عزيزي الذكر المتحرش والمغتصب، لا تخشى منظومة العدالة في مجتمع ذكوري، فالعدالة في المجتمع الذكوري هي أيضًا ذكورية، وفي المجتمع الطائفي هي طائفية، وفي المجتمع العنصري هي عنصرية.

فالعدالة هي ابنة المجتمع  بقيمه ومبادئه وممارساته وتصوراته، ومن يطبقها هم أبناءه. فكما يمشي القطار على القضيب، فالعدالة لها قضيب يصنعه المجتمع لتسير عليه ولا تخالفه، ولتحميه.

هذه الحقيقة أثبتتها تجارب لجوء النساء إلى منظومة العدالة مؤخرًا، فتحولن إلى متهمات! وتحول شهود الإثبات إلى متهمين! حيث شهدت الشهور الأخيرة عدد من قضايا العنف الجنسي الموجه ضد النساء. تلك القضايا التي جاءت لتثبت قدرة النساء على تخطي موروث الصمت والتستر على العنف الواقع عليهن.

تواجه الناجيات من العنف المبني على النوع الاجتماعي، حواجز وتحديات تعيقهن عن الوصول للعدالة، منها غياب الثقة بفعالية منظومة العدالة، وعدم الوعي بالقوانين

وبالرغم من كافة الصعوبات والتحديات التي واجهتها النساء في ذلك، إلا أنهن أوجدن طرق متعددة للإعلان عن تلك الجرائم  ومواجهة الجناة. تلك الخطوة الإيجابية والتي تعد انتصارًا،  كان من الأولى بعدها الحديث عن تطوير آليات وأدوات إثبات هذا العنف، لمساعدة المزيد من النساء للخروج من صمتهن. لكن للأسف مسار الأحداث في بعض تلك القضايا تحول أن أصبح فيها المجني عليهن والشهود متهمين، وتم عرضهن على الطب الشرعي، في انتهاك لكثير من حقوقهن، ما جعل اللجوء إلى منظومة العدالة محفوف بالمخاطر.

وتواجه الناجيات من العنف المبني على النوع الاجتماعي، حواجز وتحديات تعيقهن عن الوصول للعدالة، منها غياب الثقة بفعالية منظومة العدالة، وعدم الوعي بالقوانين ومعرفة الحقوق، وإفلات الجناة من العقاب، واحتمال وقوع الناجيات ضحايا مرة أخرى لهذا العنف، ما يُشعر الناجيات بأنه لاحول لهن ولا قوة.

اقرأ أيضًا: العنف ضد المرأة.. عندما تكون الجريمة عابرة للحدود

وفي بعض السياقات لا يمكن لنظم العدالة أن تلبي احتياجات الناجيات، بل إنها في الواقع قد تتسبب بالمزيد من الضرر لهن. كما قد تواجه الناجيات عوائق اقتصادية واجتماعية وثقافية كبيرة، تضاف إلى الضغط الاجتماعي الذي يمنعهن من التبليغ عن الحوادث والوصول للخدمات القانونية، خاصة مع غياب البروتوكولات الخاصة بالعنف المبني على النوع الاجتماعي، وضعف أو غياب التشريعات التي تحمي الناجيات وتسهل عليهن إثبات وقائع العنف أمام منظومة العدالة.

“أرجو من صاحبات الشهادات، لأهمية وخطورة الموضوع، اتخاذ الإجراءات اللازمة عبر الجهات المعنية، لكي يُفتح تحقيق رسمي يوثق به كلام كل الأطراف بدقة”، هكذا تكلم المخرج المتهم بالتحرش والعنف الجنسي مؤخرًا، وقد أدرك الدرس: لجوء النساء ضحايا العنف الجنسي إلى منظومة العدالة في ظل الوضع الراهن، محفوف بالمخاطر.

التجربة العملية مخيفة، وعلى النساء التعلم من  “رأس الذئب الطائر”، تلك القصة التي تحكي عن  خروج  الأسد والذئب والثعلب للصيد. وفي نهاية اليوم كانت حصيلة الصيد غزالًا وحملًا وأرنبًا. عندئذ سأل الأسد الذئب أن يقسم الصيد بينهم جميعًا، فقال الذئب: الغزال لك يا مولاي، والحمل لي، والأرنب للثعلب، فكشر الأسد عن أنيابه، وفي لحظة واحدة أطاح برأس الذئب ففصله عن جسده، ثم التفت إلى الثعلب المذعور وسأله أن يقسم الصيد، فقال الثعلب بخبث: الغزال لإفطارك والحمل لغدائك والأرنب لعشائك، فضحك الأسد بشدة وسأل الثعلب: من أين تعلمت كل هذه الحكمة؟ فقال الثعلب: من رأس الذئب الطائر!

ستظل النساء يواجهن العنف الجنسي حتى ينكسر قضيب العدالة الذكورية بتنفيذ التزامات محددة وإدخال تعديلات جوهرية لمناهضة العنف ضد المرأة. نحن لن نخترع العجلة، فأول وأهم هذه الالتزامات صدور قانون متكامل لحماية النساء من العنف، سواء في المجال الخاص أو العام، فبموجب التزامات مصر الدولية بتصديقها على “اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد النساء”، أصبحت ملزمة بما جاء في المادة الثانية من شجب جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والاتفاق على انتهاج سياسات تستهدف القضاء على التمييز ضد المرأة، والتعهد بالقيام بـ:

  • إدماج مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية أو تشريعاتها المناسبة الأخرى، إذا لم يكن هذا المبدأ قد أدمج فيها حتى الآن، وكفالة التحقيق العملي لهذا المبدأ من خلال التشريع وغيره من الوسائل المناسبة.
  • اتخاذ  ما هو مناسب من التدابير، تشريعية وغير تشريعية، بما في ذلك ما يناسب من جزاءات، لحظر كل تمييز ضد المرأة.
  • فرض حماية قانونية لحقوق المرأة على قدم المساواة مع الرجل، وضمان الحماية الفعالة للمرأة، عن طريق المحاكم ذات الاختصاص والمؤسسات العامة الأخرى في البلد، من أي عمل تمييزي.

وعليه فإن الالتزامات الخمسة المفروضة على الدول بموجب معيار العناية الواجبة في إطار هذه الاتفاقية، تعني أن تبذل الدولة العناية الواجبة باتخاذ الإجراءات التالية:

1. منع العنف ضد المرأة:

التصدي للأسباب الكامنة وراء العنف ضد المرأة، وتغيير الذهنيات وتعديل السلوكيات، والقضاء على عوامل الخطر، والتواصل مع المرأة المعرضة للعنف وإنهاء عزلتها، وتوسيع نطاق برامج التصدي للعنف ضد المرأة، وصياغة قوانين وتقديم ضمانات دستورية تتسم بالشمول.

إضافة لجمع البيانات وتصميم البرامج ومراعاة تعدد أوجه التصدي للعنف ضد المرأة، وإيلاء الاعتبار الواجب للفئات المعرضة للخطر،  واعتماد استراتيجية مستدامة، والتعاون مع المنظمات النسائية والمعنية بقضايا المرأة.

2. حماية المرأة من العنف:

كفالة توفير خدمات الدعم المنسقة للمرأة، وضمان حصولها عليها، وإتاحة أوامر الحماية للمرأة، وضمان استعانتها بها، ودعم المسعفين في أداء واجباتهم،  وتعزيز الوعي والمواقف الإيجابية من خلال أنشطة التدريب المستمرة.

3. ملاحقة مرتكبي العنف ضد المرأة:

تلبية احتياجات الضحايا والاستجابة لمخاوفهن، ووضع سياسات للحد من سقوط الدعاوى، وضمان تنفيذ استجابة إيجابية ومبكرة من قبل الشرطة لصالح الضحايا أو الناجيات.

بالإضافة إلى ترسيخ واجب التحقيق في قضايا العنف ضد المرأة، مع ترسيخ واجب ملاحقة مرتكبي العنف ضد المرأة، وكذلك تعزيز الثقة بأجهزة الشرطة والقضاء، وتعيين مدعين عامين متخصصين، وإنشاء محاكم متخصصة، والنظر في اعتماد سبل بديلة لتسوية النزاعات، والتأكد من أن النظم القانونية التعددية تتوافق مع نهج تقوية المرأة.

4. معاقبة مرتكبي العنف ضد المرأة:

محاسبة الجناة وضمان معاقبتهم عقابًا يتناسب مع الجرم، والسعي لتحقيق الأهداف المرجوة من العقوبة، مع توسيع نطاق نظام العقوبات القائم، بحيث لا يكون مقتصرًا على السجن، وضمان وضع عقوبات ترتكز على مبدأ أن العنف ضد المرأة غير مبرر.

5. توفير سبل الإنصاف للمرأة المعرضة للعنف:

اعتماد منظور يكون محوره الضحية، مع كفالة التعامل مع العنف ضد المرأة على النحو المتناسب مع خطورة الضرر أو الخسارة المتكبدة، وتحمل مسؤولية أن يقدم الجناة التعويضات اللازمة للضحايا، وكذلك العمل على تحقيق إصلاح مؤسسي وتغييرات جذرية.

لا ينبغي اقتصار عمليات العدالة الجنائية على حماية الضحايا والشهود فحسب، بل ينبغي أن تهدف أيضًا إلى تمكينهم

العدالة هي عملية متكاملة، وليست نتيجة فقط، فنحن نحتاج لاتباع إجراءات في منظومة العدالة تضمن كرامة الضحايا وحمايتهم،  فلا ينبغي إذًا، أن يقع الضحايا، أو يشعروا أنهم وقعوا، عرضة للتلاعب أو الاستغلال أو الخطر بسبب عمليات العدالة.

وهناك العديد من الإجراءات يمكن من خلالها حماية المجني عليهن والناجيات من العنف الجنسي أثناء إجراء المحاكمات، مثل: عدم الكشف عن الهوية واخفاء  البيانات وتمويه الصوت والصورة، واستخدام الأسماء المستعارة، بالإضافة إلى عقد جلسات مغلقة وسرية.

اقرأ أيضًا: العنف ضد المرأة | الكلفة الاقتصادية للضحايا

وينبغي تشريع وتطبيق قانون لحماية الشهود والمبلغين، وكذا برامج حماية الشهود قبل المحاكمة وأثنائها وبعد انتهائها. كما ينبغي وضع آليات للمتابعة من أجل تعقب الشهود بعد المحاكمة وحمايتهم. وفي بعض الحالات، قد تدعو الضرورة إلى النقل إلى مكان آخر وإنشاء هوية جديدة. ونظرًا إلى احتمال الكشف عن هوية الشاهد، ينبغي إعلام الشهود بوضوح ما قد تنطوي عليه شهادتهم من مخاطر، كي يتسنى لهم اتخاذ قرار المشاركة بمحض إرادتهم وهم على بيّنة من أمرهم.

كذلك لا بد من حماية الضحايا والشهود من مزيد من الصدمات، كما ينبغي إتاحة الدعم الطبي والنفسي لهم. وعلى القضاء والمدعون، أن يكفلوا استجواب الشهود باحترام.

أخيرًا، لا ينبغي اقتصار عمليات العدالة الجنائية على حماية الضحايا والشهود فحسب، بل ينبغي أن تهدف أيضًا إلى تمكينهم، فلهؤلاء الحد، كحد أدنى، في الاطلاع بانتظام على تقدم القضايا، فضلًا عن النتيجة النهائية.