك. فعبر قرون طوال لم يبق من مصر سوى حدودها التاريخية المعروفة. وهو دليل قاطع على صدق مفهومهم، وضعف حجة الطرف الآخر (تمثل أمريكا النموذج المثالي لهذه الرؤية).
المواطنة والدولة الإدارية
أما الطرف الآخر فيرى في الدولة جهازًا إداريًا مهمته تسيير شؤون الحياة داخل المجتمع الإنساني الذي تزايد تعداد سكانه (أعضائه) بصورة لا تسمح للكل بالمشاركة في إدارة شؤون الدولة. فينتخب أعضاء المجتمع عددًا من بينهم، يقومون بإدارة شؤونهم، وينشؤون المؤسسات اللازمة لتحقيق هذه الغاية. وهو مفهوم أسس له “جان جاك روسو” وتجلت تداعياته ونتائجه في الثورة الفرنسية. وانتشر في أوروبا عبر نماذج الديموقراطيات الأوروبية المختلفة.
ويعلي هذا المفهوم من قيمة “المواطنة” بوصفها الركيزة الأساسية في مجتمع تنازل أعضاؤه طواعية عن بعض حقوقهم الطبيعية لصالح (مؤسسات دولة) تسهر على راحته، وتوفر له الأمن. وهي مسؤولية القائمين على الدولة (تمثل دول أوروبا الغربية مثالاً لهذا النموذج) إذا ما أنجزوها، تمت إثابتهم، وإذا عجزوا عن إنجازها، تمت معاقبتهم. وهنا يصبح “المواطن” هو (المركز)، وتصبح مؤسسات الدولة هي (الهامش).
اقرأ أيضًا: قوانين نورمبرج.. عُنصرية هتلر التي قتلت الجميع
هذان النموذجان (المبسطان) قد تطورا عبر تعقيدات سياسية واجتماعية واقتصادية.. إلخ، على مدار العقود الماضية. وتطور معهما المجتمع الإنساني تطورًا كبيرًا. وكذلك تطور معهما القائمون على إدارة أجهزة ومؤسسات الدولة في كلا النموذجين، حيث تطورت أدوات ووسائل ومعارف أفراد المجتمع مثلما تطورت أدوات ووسائل ومعارف القائمون على إدارة المجتمع.
وتغيرت تركيبة المجتمع الحديث تغيرًا ملحوظًا. ونشأت طبقات اجتماعية جديدة، وتطورت طبقات اجتماعية أخرى. وهذه التعقيدات المتوالية قد منحت القائمون على إدارة شؤون المجتمع سلطات وإمكانات أوسع، مثلما منحتهم امتيازات يدور الصراع من أجلها. ولكن تظل نقطة الانطلاق هي التصور الأولي عن طبيعة الدولة، عبر هذا التعاقد (العقد الاجتماعي) الذي يتم بصورة ضمنية بين المجتمع والقائمين على شؤونه، عبر فضاءات اجتماعية وسياسية من الضروري إتاحتها لأفراد المجتمع وللهياكل المؤسسية التي يخلقونها (سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم ثقافية.. إلخ) من أجل التواصل الإيجابي بين أعضاء المجتمع بمختلف توجهاتهم وآرائهم وبين القائمين على إدارة شؤونه، لكي يتسنى -عبر هذا التنوع والاختلاف- تقديم صيغ فعالة وحيوية يمكنها تطوير المجتمع والحفاظ على بقائه واستمراره، وتدعيم قدرته على الصمود في مواجهة التحديات التي تواجهه والتي تتعلق في صميمها بقضايا وجوده.
المواطنة الفعالة
لم يعد من الممكن لأي دولة عبر مؤسساتها المختلفة، أن تواجه تحدياتها منفردة، ودون اللجوء إلى مواطنيها، فالأحداث التي تتوالى في كل منطقة في العالم تؤكد على ضرورة إشراك المواطن في هذا الهم العام، ورغم صعوبة المسألة وتعقدها إلا أن الرغبة الملحة في الحفاظ على كل من الدولة والمجتمع دائما ما تقدم حلولها النوعية.
ينشأ المجال العام في إطار الظرف التاريخي الذي يمر به المجتمع، ويتشكل وفق صراعاته الاجتماعية ليتيح أدواته السلمية والديمقراطية لإدارة مثل هذا الصراع، مثلما يسمح للمواطنين بالدخول في أشكال تضامنية مع بعضهم البعض سواء اقتصاديا أو ثقافيا أو اجتماعيا.
ومن هنا تتجلى ضرورة المجال العام بوصفه عنصرا رئيسا من عناصر العقد الاجتماعي الذي أصبح يتم صياغته فعليا باتفاق شفاهي وكتابي بين الحاكم والمحكوم (الدستور) بحيث يصبح هو المرجع النهائي عند الاختلاف فيما بينهم، ويتم احترام بنوده من كل الأطراف.
ربما تعبر الدولة عن روح الجماعة والإرادة العامة، فالروح تحقق حريتها في الدولة وعبرها. ومن ثم فعلينا أن نعترف بأن فكرة الحرية لا توجد بالفعل إلا في واقع الدولة. ولن تتحقق الحرية عمليًا إلا عندما تعبر الدولة عن أهداف المجتمع، من خلال اختيارات الأفراد. والدولة أحد منجزات العقل، وبالتالي فإن العقل معيار التحليل لشكل الدولة، كما يرى “هيجل”.
ومن هنا يجب على الدولة أن تكون في خدمة المجتمع، الذي شيد لرعاية مصلحة الفرد في الرخاء والسعادة والأمن والحرية. ولكي تمارس الدولة وظائفها بوصفها تجمعا سياسيا وعقلانيا فإنها تلجأ بالإضافة إلى الوسائل القانونية إلى العنف المادي. وهي وحدها تمتلك هذا الحق بل وتحتكره كما يؤكد ماكس فيبر. لكنه عنف يتسم بالعقلانية والمشروعية لحمايته للحق العام. ومن ثم فالدولة لا ينبغي لها أن تتعسف في استخدام الوسائل القانونية وأدوات العنف التي تمتلكها بوصفها معبرةً عن كل أعضاء المجنمع، ولا تنحاز بيطبيعتها لطبقة من الطبقات بمعزل عن مصالح الطبقات الأخرى. وهو أمر الذي تستمد منه وجودها القانوني ومن ثم شرعيتها.
العقد الاجتماعي
لقد قامت الدولة الحديثة تأسيسا على مفهوم (العقد الاجتماعي) الذي بدا للوهلة الأولى مفهوما افتراضيًا من الناحية التاريخية، بينما بدأت ممارساته العملية عبر الآليات الديموقراطية التي أخذت تتعين وتتشكل تباعًا. وأتاحت للفرد (المواطن) حق اختيار من يحكمه وحق محاسبته، وفق آليات مؤسسية تم الاتفاق عليها واعتمادها اجتماعيا وسياسيا.
ومع تطور هذه الممارسات السياسية والديموقراطية بدأ يتشكل في الفراغ الاعتباري (مجالاً عامًا) ما بين (الفرد) و(الدولة) يشكل فضاء اجتماعيًا/ثقافيًا تعول عليه مؤسسات المجتمع كثيرًا عبر مساحات للتعبير عن الرأي تسمح للمواطننين بتنظيم أنفسهم، وعبر مساحات للفعل تسمح بتشكيل تنظيماتهم التي تتيح لهم التعامل مع ممارسات مؤسسات الدولة من ناحية، ومؤسسات المجتمع من ناحية أخرى في إطار من السلم الاجتماعي، ومن خلال فعل الديموقرطية. فمن خلاله يستطيع المواطنون أن يكونوا خارج الدولة بوصفهم ناقدين ومراقبين لها. إذ يعبر المجال العام عن المصالح والمشاعر على مستوى الخاص، وعلى المستوى المجتمعي عبر أشكال تنظيمية متنوعة. ويضفي قدرًا من الاتساق على المشاعر المتفرقة، ويمنح قوة (جمعية) للرؤى الفردية المبعثرة والمشتركة في آن واحد.
ومن ثم يسمح من خلال تنويعاته المختلفة بتيسير وإدارة الصراع الاجتماعي إدارة سلمية بعيدًا عن العنف عبر آليات ديموقراطية، ويرسل رسالة الى الحكام تتعلق بالإرادة الجمعية للفاعلين الاجتماعيين المستقلين تعبر عن اتجاهات (الرأي العام).
يمتلك -إذن- “المجال العام” اعتبارات ذات دلالة على المستوى الخاص والعام، ويؤدي عبر وظيفته الذرائعية دورًا هامًا، يدعم من خلالها “السلم الاجتماعي” عبر توفير أدوات سلمية متنوعة للممارسة الديموقراطية وإدارة الصراع. ويسهم في تطور المجتمع من خلال التنوع الثقافي الخلاق والاختلافات الفكرية الداعمة لتقدم المجتمع، تضمن كفالة الحقوق لكل المواطنين دون تمييز، والحفاظ على استمراريته، وضمان مستقبل أفضل لأجياله. بينما يؤدي غيابه (المجال العام) إلى خسارات فادحة تعرقل نموه وتعوق استقراره.