من المعلوم بالضرورة أن قيمة دولة القانون تقف عند حدود مدى احترامها للقوانين. تلك القوانين التي يأتي في مرتبتها العليا الدستور. وهو القانون الأساسي أو البنية الرئيسية للمنظومة القانونية كلها التي تنظم كيفية قيام الدولة من ناحية. ومن ناحية ثانية تبين الحدود والفواصل بين الواجبات والمحظورات الرئيسية في علاقة الدولة بأفرادها. كما أن الدساتير توضح ماهية كل سلطة من سلطات الدولة. وما هي العلاقة بينهم. وماهية ووظيفة كل سلطة من هذه السلطات.

ويُعد الدستور من الزاوية التشريعية حجر الزاوية التي يجب أن تقف عند حدوده كافة التشريعات التي تصدرها السلطات التشريعية. بحيث أنها يجب أن تكون متفقة مع أحكامه ولا تتجاوزه أو تتعداه. وهذا ما يكفل دعائم الدولة القانونية ويصون حقوق الأفراد، باعتبارهما ركيزتين أساسيتين لأي نظام ديمقراطي.

الأصل في هذا الأمر وقمة سنامه هو مدى التزام الدولة ذاتها ككيان ممثل في سلطتها الحاكمة لأحكام الدستور، فيما تُجريه من تصرفات. سواء كانت هذه التصرفات من منطلق سلطتها الإدارية في تسيير أمور الدولة. أو ما تجريه من علاقات أو تبرمه من تعاهدات أو التزامات سواء كانت داخلية أو خارجية. ويجب أن تضرب الدولة المثل الرفيع لمواطنيها في احترامها لقواعد الدستور. وبالتالي في قيام دولة القانون. وهذا ما جاء عليه الدستور المصري الأخير في مادته الأولى من قوله “على أساس المواطنة وسيادة القانون”، حينما أراد أن يوصف شكل الدولة المصرية.

اقرأ أيضًا: اعرف حقك| “الحرية الشخصية وحرمة المنازل”.. صانهما الدستور وانتهكتهما السلطة

إذا ما نظرنا إلى الدستور المصري في نسخته الأخيرة، نجد أن هناك العديد من الحقوق التي تعهدت الدولة بكفالتها. أهمها متمثل في الحقوق الاجتماعية والاقتصادية مثل كفالة الأسر المعيلة، والأشد فقرًا، وخصوصًا حقوق النساء والأطفال، وحقوق تولي الوظائف العامة، والحق في السكن، وغير ذلك. لكن صيغة الكفالة التي أتت بها نصوص الدستور، توحي بأن ذلك يكون في حدود إمكانات الدولة في تحقيقها أو ضمانها. وبالتالي سيكون الرد على ذلك بأن هذه هي حدود وإمكانات الدولة وفق مواردها وظروفها الآنية. وذلك ما يتماشى مع لفظة “يكفل” الواردة بالنصوص الدستورية.

لكن هناك أيضًا العديد من الحقوق التي التزمت بها الدولة التزامًا قاطعًا. يوجب هذ الالتزام أن تقوم الدولة بإنفاذ هذه الحقوق كاملة دونما نقصان. ومن بينها ما جاء النص عليه من التزام الدولة بإتيانه مثل ما جاء بنص المادة 18 من الدستور بأن تخصص نسبة 3% من الناتج القومي للصحة، على أن تزداد هذه النسبة تدريجيًا.

وكذلك ما جاء النص عليه في المادة 19 من أن تخصص الدولة نسبة 4% من الدخل القومي للإنفاق على التعليم، مع الالتزام بزيادة النسبة بشكل دوري. وكذلك ما نصت عليه المادة 21 من أن تخصص الدولة نسبة 2% من الناتج القومي للتعليم الجامعي. وأيضًا تخصيص نسبة 1% تزداد مع الوقت لتطوير البحث العلمي. على أن تزداد هذه النسب جميعها.

التقاضي في الجنايات وحق عودة النوبة مثال

وهناك أيضًا أمثلة أخرى لحقوق قد التزمت بأن تحققها الدولة. وأهم تلك الحقوق على مستوى ضمان التقاضي هو ما جاء بنص المادة 96 من الدستور في فقرتها الثانية بقولها “وينظم القانون استئناف الأحكام الصادرة في الجنايات”. لكن منذ صدور الدستور المصري عام 2014 لم ير المجتمع المصري، ونحن على أعتاب العام 21 في الألفية الثانية، أي تغيير في التقاضي في مواد الجنايات.

وعلى الرغم من انعقاد مجلس النواب المصري لمدة كاملة لم يتم إصدار القانون اللازم نحو تفعيل النص الدستوري. والذي يمثل التزامًا على عاتق الدولة تجاه المواطنين يجب تحقيقه. ولكونه متعلقًا بحق هام من حقوق التقاضي، بنظر قضايا الجنايات على درجتين، كان من الأوجب على الدولة أن تسعى نحو تحقيقه بشكل سريع لضمان إنفاذ هذا الحق الدستوري. حتى وأن كان الأمر مرتبطًا بمدى زمني يجب على الدولة أن تحقق ذلك الغرض خلاله. إلا أنه خلال ما يزيد عن ست سنوات لم نلحظ أي تغيير أو شروع في فعل هذا التغيير الضامن لحق هام من حقوق المتقاضين.

اقرأ أيضًا: اعرف حقك| سلامة الجسد.. صانها الدستور وحظر القانون انتهاكها

إذا ما انتقلنا إلى مجال آخر بعيدًا عن الحق في التقاضي على درجتين. ففيما يتعلق بعلانية جلسات مجلس النواب، الأصل وحسب النص الدستوري أن تكون هذه الجلسات علانية، وفق ما أكده نص المادة 120 من الدستور من قوله “جلسات مجلس النواب علنية”.

لكننا خلال خمس سنوات مضت، هي مدة انعقاد مجلس النواب الأسبق، لم يتم تفعيل هذا النص ولو لمرات قليلة. وتم تفعيل الاستثناء المتمثل في سرية الجلسات. وبات الاستثناء هو الأصل. فهل نطمح ونحن على أعتاب انعقاد مجلس نواب في دورة جديدة أن يتم تفعيل ذلك النص بحسبه ضامن أو كاشف لفاعلية النواب داخل المجلس النيابي؟ وهو ما يضمن تحقيق رقابة من الناخبين على مدى فاعلية نوابهم، ومدى تفاعلهم مع قضايا دوائرهم.

والمثال الأخير في هذا الصدد، يتعلق بإعادة أهل النوبة إلى مناطقهم الأصلية، وذلك حسب ما أتى النص عليه في المادة 236 من الدستور المصري الأخير. وإن كان النص أيضًا قد منح الحكومة مدة عشر سنوات تسعى خلالها إلى تحقيق ذلك الهدف. لكننا برغم مرور ما يزيد عن نصف هذه المدة لم نلحظ أي سعي حقيقي من قبل السلطات يضمن تحقيق ذلك الهدف لأهل النوبة، أو يضمن عودتهم خلال المدى الزمني المحدد.

ومن خلال عرضنا لهذه الأمثلة السالف عرضها بشكل سريع ومبسط. هل نستطيع أن نرصد أي ضمان لإنفاذ دولة القانون. أو نرى مثلاً تضربه لنا السلطة في إعلاء كلمة الدستور. أو كما تجسيدًا لما يطلق عليه فقهاء العلم الدستوري “سمو الدساتير”. وهو الذي يمثل أصلاً مقررًا وحكمًا لازمًا لكل نظام ديمقراطي سليم. كما يعد أيضًا من أهم خصائص الدولة القانونية.

وكما تقول المحكمة الدستورية العليا المصرية في تعريفها لدولة القانون، بأنها الدولة التي تتقيد في كافة مظاهر نشاطها وأيًا كانت طبيعة سلطاتها بقواعد قانونية تعلو عليها. وتكون بذاتها ضابطًا لأعمالها وتصرفاتها في أشكالها المختلفة. باعتبار أن ممارسة السلطة لم تعد امتيازًا شخصيًا لأحد. ولكنها تٌباشر نيابة عن الجماعة ولصالحها.