كتبت: هبة الحنفي
بعد سجال دبلوماسي على استحياء بين الخارجية الفرنسية والمصرية، قبل أسبوعين، على إثر إلقاء القبض على عدد من أعضاء المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في مصر، هبطت، أمس الأحد، طائرة الرئاسة المصرية في مطار أورلي بالعاصمة الفرنسية باريس، حيث اللقاء بين الرئيسين المصري والفرنسي، السيسي وماكرون في ظل ظروف غير اعتيادية.
الزيارة الأخيرة، تأتي وسط انتقادات من دول أوروبية ومنظمات دولية على القاهرة بسبب ما وصفوه بـ”الهجمة الأمنية على نشطاء حقوق الإنسان في مصر”. لكن مع ذلك، ثمة ملفات مشتركة تجمع الجمهوريتين المصرية والفرنسية، قد تغطي على خلافات تحت السطح.
على مائدة مفاوضات السيسي ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، تتزاحم نقاط الاتفاق بين البلدين، على رأسها التنقيب في شرق المتوسط والأزمة الليبية.
لقاء السيسي وماكرون.. الأزمة الليبية على الطاولة
على الحدود الغربية لمصر، يشكّل الوضع الليبي تهديدًا مباشرًا للقاهرة، بسبب المخاوف المصرية من تصدير محتمل لإرهابيين إلى الداخل المصري، نتيجة عدم استقرار الأوضاع الأمنية في ليبيا، وهو ما يتلاقى مع المخاوف الفرنسية، خاصة بعد معاناة فرنسا من عمليات إرهابية متعددة خلال السنوات الأخيرة، نفذها أجانب.
وبحسب بسام راضي، المتحدث الرسمي باسم الرئاسة، فإن القضية الليبية أحد المحاور الرئيسية لزيارة الرئيس السيسي لباريس. وأشار راضي إلى أن موقف البلدين يتطابق في رفض التدخل الخارجي والتعاون مع المليشيات والمقاتلين الأجانب، والاتفاق على المسار السياسي يوصل للانتخابات.
اقرأ أيضًا: “بي بي سي”: تركيا وروسيا تسعيان لاستنساخ صفقتهما بسوريا في ليبيا
التطابق الذي تحدث عنه راضي لم يكن عنوانًا لموقف البلدين من الأزمة الليبية في البداية، وهو ما أشارت إليه نورهان الشيخ، عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، قائلةً إن التقارب الحالي بين البلدين بشأن ليبيا لم يكن واضحًا في بداية الأزمة، لكنه تطور خلال السنوات الأخيرة ليصل “إلى حد التطابق”.
ترى الشيخ أن “الخوف من الإرهاب” هو المحور الأساسي للتوافق بين البلدين في ليبيا، فبخلاف العمليات الإرهابية الي شهدتها فرنسا مؤخرًا، فإنها تخشى التهديد الليبي المباشر على قواتها في مالي والنيجر وغيرها من الدول الإفريقية المتاخمة للحدود الليبية، وتضم وجودًا فرنسيًا على أراضيها.
تحجيم النفوذ التركي في ليبيا، محور آخر مشترك يجمع نظرة البلدين إلى ليبيا، إذ يلقى الرفض المصري للتدخل الأجنبي في ليبيا موافقًا فرنسية، في ظل رغبة باريس مصالحها هناك بدءًا من حماية النفط الليبي، وصولًا إلى وقف نفوذ تركيا في المنطقة، خاصة بعدما حمّل ماكرون أنقرة مؤخرًا “المسؤولية التاريخية والجنائية لما يحدث في ليبيا”.
“خلخلة وحلحلة للاستقرار الليبي”، هكذا ترى الدولتان الوجود التركي في ليبيا، بحسب الشيخ، التي تربط بين المعارضة الفرنسية المصرية لتركيا في ليبيا، وبين معارضتهما لها في شرق المتوسط أيضًا.
نورهان الشيخ، التي تشغل منصب عضو الجمعية المصرية للأمم المتحد، ترى أن القاهرة، تخشى بشكل واضح من وجود قوى إقليمية معادية أو ذات أجندات معادية على حدود مصر. هذا الأمر يعزز في النهاية التوافق المصري الفرنسي.
وكانت مصر وتركيا دخلتا في حرب تصريحات بشأن ليبيا هذا العام، بعدما قال السيسي إن مصر “لن تقف مكتوفة الأيدي في مواجهة أي تحركات تشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي، ليس المصري والليبي فقط، وإنما العربي والإقليمي والدولي”، في إشارة إلى التدخل التركي في ليبيا، ليرد رئيس تركيا رجب طيب أردوغان بتصريحات يصف فيه موقف مصر بـ”غير الشرعي”.
نحو حل سياسي لا عسكري سيذهب الاتفاق بين السيسي وماكرون أثناء التفاوض بشأن الأزمة الليبية، ما يجعل البلدان في موقف أقرب إلى التطابق في جوهر الصراع في طرابلس. لكن ثمة خلاف مستتر – لا يؤثر على المشهد برمته- قد يلاقيه الطرفان.
يقول مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، إن موقف البلدين من المشير خليفة حفتر، قائد قوات شرق ليبيا (الجيش الوطني الليبي)، قد يمثل خلافًا بسيطًا في الرؤى.
ورغم ما كشفته تقارير صحفية عالمية خلال السنوات الماضية من دعم مستتر يلقاه المشير خليفة حفتر، من الرئيس إيمانويل ماكرون، بوصف حفتر “حائط الصد” أمام الجماعات الإرهابية، إلا أن ماكرون تراجع علنًا في يوليو الماضي، قائلًا إن بلاده لا تدعم “الجيش الوطني الليبي”، بقيادة حفتر.
اقرأ أيضًا: خارطة الإرهاب الجديدة.. أين ستكون الضربات المقبلة؟
تدهور الموقف الليبي قد لا يجعل السيسي وماكرون في خلاف بشأن وضع حفتر، إذ يقول كامل السيد إن مصر باتت تعوّل على عقيلة صالح، رئيس البرلمان الليبي، لحل الأزمة أكثر من اعتمادها على خليفة حفتر، ما يقلل الخلاف في الرؤى المصرية الفرنسية بشأن حفتر.
المحور القطري اللييبي، كما يسميه كامل السيد، قد يكون كلمة السر في توافق مصري فرنسي جديد بشأن خليفة حفتر، إذ يناهض السيسي وماكرون تحركات هذا المحور ضد عقيلة صالح، ما قد يجعل تأييد البلدين لحفتر “ضرورة ملحة لمواجهة الإرهاب في ليبيا”.
الرؤى المصرية الفرنسية المتطابقة، لن تكون الحل السحري لحل الأزمة الليبية، إذ ترى نورهان الشيخ، أستاذ العلوم السياسية، أنه لا يمكن لدولة أو دولتين مهما كان دورهما، تسوية الملف الليبي، مستبعدة خروج الاتفاق المصري الليبي نهاية الزيارة، بنتائج تختلف عن تلك التي خلص إليها مؤتمر برلين.
وأقيم مؤتمر برلين، أوائل هذا العام، بحضور جميع الأطراف الدولية المعنية بالشأن الليبيي. وخلص إلى عدة نتائج، أهمها حظر توريد الأسلحة لجميع الأطراف المتصارعة في ليبيا ومراقبته بشكل أقوى من الماضي.
موقف ضد تركيا يجمعهما في شرق المتوسط
في مثلث ساخن، بمنطقة شرق المتوسط، تتحرش تركيا -دائمة الهجوم على مصر- باليونان، وقبرص، بينما ترفض مصر تلك الممارسات، وتقف فرنسا بالمرصاد للأعمال التركية، ما يجعل البلدين في اتفاق ضمني ينطوي على ردع أنقرة.
مدحت يوسف، الرئيس الأسبق للهيئة العامة للبترول، قال لـمصر360″، إن البلدين متفقتين على سياسة معينة بشأن التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، “وهذا ليس موقفًا جديدًا داعمًا من فرنسا لمصر، وإنما امتدادًا لمواقفها في تأمين الحدود الاقتصادية في شرق المتوسط، حماية لمصالحها في المقام الأول”، على حد قوله.
هذا وساهم اكتشاف حقول غاز ضخمة في السنوات الأخيرة في منطقة شرق المتوسط في تصاعد طموحات الدول المطلة كاليونان وقبرص ومصر، وتركيا، وإسرائيل.
وتشكل مصر وقبرص واليونان حلفًا في البحر المتوسط بعد ترسيم الحدود بينها، وهو ما ترفضه تركيا، ما جعلها تبدأ بالتنقيب عن الغاز، قبالة ساحل قبرص.
مواقف فرنسا الداعمة لمصر في هذا الملف، ظهرت في إمداد باريس للقاهرة بمعدات بحرية ثقيلة للمساعدة في التنقيب، بحسب يوسف، الذي أوضح أن الغرض من الإمداد البحري الفرنسي لمصر كان مساعدتها على حماية حدودها المائية.
تتلاقى رغبات الجمهوريتين في إحلال السلام في منطقة شرق المتوسط، إذ يرى يوسف أن فرنسا تهتم باستمرارية البحث والتنقيب في شرق المتوسط، وإنتاج الغاز الطبيعي بشكل تجاري يؤمن احتياجاتها في المرحلة المقبلة بعد اعتماد الاتحاد الأوروبي -من ضمنه فرنسا- على الغاز بديلًا عن الفحم.
ويتفق رأي مدحت يوسف مع ما أورده السفير بسام راضي، المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، في بيانه عن زيارة السيسي لفرنسا، الذي قال فيه إن “إحدى الدوائر المشتركة بين البلدين، هو التعاون في شرق المتوسط والبناء ونبذ أي توترات أو مشاكل بحيث إن ثروات شرق المتوسط يتم استغلالها لصالح الشعوب”.
هذا البيان المقتضب يعضد من حديث الرئيس الأسبق للهيئة العامة للبترول، الذي توقع أن يفضي الاجتماع بين الرئيسين عن إعلان وسائل تأمين قوية لدعم دول الجوار في مواجهة “التحرشات التركية”، خاصة في ظل مواقف فرنسا القوية ضد تركيا خلال الفترة الماضية.
وفي أغسطس من هذا العام، أعلنت فرنسا إرسال مقاتلتين وسفينتين حربيتين إلى شرق المتوسط، لصد “التحرشات التركية باليونان”، في حين يراوغ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قائلًا إن الحل الوحيد لحل النزاع مع اليونان هو “الحوار”.
اقرأ أيضًا: للحصول على الطاقة.. كيف أجبرت تركيا طرابلس على تقبل آلاف المرتزقة
وفي الوقت الذي توجه فيه الاتهامات لتركيا كونها “تنتهك المياه الاقتصادية لجزيرة قبرص”، يقول أردوغان إنه ينقّب في منطقة “قبرص الشمالية التركية”، وهي الجمهورية التي لا يُعترف بسيادة تركيا عليها سوى أنقرة.
وعلى تخوم ملف التنقيب، لفرنسا مصالح قوية في ملف البترول في مصر، إذ تمتلك، بحسب مدحت يوسف، شركات كبيرة تعمل في السوق المصري، على رأسها شركة توتال، التي تعد أكبر الشركات الفرنسية ذات النشاط التنقيبي الأوسع في منطقة شرق المتوسط، وبالأخص في قبرص، ما يجعل التوافق في هذا الملف برمته مصلحة مشتركة للقاهرة وباريس.
يذكر أن مصر وفرنسا عارضتا اتفاق عقده أردوغان مع فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق الليبية، في ديسمبر الماضي، وقعا فيه مذكرتي تفاهم، إحداها حول السيادة على المناطق البحرية، لحماية حقوق البلدين، ما يقوّي موقفها في منافسة صراع القوى للسيطرة على مصادر الغاز في شرق المتوسط.
حقوق الإنسان.. خلاف لن يؤثر على شيء
بينما تظهر نقاط الاتفاق في زيارة السيسي إلى فرنسا جلية، تتوارى عن الأنظار خلافات مستترة حول ملف حقوق الإنسان في مصر، لكنها ظهرت على السطح قبل أسبوعين بعد تعبير فرنسا عن قلقها بشأن تعامل مصر مع الملف على خلفية إلقاء القبض على مسؤولين في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
تجري فرنسا حوارًا مع مصر في مجال حقوق الإنسان، تصفه بـ”الصريح والحازم”، بحسب البيان الذي نددت فيه بالقبض على موظفي المبادرة.
لكن مواقف ماكرون من أوضاع حقوق الإنسان في مصر متذبذبة، ففي مؤتمر صحفي جمعه بالرئيس المصري بالقاهرة، 2017، قال ماكرون: “نرفض إعطاء دروسًا للدولة المصرية في حقوق الإنسان”، مضيفًا: “فرنسا تدافع عن حقوق الإنسان ومن مصلحة الرئيس السيسي أن يسهر على الدفاع عن حقوق الإنسان، لكن في إطار تقرره الدولة المصرية وحدها”.
ما بدا توافقًا جزئيًا بين السيسي وماكرون حول كيفية مناقشة حقوق الإنسان، تفكك بعد عامين في زيارة أخرى قام بها الرئيس الفرنسي إلى مصر، إذ نقلت الصحافة الفرنسية عنه في 2019، بعد ساعات من وصوله للقاهرة، تصريحات ينتقد فيها تعامل مصر مع المعارضين: “حاليًا، ليس المعارضون السياسيون فقط من هم في السجون، بل هناك معارضون في المعترك الديمقراطي التقليدي ممّن لا يشكّلون تهديدا لاستقرار النظام. إنهم صحفيون، ومثليون جنسيًا من النساء والرجال ممّن لديهم قناعات يبدو لي أنها لا تشكل أي تهديد للنظام”.
رغم ما يجده ماكرون في النظام المصري من “سلطوية نسبية”، إلا أنه يستبعد قطع أشكال التعاون، من أجل هذه الأسباب، لأن ذلك “سيُسرّع أكثر تقرّب مصر من روسيا أو من قوى أخرى تتمنى حصول ذلك”.
وبشكل أساسي، يقول مراقبون إن فرنسا لا تضغط على مصر في ملف حقوق الإنسان، بسبب ما تمثله القاهرة من سوق بارزة للسلاح الفرنسي، إذ تجاوزت فرنسا الولايات المتحدة، لتصبح المورد الرئيسي للسلاح للقاهرة في الفترة ما بين 2013 و2017، حسب تقرير مشترك لـ16 منظمة دولية.
وكان تقرير برلماني فرنسي، علق على علاقات التسليح الفرنسية المصرية، حيث جاء فيه: “هناك ضرر يلحق بسمعة فرنسا وزيادة التكلفة السياسية التي ستتكبدها على الأرجح بسبب استمرار هذه المبيعات”.
وخلال السنوات القليلة الماضية، تمكنت مصر من عقد صفقات سلاح غير مسبوقة في تاريخها مع فرنسا شملت مقاتلات “رافال” الفرنسية المنافسة لمقاتلات “إف-35” الأمريكية، وفرقاطات “غوويند”، وحاملات المروحيات الأولى في تاريخ مصر وهي “ميسترال”.
وفي اللقاء الذي جمع اليوم بين السيسي وماكرون في باريس، رفض الرئيس الفرنسي ربط مبيعات الأسلحة الفرنسية لمصر في المستقبل، بأوضاع حقوق الإنسان، قائلًا إنه تحدث بصراحة مع الرئيس عبد الفتاح السيسي بشأن قائمة أسماء لإطلاق سراحهم، مثل رامي شعث، وآخرين. بل وجه ماكرون التحية للحكومة المصرية، لإطلاقها سراح ثلاثة من العاملين في المجال الحقوقي، هم مسؤولو المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.