في عام 2013، وبإحدى الصدف التي قد لا تتكرر كثيرًا، أثناء تواجد الصياد الفلسطيني جودت أبو عراب على ساحل دير البلح بقطاع غزة، عثر على تمثال برونزي رجل عارٍ منتصب.

عرف أبو عراب لاحقًا أن التمثال للإله أبوللو، أحد آلهة الإغريق. حاول إخفاءه ليتسنَّ له بيعه. لكن السلطات في غزة عرفت بوجود التمثال، ففاتت على الصياد ربحية كانت لتكون معتبرة.

قصة أبو عراب وتمثال أبوللو كانت ملهمة كفاية لتخطف عقلي الأخوان ناصر (عرب وطرزان)، لتجسيدها في ثاني أفلامهما الروائية الطويلة غزة مونامور.

العرض الأول للفيلم كان بمهرجان فينيسيا. لاقى استحسانًا كبيرًا. ثم عُرض مرة ثانية، افتراضيًا بسبب كورونا، في مهرجان تورنتو، ثم في مهرجان أنطاليا، وأخيرًا في الدورة 42 الجارية لمهرجان القاهرة السينمائي، بالتزامن مع تقديمه ليمثل فلسطين في مهرجان الأوسكار على جائزة أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية.

لم يحضر الأخوان ناصر لمهرجان القاهرة بصحبة فيلمهما الذي خطف أنظار الجمهور. لكن بعد عرضه الأول في القاهرة السينمائي، حضر بدلًا عنهما فريق إنتاج الفيلم الممول فلسطينيًا وألمانيًا وفرنسيًا وبرتغاليًا.

تحدث “مصر360″ لأفراد الفريق، فلم يخفوا إعجابهم بـ”فانتازيا أفكار الأخوين الساخرة والحالمة في الفيلم”. وقالوا إن العمل على الفيلم استغرق نحو أربع سنوات ما بين تطوير السيناريو والحصول على التمويل اللازم، والتصوير. كانوا أيضًا راضين كفاية عن ردود الفعل بعد عرضه الأول شرق أوسطيًا.

“أفلامنا لا تريد أن تحكي عن أي شيء سوى الإنسان”، الأخوان ناصر

رحلة أكبر من غزة مونامور

لمن يتعرف عليهما للمرة الأولى عبر فيلم غزة مونامور، يتكشف له مشوار سينمائي، قصير لكن واعد، للأخوان ناصر اللذين كانت أولى تجاربهم السينمائية رفقة سبعة مخرجين فلسطينيين آخرين، بفيلم يسرد الوضع الفلسطيني، بزوايات مختلفة، منذ اتفاقية أوسلو هو “زمن معلق”.

لكن تفردهما لم يظهر إلا في فيلمهما الروائي الأول “التدرج”، عن مجموعة من النساء من غزة، يضطررن لقضاء ليلتهن في صالون تجميل بسبب وقوع اشتباكات مسلحة على مقربة من مكانهن، بين مسلحين من حركة حماس ومسلحين من عصابات محلية. أما سبب الاشتباك فيبدو ساخرًا نوعًا ما؛ سرقة أسد من حديثة الحيوانات.

من هذا الحدث استطاع صانعا الفيلم أن يقدما معالجة جدلية: سخرية من واقع مأساوي بانعدام الأمان وتبادل إطلاق النيران في أي لحظة.

في حديثهما المقتضب إلى الصحافة، حول فيلم التدرج، علّق الأخوان ناصر: “أردنا أن نظهر كيف يعيش أهل غزة، لا كيف يموتون”. وربما هي ذاتها الجملة التي قالاها ضمنيًا بعد فيلم “غزة مونامور” حول إصرارهما الذي يبدو واضحًا نوعًا ما على الشاشة الكبيرة، على سرد حكايات تمتزج فيها السخرية بالحلم والحب في حياة الإنسان الفلسطيني، ومجابهة واقع بات الحديث عنه حصرًا، أمرًا ثقيلًا على النفس. يقول الأخوان ناصر لـ”مصر360″: “عمل أفلام مثل غزة مونامور، الغرض منه إيصال الصورة الحقيقية التي لا يدركها العالم عن هذا المكان”.

غزة مونامور .. الفيلم

البطل (عيسى)، خمسيني، صياد وبائع سمك، بقصة تغلفها أصوات صديقة للإنسان العربي، الصبور كسمة مهنة عيسى: عبدالحليم حافظ ونجاة وأم كلثوم وغيرهم. يقع عيسى في حب أرملة (سهام)، هي جارته في السوق. لكن قبل أن يصرّح لها بحبّه، يعثر على تمثال أبوللو في البحر، عثور يعطل قصة الحب، بدخوله في مواقف غير متوقعة.

لم يُصور الفيلم الذي يتحدث عن غزة، في غزة، بل صور بين الأردن والبرتغال. وقُدّم إهداءً للأب والأم، اللذين استمد الأخوان ناصر منهما شخصيتي البطل والبطلة.

من بعيد، ثمة خيط عاطفي وجنسي بريء في “غزة مونامور” كما في “التدرج”. كلاهما يتحرك بناءً على مشاعر حالمة بتحسن الوضع وتجميله بالحب. قصص حب متفرقة وحدها يمكنها أن تساعد الإنسان على استعادة آدميته والهروب بعيدًا عن واقع لا يمكنه السيطرة عليه، أو هكذا غزل الأخوان ناصر سرديتهما في الفيلمين. يقولان: “نؤمن أنه بالحب نستطيع استكمال الحياة، وبدونه لا حياة أصلًا”.

اقرأ أيضًا: الأفلام القصيرة تسيطر على الدورة 42 لمهرجان القاهرة السينمائي

تبادرت عدة أسئلة للذهن أثناء مشاهدة غزة مونامور. كان بالإمكان الحصول على أجوبة تحليلية، وكان بالإمكان أيضًا التواصل مع الأخوان ناصر للحصول على بعض الأجوبة. لماذا التفتّا لقصة الصياد لتحويلها فيلمًا؟ أجاب الأخوان لـ”مصر360″: “ما جذبنا هي قصة إيجاد تمثال أبوللو في غزة، وهذا ما حمسنا للتفكير بكيفية الاستفادة من هذا الحدث في خلق قصة الحب والتي كانت هي الهدف”. إذًا، كانت قصة الحب الهدف، في حين كانت قصة العثور على التمثال جسر مرور.

هل هؤلاء، أبطال الفيلم، يحبون بسبب الرعب أو بسبب البطولة؟ قد تكمن الإجابة في ما قالاه لـ”مصر360″: “بدون الحب لا حياة أصلًا”. يطرح الأخوان ناصر الحب كمفهوم يطغى على سلوك الإنسان ونظرته للعالم، ونظرته لنفسه.

مجاز عميق لحرب مقيمة

غزة مونامور، الذي يقول صناع الفيلم إن سبب اختيار اسمه، هو “حبنا الدائم لقطاع غزة على الرغم من كل شيء وأي شيء”، كونهما غزاوين تركا مدينتهما لما يقرب عشر سنوات.. يؤكد، كما غيره من تجارب السينما الفلسطينية، أن العمل السينمائي الفلسطيني في الوقت الراهن، مدفوعٌ بالتخفف من الواقع من خلال طرحه بأبعاده الإنسانية التي ربما يغفل شريط الأخبار عن التعاطي معها. عودةٌ لتأكيد الأخوين ناصر: “إيصال الصورة الحقيقية التي لا يدركها العالم عن هذا المكان”، المكان مؤنسنًا.

يقول المخرج النمساوي ماكس رينهارد، إنه يمكن لعنوان مختار بعناية كبيرة، أن يولد صورة مجازية في الذهن تحرض على التفكير. هذا ما يفعله الفيلم بين أيدينا، بعنوان الملف: غزة مينامور، المحرك للذهن بأفكار مختلفة نحو غزة، قبل أن يطرح بسردية مختلفة، صورة مدينة تحيا في حرب مقيمة، باعتبارها مدينة الحب في السياق الأعم الذي لا يخلو من مجازٍ عميق. تتركز السردية في فعل بطل الفيلم أثناء تواجده بالسجن للتحقيق معه، عندما سافر في أحلامه متجاوزًا واقعه الأليم المعتاد، وتخيّل أنه يمارس الحب مع الأرملة التي يحبها.

المشاهد التي يلقي غزة مونامور الضوء عليها ليست بعيدة عن واقع يمكن أن تجد فيه أمًا تسلي أبناءها بكمامات من الكرنب في ظل كورونا، وحرب تمثل نمط حياة.

غزة
غزة

في الدورة الرابعة لمهرجان الجونة السينمائي التي انتهت قبل أسابيع، عُرض فيلم “200 متر” لمخرجه الفلسطيني، أمين نايفة، وإنتاج الفلسطينية مي عودة. عُرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان فينيسيا السينمائي، وحاز إعجاب النقاد، ليعيد الحماسة مرة بعد مرة في ثقة الفنان الفلسطيني بفنه.

وفاز الفيلم خلال العرض بالجونة السينمائي، بأكبر عدد من الجوائز: جائزة مينا مسعود الخيرية، جائزة لجنة تحكيم الفيبريسي، جائزة سينما من أجل الإنسانية، كما حصل على إعجاب وإشادة نقدية واحتفاء استمر على مدار عرضه للجمهور العام.

يأتي فيلم غزة مونامور بعد 200 متر، ليعزز ثقل مشاريع السينما الفلسطينية. في مقابلة سريعة، بعد عرض غزة مونامور، تقول منتجة 200 متر لـ”مصر360″ ويؤمن على كلامها المخرج أمين نايفة: “غزة مونامور كما 200 متر؛ مجهود سنوات، ورغبة ملحّة وصارخة في لفت الأنظار مرة أخرى إلى الفنان الفلسطيني الذي يمكنه صناعة سينما بالمعايير العالمية”.

يمكن القول، إن مشاريع السينما الفلسطينية على غرار غزة مونامور و200 متر، تروي مشاعر حالة مركبة تتجاوز اللطميات، بما يتيح لها أن تتوسع، تتوغل، وتسود سردياتها.