في مطلع هذا الأسبوع، وبينما كان كل المهتمين بقضايا الشأن الأفريقي ودول حوض النيل يتابعون آخر تطورات الحرب الأهلية المستمرة منذ شهر تقريبًا فى إقليم تيجراي بإثيوبيا، وردت أنباء مفاجئة نقلتها قناة العربية، عن إعادة سيطرة القوات المسلحة السودانية على نصف مساحة أقليم “الفشقة” الحدودي المتنازع عليه مع إثيوبيا. وفي هذه العملية، استولى الجيش السوداني على معسكرخور يابس داخل الفشقة الصغرى قبالة بركة نورين، بعد 25 سنة من الغياب السوداني عن المنطقة.
اقرأ أيضًا: إثيوبيا على الحافة.. معارك مستمرة في تيجراي تُنذر بحرب أهلية
إقليم الفشقة هو جزء من ولاية القضارف السودانية. يمتد بطول 168 كم عبر الحدود السودانية الأثيوبية، بمحاذاة إقليم الأمهرا الإثيوبي، وينقسم إلى ثلاث مناطق. هي: “الفشقة الكبرى” و”الفشقة الصغرى” و”المنطقة الجنوبية”. ومساحته الإجمالية 5700 كم وبه 600 فدان من أكثر الأراضي خصوبة في السودان. ويجرى فيه نهر باسلام إلى جانب نهري ستيت وعطبرة. ويتبع الإقليم السودان بموجب اتفاق ترسيم الحدود التاريخي، الذي تم توقيعه عام 1902، بين الجانب الإثيوبي، في عهد الإمبراطور منيليك الثاني، والاستعمار البريطاني نيابة عن السودان.
تاريخ النزاع
النزاع الحدودي بين السودان وأثيوبيا حول إقليم الفشقة مستمر منذ ما يزيد عن نصف قرن تقريبًا.
وكان العام 2020 أكثر محطات هذا الصراع دموية؛ إذ قُتل في مارس 2020، اثنين من الجنود السودانيين في اشتباك مع ميليشيات الشفتة الإثيوبية. وفي مايو من العام نفسه، قُتل النقيب كرم الدين محمد يعقوب عبد الله قائد منطقة بركة نورين بالإقليم، في تجدد للاشتباكات المتقطعة.
وفي يونيو 2020، وقعت اشتباكات عنيفه بين الجانبين، حسب بيان الجيش السوداني. وأوضح الجيش -آنذاك- أن هذه الاشتباكات هي الثانية بعد يومين من استهداف قوات إثيوبية بقصف مدفعي لمعسكر الأنفال شرق سندس بمحلية القلابات الشرقية. وهي منطقة قريبة من الهجوم الجديد، وفق ما نقل موقع قناة “الحرة” وقتها.
اقرأ أيضًا: إثيوبيا والتيجراي.. القصة الكاملة لصراع إقليمي محتمل في القرن الأفريقي
تعمقت الأزمة فى إقليم الفشقة بسبب الانشغال بالقضايا الداخلية وسوء التقدير والضعف والتراخي -في بعض الأحيان- من قبل الأنظمة المتعاقبة على الحكم في السودان. وذلك منذ الاستقلال عن التاج البريطاني عام 1956. وشملت تجاهل الخروقات والتوسعات التي كان يمارسها المزراعون الإثيوبيون في الإقليم بدعم من ميلشيات الشفتة المسلحة، وصولاً إلى فترة حكم البشير، الذي مارس سياسة غض الطرف والمساومة.
وكانت محصلة ذلك تمدد المزارعون الإثيوبيون في الإقليم وقيامهم برصف الطرق، وبناء المعسكرات ليفرضوا الواقع الديموجرافي في المنطقة. وتصل بذلك إجمالي المساحات التي اعتدت عليها إثيوبيا إلى 700 ألف فدان، بينما وصل عدد المزارعين الإثيوبيين إلى 1786 مزارعًا.
استغلال جيد للتوقيت الحساس
في 28 مارس الماضي، انتشر الجيش السوداني في منطقة الفشقة الواقعة على الحدود السودانية الإثيوبية. وأعقب الانتشار زيارة لرئيس المجلس السيادي السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان لتفقد القوات المتمركزة هناك. ما طرح تساؤلات حول ما يجري على الحدود السودانية الإثيوبية.
وفي نوفمبر الماضي، عقد مجلس الأمن والدفاع السوداني، اجتماعًا بالقصر الجمهوري برئاسة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي. وتطرق الاجتماع إلى عدة موضوعات من بينها تطورات الأحداث في إثيوبيا.
وقال اللواء ياسين إبراهيم وزير الدفاع السوداني، إن الخرطوم تنظر بقلق لما يجري في الجارة إثيوبيا. وأكد أن السودان يدعو كافة الأطراف للتعامل بحكمة والاحتكام للحل السلمي وضبط النفس. كما يعبر السودان عن قلقه البالغ مما قد يترتب جراء الاقتتال في إثيوبيا.
وبعد أن مالت كفة الحرب بشكل مرحلي في صالح قوات آبي أحمد وحلفاؤه، وردت أنباء عن قيام الأمهرة حلفاء –صاحب نوبل للسلام– بحملات لاستعادة أراضي داخل تيجراي، بدعوة ملكيتهم لها.
هذا الأمر آثار قلق الحكومة السودانية، ورغبت في فرض واقع جديد على الأرض في إقليم “الفشقة” قبل محاولة ميليشيات “الشفتة” الأمهرية التوسع بشكل أكبر داخل الإقليم. خاصة وأن غالبية المزارعين الإثيوبيين داخل الإقليم أمهريون. كما أن معظم أراضي إقليم الأمهرة الإثيوبي لا تصلح للزراعة، وهو ما كان سببًا رئيسيًا في توسعهم داخل الأراضي الخصبة لإقليم الفشقة السوداني.
اقرأ أيضًا: لماذا تزايدت الاضطرابات الإثيوبية؟
تطور خطير يهدد الانتصار الإثيوبي
ولم يكن النزاع السوداني الإثيوبي الأخير هو الأول في حدوثه فيما يتعلق بالفشقة. لكن التوقيت وردود الفعل وتحديدًا رد فعل الجيش السوداني، هي ما سلطت الضوء على تلك الأزمة.
وبنظرة على الخريطة الحدودية، نلاحظ أن الجيش السوداني بعد استعادته إقليم الفشقة، أصبح متاخمًا لإقليم تيجراي الإثيوبي. وهو أمر يشكل خطورة وتهديد كبير على أثيوبيا المنتصر على التيجراي. فقد يتيح “إذا أرادت السودان” دعم ما لمليشيات التيجراي، سواء لوجيستي أو عسكري عمقًا استراتيجيًا جديدًا لهذه المليشيات. ويرى مراقبون أن في هذا تطور خطير يقلق آبي أحمد وينذر بحرب عصابات استنزاف طويلة الأمد بين الجيش الإثيوبي ومليشيات الأمهرة من جانب والتيجراي من جانب آخر.
وبهذه الخطوة الهامة الأخيرة للجيش السوداني تكون قد تبقت له نصف المساحة التي كانت تحت سيطرة ميليشيات “الشفتة” الإثيوبية بدعم رسمي.
قراءة فيما هو قادم
يبدو أن آبي أحمد لا يرغب في خسارة السودان، خاصة بعد موقفها الأخير وإعلانها الانسحاب من مفاوضات سد النهضة. وهو أذكى من أن يفتح جبهة قتال مع النظام السوداني، ويدخل في مواجهة مباشرة “غير مأمونة العواقب”. لكنه في الوقت نفسه أمام معادلة صعبة وتساؤل حول هل سيتمكن من السيطرة على حلفاؤه من الأمهرة. وهم قاعدته الشعبية الأولى والداعم الرئيسي لاستقراره في الحكم، مع تجاهله خسارتهم العسكرية في إقليم الفشقة السوداني.
ومع ذلك، يتوقع أن يكتفي آبي أحمد بإطلاق يد الأمهرة في الإقليم دون إعلان دعم صريح لهم. وهذا ما كان يحدث سابقًا، قبل أن يسعى للتفاوض مع السودانيين.
أما السودان، فإن النظام الحاكم حاليًا فيه يبدو أكثر حرية فى تعاطيه مع القضايا الإقليمية الحساسة. وربما يعود ذلك إلى أنه على العكس من نظام البشير يحظى بدعم دولي غير مسبوق. وهو أمر يمنحه شرعية استعادته لإقليم الفشقة. خاصة وأن تلك الاعتداءات التي مارستها ميلشيات “الشفتة” هذا العام، تمثل نقضًا لاتفاق تم التوصل إليه العام الماضي، ويبررها التحرك السوداني الحالي الذي استغل فرصة الانشغال الإثيوبي بأزمة التيجراي.
ورغم كل المعطيات السابقة، فإن تلك العملية العسكرية التي نفذها الجيش السوداني لاستعادة الفشقة قد تكون لها آثار عميقة تؤثر على المشهد في القرن الأفريقي وحوض النيل الذي يبدو أنه لن يهدأ قريبًا.