كثير من الأرق تصحبه عدة أكواب من القهوة ترتفشفها “ماريان سعيد” الأربعينية، التي قررت أن تواجه مشكلتها مع “هوس الشراء” بشجاعة، فتحاول أن تمنع نفسها وبإرادتها من الخروج للتسوق.
“ماريان” طبيبة متخصصة في العلاج الطبيعي، تعي جيدًا أنها تعاني من اضطراب واضح، يوصف علميًا بـ”هوس الشراء“. هكذا شخص الأطباء حالتها قبل سنوات، وتقبلت هي بحكم طبيعة عملها هذا التشخيص. وحاليًا، تحاول “ماريان” مقاومة رغبتها في التسوق والشراء بشتى الطرق. لكنها سرعان ما تفشل.
تقول “ماريان”: “أعاني بشدة في فترة العروض والتخفيضات. وصل الأمر إلى أن أطلب من زوجي غلق باب المنزل من الخارج حتى لا أتمكن مغادرة المنزل خلال هذه الأيام”.
بات الأمر يشكل لـ”ماريان” أزمة حقيقية. وحذرها كل الأطباء والاختصاصيين النفسيين من أن حالتها متطورة في الاضطراب، الذي تعاني منه منذ فترة شبابها تقريبًا. ولأنها من طبقة اجتماعية ميسورة الحال، وتتوفر لديها الإمكانات المادية فإنها لا تحاول كبح جماح رغبتها في الشراء منذ صغرها، بل كانت تنميها الإمكانات المتاحة دائمًا.
اقرأ أيضًا: هوس اقتناء العملات القديمة.. هواية الملوك وحظ الهواة
“في إحدى المرات دفعت كل الأموال التي عثرت عليها في حقيبتي لشراء أصابع أحمر شفاه جميع ألوانها موجودة لدي بالفعل”. توضح “ماريان” كيف كانت تشعر بسعادة كبيرة وقت شراء تلك الأصابع. لكن سرعان ما اختفت سعادتها عندما ذهبت لمنزلها ونشب شجار بينها وبين زوجها الذي صارحها بنفاد صبره من هذا التبديد لأموالهما.
ويقول الدكتور محمود علاء الدين، استشاري العلاج السلوكي، أنه على الرغم من سهولة وبساطة علاج شره الشراء العصبي أو ما يعرفه بعض المختصين بوسواس الشراء القهري. إلا أن عدد قليل من المصابيين بهذا المرض يمكنهم أن يحققوا الشفاء التام. وهذا نظرًا لارتباط المؤثرات الخارجية في المجتمع بتحفيز الاضطراب نفسه.
ويوضح أنه يتابع حالة “ماريان” التي تابع حالتها منذ أكثر من 10 أعوام. “جربت معها جميع أنواع التأهيل السلوكي المعرفي لأساعدها على تجاوز الأمر. إلا أن هذا لم يحقق أي تقدم”. وعلل “استشاري العلاج السلوكي ذلك بأنها تعرف المرض والعرض الخاص به جيدًا. وأن هذا يشكل في عقلها دفاعات وإحداثيات غير حقيقية عن طبيعة أزمتها، بحيث تُوهم نفسها بأنها تقترب من الشفاء. أو أنها بالفعل تماثلت للشفاء.
النساء أكثر عرضة لـ”هوس الشراء”
ويرى الدكتور محمود علاء الدين أن هذه الفترة من العام تحديدًا تتردد على عيادته الكثير من الحالات المصابة بشره الشراء العصبي. ويرجع ذلك لانتشار العروض والتخفيضات في كل مكان في مصر. ويوضح أن معظم الحالات من السيدات. وأن أكثر الحالات التي تعاطف معها كانت حالة لفتاة ثلاثينية من أسرة متوسطة لا تتحمل ظروفها المادية أعباء هذا الاضطراب.
ووفق استشاري العلاج السلوكي، تدهورت حالة الفتاة كثيرًا. وهي طالبة في إحدى الكليات للتعليم المفتوح، تأثر مستواها الدراسي باضطرابها، وانشغال تفكيرها بمحاولة مكافحة تفكيرها في الشراء. خاصة وأن رغبتها في الشراء غير مشبعة بسبب ظروفها المالية والاجتماعية.
اغتنام فرصة التخفيض
“تسنيم مراد” طالبة بالفرقة الرابعة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، تعاني والدتها “شره الشراء العصبي”. وتكمن أعراضه في إقبالها على شراء أي شيء خاصة في أوقات التخفيضات بشكل غير طبيعي. حتى لو لم تكن في حاجة للسلعة التي تشتريها. كل ما تفكر فيه هو اغتنام فرصة التخفيض.
رفضت والدة “تسنيم” الاعتراف بأزمتها في البداية، ما ضاعف من معاناتها، حتى قرر الأبناء عدم تركها تخرج بمفردها خلال فترة التخفيضات. خاصة بعد ملاحظتهم استغلال بعض التجار لها.
نحن نستغل الفرصة.. لا نتجسس عليكم
ربما لا يعي بعض التجار ماهية الاضطراب نفسه، وأنه هو المحفز والدافع وراء إقبال بعض عملائهم على الشراء باستمرار. إلا أن بعضهم بفسر الأمر بأن بعض العملاء يحبون الشراء دون سبب. ويقول أحمد سعد -أحد مسؤولي التسويق الإلكتروني بأحد سلاسل المتاجر- غن كثير من العملاء يستفسرون عن أسعار بعض المنتجات ويشتروا منها كميات بشكل مبالغ فيه. بينما لم يحاول هو تفسير الأمر من قبل، وإن كان يرى الأمر باعتباره “مجرد أموال طائلة لا يعرف أصحابها كيف يستغلونها فينفقونها على الشراء المبالغ فيه”.
في هذه الحالة، يكون التجار أكثر المستفيدين من “هوس الشراء”. حتى أن مديري الشركات الدعائية عبر الإنترنت يضعون قائمة بأسماء وروابط العملاء الأكثر إقبالاً على الشراء، ليرسلوا لهم العروض أولاً بأول. بل وتعتمد شركته بشكل أساسي على هؤلاء العملاء في تحقيق الدخل الأساسي باعتبار العالم الافتراضي سوقها الأولى.
في تقرير بصحيفة “نيويوك بوست الأمريكية”، قال أليكس هامرستون، رئيس الممارسة للحوكمة وإدارة المخاطر والامتثال في TrustedSec، وهو أحد أعضاء فريق استشاري لأمن المعلومات في عمليات محاكاة الهجمات الإلكترونية وإدارة المخاطر الاستراتيجية، إن “السبب وراء ظهور إعلانات منبثقة يبدو أنها مرتبطة بالشيء الذي كنا نتحدث عنه رفقة أصدقائنا -على سبيل المثال- هو أن شركات التكنولوجيا والتسويق تجمع كميات كبيرة من البيانات الشخصية والسلوكية لنا، لا بكونها تتنصت علينا.. الأمر يتعلق بما نتصفحه عبر الويب والتسوق والنشر على وسائل التواصل الاجتماعي وأشياء أخرى يفعلها الأشخاص عبر الإنترنت”.
اقرأ أيضًا: الاحتيال الإلكتروني.. كيف نقع فرائسًا سهلة بفخ لصوص “الهندسة الاجتماعية”؟
تحفيز واستغلال
وفي الوقت الذي لا يعرف فيه معظم التجار تأثير ما يرسلونه للأفراد الذين يعانون “هوس الشراء” من رسائل دعائية لبضاعتهم، يصل هؤلاء المضطربين لأعلى مراحل المرض والانتكاسة لمن كان بدأ العلاج منهم.
هذا ما أوضحته الدكتورة منال زكريا، استشاري العلاج المعرفي. وتوضح أن هؤلاء التجار وتلك الشركات بقصد أو دون قصد تساعد في تفاقم الأزمة لدى المصابيين. وهو أمر غير قابل للسيطرة، خاصة في أيام العروض والتخفيضات، التي يسعى فيها الباعة لتحقيق أعلى الأرباح. ويتفاعل معهم -خلال هذه الفترة- عدد كبير من المواطنين، بعضهم يعاني اضطراب الشره الشرائي. فتصبح الحملات الدعائية بمثابة المحفز والداعم لظهور الاضطراب.
ويفسر هذا الكثير حول ارتفاع نسب المبيعات خلال فترة “البلاك فراي داي”، الذي حقق نجاحًا غير مسبوق عبر الإنترنت، ليس فقط في مصر بل على المستوى العالمي. فقد صرح الاتحاد الوطني للبيع بالتجزئة في الولايات المتحدة الأمريكية أن هناك ما يزيد عن 120 مليون فرد تسوقوا عبر الإنترنت في الجمعة الأولى من شهر ديسمبر الجاري. وذك مع مراعاة أن هذا الرقم يرتفع بشكل يومي.
نسب الإصابة بـ”هوس الشراء”
وتؤكد الدكتورة منال زكريا أن هوس التسوق باعتباره أحد أنواع الإدمان النفسي، يصيب النساء بشكل أكبر من الرجال. ومن بين أهم أعراضه أن أصحابه يعانون من الحاجة المستمرة لصرف الأموال دون حساب، حتى لو كانوا لا يملكون غيرها. وتضيف أن الفرد المصاب بهذا الهوس يتابع باستمرار جميع عروض التخفيضات، ظنًا أنه بذلك سيحقق شغفه في الشراء الدائم لأكثر عدد من الأشياء. وفي هذه الحالة، يستخدم التسوق لتحسين المزاج، على عكس الشخص العادي الذي يتحسن مزاجه بالمنتجات أو السلع الذي يشتريها، وليس بالعملية في حد ذاتها.
وترى استشاري العلاج المعرفي أنه من بين أعراض اضطراب التسوق أيضًا إقبال الأفراد على شراء الأشياء غير الضرورية، والإصرار على اقتنائها دون أي مبرر أو هدف. مع عدم القدرة على الادخار أو توفير الأموال مهما كان لديهم موارد مالية.
السيطرة الذاتية
وبالرغم من الأضرار التي يعاني منها الفرد جراء إصابته بـ”هوس الشراء”، إلا أن علاجه سهل ويحتاج فقط إلى المثابرة والقدرة على السيطرة الذاتية. وهو ما أوضحته الدكتورة منال زكريا من خلال عدة سلوكيات. ومن بين هذه السلوكيات الواجب اتباعها أن يتعمد الفرد الخروج دون بطاقات الائتمان التي يملكها. كذلك أن يضع أموالاً بسيطة في حافظة نقوده، حتى لا يجد الكفاية النقدية التي تيسر رغبته في الشراء.
كما تنصح بابتعاد الأفراد عن جميع أخبار التخفيضات والعروض في مواسم التسوق. وتضيف أنه في حال لم يتمكن الفرد من السيطرة على نفسه، لابد من اللجوء لطبيب يساعده. حتى لا يقع في مشكلات كبيرة أولها خسارته الدائمة لأمواله.
عقدة قديمة
لكن وبالرغم من أن طرق العلاج بسيطة للغاية، تتعقد المشكلة لعدم وجود سبب رئيسي لـ”هوس الشراء”. فمن الممكن أن يكون الاضطراب نابع عن عقدة قديمة، كما يوضح ياسر وصفي، أستاذ العلاج السلوكي بجامعة القاهرة، والذي يشير إلى أن أغلب الأفراد الذين يعانون هذا الاضطراب كان لديهم في الأصل شعور مفرط بالحرمان في صغرهم، وهم على يقين بأن كثرة الشراء هو الوسيلة الوحيدة للتخلص من عقدتهم القديمة، أو التي تحقق لهم السعادة المرغوبة.
ويوضح أن بعض الأطباء يرجعوا الأمر لاضطراب في الناقلات العصبية الكيميائية الموجودة في المخ، مثل السيروتونين. وهو ما يجعلهم يجدون صعوبة في إيقاف رغباتهم المستمرة في الشراء. وعليه، يجب مراعاة السبب جيدًا حتى يتمكن الطبيب من معالجته، ليس فقط بمساعدة الفرد، بل بمساعدة كل المحيطين به لتحقيق الشفاء.