منذ أن بدأت الوزيرة فايزة أبو النجا حملتها على المنظمات غير الحكومية في مارس 2001، متهمة إياها بأنها “غير شرعية” وتسببت فيما حدث في مصر من “فوضى”. وأنها، أي المنظمات، عن طريق “التمويل الأجنبي” استطاعت أن تهدد “الأمن القومي”. منذ ذلك الحين والجميع يتساءل بخبث: لماذا ترفض المنظمات الحقوقية أن تكون”شرعية”؟ لماذا تصر على أن تكون “خارج القانون”؟ لماذا تبحث عن المشكلات مع الحكومة؟

منذ نشأة حركة حقوق الإنسان في مصر نهاية سبعينيات القرن الماضي، وعلاقتها مع الحكومة ملتبسة. ترفض الحكومة إعطائها شرعية قانونية، وفي الوقت ذاته تسمح لها بالعمل للمدى الذي يجعلها تُحدث “جعجعة بلا طحن”.

ولكن دائمًا، كانت المنظمات الحقوقية تسعى لأن تمد يداها للتعاون مع الحكومة. وللحق، ففي بعض الأحيان، كانت الحكومة تقبل تلك اليد الممدودة، لكنها كانت تشترط أن يكون ذلك في السر، وأن يكون في إطار المؤسسات الأمنية. وفي الحقيقة أيضًا فإن ذلك كان مقبولًا ما دام يؤدي إلى مساعدة الضحايا أو التخفيف عنهم.

حاولت كل المنظمات الحقوقية أن تسجل نفسها كجمعيات أهلية وفق القانون الساري، سواء أكان القانون 32 لسنة 1964 أو القانون 84 لسنة 2002. وكانت الحكومة في كل مرة هي التي ترفض التسجيل!

أتذكر  أنه عندما قررت المنظمة العربية لحقوق الإنسان، أن تحاول تسجيل نفسها في مصر عام 1985، عهدت بتلك المهمة إلى المرحوم النقيب الأستاذ عبدالعزيز محمد، نقيب محامي القاهرة.

ووفقًا لما قاله، فإنه بعد أن تقدم بأوراق التأسيس كاملة إلى وزارة الشؤون الاجتماعية في الصباح؛ طلبوا منه أن يرسل إليهم في الغد من يتسلم إيصال استلام الأوراق. لكنه عندما ذهب لمكتبه مساء ذلك اليوم، وجد الأوراق كلها ملقاة على عتبة باب مكتبه كما سلّمها لهم، وفي مظاريفها كما هي.

أذكر أيضًا أنه عندما قرر مجلس أمناء المنظمة المصرية لحقوق الإنسان عام 1986، إسناد مهمة المنظمة للأمين العام حينها دكتور شريف حتاتة والي (ولم أكن حينها عضو مجلس أمناء)، قيل لنا عندما ذهبنا لإدارة الجمعيات في وزارة الشؤون الاجتماعية: “وفروا الوقت والجهد؛ القانون لا يوجد فيه نشاط حقوق الإنسان. أنتم مش تبعنا”.

دائمًا كانت المنظمات الحقوقية تسعى لمد يداها للتعاون مع الحكومة. في بعض الأحيان كانت الحكومة تقبل اليد الممدودة، بشرط أن يكون ذلك في السر وفي إطار المؤسسات الأمنية.

هكذا، ظلت المنظمة المصرية تعمل، ولها حساب في أحد البنوك المعروفة وقتها (البنك الوطني)، دون أن يكون لها أي شخصية قانونية لدرجة أن المرحوم السفير نجيب فخري، كان يقول لكل من يلتقيه من السفراء الأجانب: نحن موجودون بحكم الأمر الواقع.

لم يكن من السهل على حركة حقوق الإنسان أن تمضي في العمل عارية من أي غطاء قانوني.

وهكذا، نبتت فكرة الشركات المدنية، وهي فكره تستند إلى القانون المدني الذي يبيح للأفراد إقامة شركات ليست ذات طبيعة تجارية، ولكنها في النهاية ربحية.

وكي تؤكد حركة حقوق الإنسان على أن هدفها لن يكون الربح (ولم يكن كذلك أبدًا). وكانت تضمن عقود إنشاء تلك الشركات، نصوصًا واضحة تلزم للمؤسسين بإعادة ضخ ما يمكن أن يسفر عنه نشاط الشركة من أرباح من أنشطتها. وهكذا عرف الواقع القانوني المصري عبارة “شركات مدنية لا تهدف إلى الربح أساسًا”.

وهكذا، مضت حركة حقوق الإنسان في مصر تعمل وتتواصل مع السفراء المعتمدين بمصر، وتوقع عقود وتنفذ مشروعات تنموية، وتفتح حسابات في البنوك لتلقي قيمة تلك المشروعات، وتتصل بالمسؤولين الأمنيين الذين تختارهم الحكومة للاتصال بهم، وهم في كل الأحوال ضباط في وزارة الداخلية.

ويحدث كل هذا دون أن يكون لها شرعية قانونية واضحة، أو على الأقل شرعية قانونية مُتفق عليها. وكان ذلك الأمر مفيد للجانبين، بحيث أن تتمكن الحكومة بالتفاخر أمام الأمم، بأن لديها حركة حقوق إنسان نشطة وفعالة، وأن مصر دولة ديمقراطية، رغم أنها من جهة أخرى، أي الحكومة، تقول عن المنظمات إنها غير شرعية وإن القائمين عليها “عملاء” ويتمتعون بحماية دول أجنبية.

ومن جانب حركة حقوق الإنسان، فرغم أنها كانت تعرف دائمًا أن لهذا الوضع مخاطره، إلا أنها كانت تقبله لأنه يوفر لها حركة أوسع بعيدة عن بيروقراطية وزارة الشؤون الاجتماعية، ولأن البديل هو أن تغلق أبوابها، فلا يجد الضحايا من يلجؤون إليه.

ومنذ عام 1990 والمنظمات الحقوقية ترفع مطلبا أساسيا، هو الموافقة على تسجيلها جمعيات أو مؤسسات أهلية. واقترن مطلبها هذا بمطلب تعديل القانون المنظم لعمل الجمعيات الأهلية، ليكون أكثر ديمقراطية واتفاقًا مع روح العصر ومبادئ الدستور.

واعتبارًا من العام 2000 أو قبله بقليل، وافقت الحكومة، لظروف خاصة، على أن تمنح بعض المؤسسات الحقوقية صك الشرعية. مثلًا: وافقت بعد أزمة القبض على المرحوم الدكتور حافظ أبو سعدة، الأمين العام للمنظمة المصرية وقتها، وبتدخل من الدكتور أيمن نور وغيره من أعضاء مجلس أمناء المنظمة كجمعية أهلية، وهو أمر رغم وجود موافقة سياسية عليها استلزم مفاوضات حول الأهداف والغايات وغيرها استمرت أكثر من عام ونصف العام، قبل أن يتم الموافقة على عملية التسجيل بشكل نهائي.

كما حصلت كيانات حقوقية أخرى على حق التسجيل، إما بعد معركة قضائية خاضتها أو بعد محادثات ماراثونية مع موظفي وزارة التضامن وجهات أمنية، أو بعد تدخل شخصيات نسائية للمسارعة في التسجيل.

والحقيقة أن معركة تسجيل المنظمات الحقوقية كجمعيات أهلية مع محاولاتها في الوقت نفسه تعديل القانون المنظم لعمل الجمعيات الأهلية، كانت من أهم المعارك التي خاضتها المنظمات الحقوقية المصرية.

اقرأ أيضا:

المجتمع المدني في مصر.. خسائر للاقتصاد و”السمعة” بسبب التضييق

بعد حفظ التحقيق مع 20 منظمة أهلية في القضية 173 | نرصد مبادرات عودة الحياة إلى المجتمع المدني

“حقوق الإنسان في مصر”.. قراءة في توصيات الاستعراض الأخير

 

أستطيع أن أقول إن المنظمات الحقوقية الرئيسية قدمت عشرات من المسودات لقوانين جديدة للجمعيات أكثر عدالة وأقل بيروقراطية. كما  أن المسودات التي قدمتها، وإن كانت، في أغلبها على الأقل، تراعي مخاوف دولة “عجوز” أقيمت على أساس غير ديمقراطي، وتدار بأسلوب لم يعد يتناسب مع روح العصر ومتطلباته؛ كانت تراعي في الوقت نفسه، وبالقدر ذاته، المساعدة على بناء حركة أهلية شابة ومتحررة، تجعل المنظمات الأهلية مستقلة عن الدولة وليست بعيدة عنها.

وفي عام 2013، وعقب ثورة 30 يونيو شاركت المنظمات الحقوقية في لجنة حكومية شكلها وزير التضامن الاجتماعي حينها، أحمد البرعي، من أجل صياغة مسودة قانون جديد للجمعيات.

وأذكر أن الصديق المرحوم حافظ أبو سعدة، كان هو مقرر هذه اللجنة التي شارك في أعمالها ممثلين عن وزارات: التضامن والخارجية والتعاون الدولي.

واستطاعت المنظمات بعد مناقشات ومفاوضات أن تصل إلى مسودة قانون جديد للجمعيات كان يعتبر هو الأفضل علي الإطلاق.

وعلي الرغم من أن هذه المسودة قد تعرضت بعد خروج الدكتور البرعي من الوزارة، وتولي الدكتورة غادة والي (أضعف وزيرة تضامن اجتماعية منذ حكمت أبو زيد) مهام منصبها، للكثير من التعديلات، والتي انتهت إلى صدور قانون مشوه حمل رقم 70 لسنة 2017. إلا أن المؤسسات الحقوقية المصرية لم تتخل عن مطالبها في التسجيل كجمعيات أهلية، وفي تعديل القانون المنظم لعمل تلك الجمعيات، ليكون أكثر اتفاقًا مع الدستور في آن معًا.

وعلى الرغم من أهمية المناشدات الدولية لتغيير القانون 70 لسنة 2017، إلا أنني كشخص قريب من الملف، أتصور أن إعلان الرئيس السيسي رغبته في تعديل القانون بآخر أكثر ديمقراطية للعمل الأهلي، كان نتيجة مباشرة لمحاولات حثيثة قامت بها المنظمات الحقوقية المصرية، بل حتى الاتحادات الإقليمية للجمعات، والمجلس القومي لحقوق الإنسان، والذين ظلوا جميعهم، من 2017 وإلى 2019، يديرون نقاشات مع أجهزة في الدولة بشكل معلن في أحيان كثيرة، وغير معلن في بعض الأحيان؛ من أجل إصدار قانون جديد للجمعيات، أكثر عدالة وديمقراطية وتحرر.

وإذا كان من حقي أن أفخر بما قدمته، فإنني سأقول هنا إنني قدمت شخصيًا أكثر من مذكرة إلى جهات في الدولة، بناءً على طلبها، تضمنت المشاكل التي رأيتها كمحامٍ، في القانون 70 لسنة 2017، مع اقتراحاتي للتعديلات. كما شاركت في أكثر من مناقشة داخلية، حول كثير من النصوص المتعلقة بنشاط الجمعيات، وبالتمويل، وبالحل، وبالتسجيل.

بالطبع لم يُؤخذ بمقترحاتي كلها، لكنني عندما أطالع نصوص القانون 149 لسنة 2019 أجد صدى لكثير من مقترحاتي ومقترحات غيري تتردد في نصوصه.

واليوم، حركة حقوق الإنسان المصرية أمام فصل جديد من فصول نضالها من أجل أن يكون الدستور والقانون في خدمة حقوق الإنسان، وليس سيفًا على حقوق الإنسان. وهو أمر لن يحدث ما لم تبادر للدخول الطوعي تحت مظلة القانون 149 لسنة 2019 الخاص بالعمل الأهلي، ومن داخله تبدأ حملتها الجديدة من أجل تطبيقه بشكل منصف.

يتعين أن تبدأ حركة حقوق الإنسان في محاولة فتح قنوات اتصال مع الحكومة تماثل في ديناميكيتها تلك التي استطاعت فتحها مع المؤسسات الدولية

أمام المنظمات الحقوقية الكبرى فرصة تقديم اقتراحات لتحسين اللائحة التنفيذية للقانون حتى بعد صدورها، فتعديلها لا يستلزم أكثر من قرار من الوزير المختص، للوصول إلى توازن بين حق الدولة في الرقابة، وحق الجمعيات في العمل الحر.

كما يتعين أن تبدأ حركة حقوق الإنسان في محاولة فتح قنوات اتصال مع الحكومة تماثل في ديناميكيتها تلك التي استطاعت فتحها مع المؤسسات الدولية.

أعرف أن ذلك يتطلب ضغوطا متنوعة، وقدرا من الصبر، لكنه أيضًا ليس مستحيلًا. الدولة المصرية جربت بعد يونيو 2013، أن تكون دولة عنيفة، وأظن أن عنفها المفرط وصل لغايته أو كاد، وأنها في طريقها لاكتشاف أن المطلوب أن تكون مصر دولة قوية، لا دولة عنيفة، وأن قوتها تكون عندما ترعى المصالح المختلفة لأفرادها، وأن تَخضع، هي وموظفيها والعاملين لديها، للقانون، لا أن تتعالى عليه.

منذ بداية عملي كمحامٍ في العام 1977، آمنت بمقولة للأستاذ المرحوم، المحامي فريد عبدالكريم: “نحترم القانون، لكننا لن نتوقف عن المطالبة بتعديله”. وأظن أن مستقبل حركة حقوق الإنسان المصرية في الداخل، سيتوقف على قدرتها الالتزام بنصوص القانون، والكفاح من أجل تحسينه.

الفرق بين رجل السياسة وبين رجل الأمن، هو فرق بسيط: الأول يبحث عن الفرص، والثاني يبحث عن المشكلات. لنبحث نحن عن الفرص ونقتنصها، ونترك من يبحثون عن المشكلات خلفنا، فمصر لا تحتاج إلى مشكلات جديدة بقدر احتياجها إلى فرص جديدة.