تحقيق- فتيحة زماموش 

ثمانية ملايين جزائري يعيشون في مناطق الظل بالجزائر، يبحثون عن رؤية حُلُم في الواقع، مثلهم مثل سكّان المدن: حلم الحصول على سكن والعيش في ظروف أحسن، التزوّد بالماء الصّالح للشرب والكهرباء والإنارة العمومية، طرقات معبّدة، والعثور على وسيلة نقل تربط منطقة بأخرى، إضافة إلى مدرسة قريبة للأبناء، وغيرها من برامج التّنمية التي لازالت وعودا على ورق برامج مخططات لم تنفّذ من عديد المسؤولين الذين تعاقبوا على المجالس البلدية في أغلب ولايات الجزائر، وتصريحات لم ترفع الغبن عن ساكنة أحياء وُسِمت بــ” مناطق الظلّ”.

أولوية الرئاسة بعد سنوات الحِرمان 

“مناطق الظل” عبارة استعملها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في منتصف شهر فبراير من السنة الجارية، خلال كلمته في افتتاح منتدى اجتماع الحكومة الجزائرية بولاة الجمهورية، حيث دعا الرئيس الحضور إلى مشاهدة شريط وثائقي مدّته خمسة وثلاثين دقيقة.

يُلقي الضوء على أوضاع المواطنين في مدن الجزائر العميقة، والاطلاع على الواقع المزري في تلك الأماكن المعزولة التي تضمّ مجمعات سكنية تعيش الحِرمان، بعيدة عن أعين المسؤولين، وخارج إطار اهتماماتهم اليومية، بالمحصِّلة” أحياء بلا ماء ولا كهرباء ولا غاز ولا طرقات، ولا مدارس، ولا مراكز صحية، بنايات فوضوية تُخفِي معالم العيش على الهامش والفقر بكلّ معانيه. 

في نهاية مشاهدة الفيديو، ذرف الجميع الدّموع، بحسرة على سنوات ضاعت فيها حقوق المواطن، في بلد يعدّ من أغنى البلدان في القارة الإفريقية بثروات طبيعية، وأحد أعضاء منظمة الدول المنتجة والمصدِّرة للنّفط “أوبك”، ويتربع على مساحة تفوق مليونين كيلومتر مربع، وأراضي زراعية شاسعة، لكنها اليوم استفاقت على الآلاف من الفقراء والمحرومين، تحتاج إلى نفض الغبار عن ملفات مشاريع عالقة، وتراكم مشاكل تستحقّ إعادة النّظر. 

سياسيا، دافع الرئيس تبون عن رؤية الحكومة والعمل الكبير الذي ينتظرها، إن على المستوى المحلي (المجالس البلدية أو المستوى المركزي الولايات)، أو على المستوى المركزي بتكليف مستشار لرئاسة مكلّف بمناطق الظلّ، بهدف ترقيتها ومحو تلك الفوارق الاجتماعية والاقتصادية التي تعرفها.

اقرأ أيضًا: أمازيغ الجزائر.. ربيعٍ متجدد ضد الإقصاء الثقافي وتهميش اللغة

15 ألف منطقة محرومة 

كشفت وزارة الداخلية الجزائرية عن تسجيل 15 ألف “منطقة ظل” وهي القرى والأحياء الأكثر عزلة وفقرا، والأكثر تخلُّفا، صنّفتها الحكومة في خانة المناطق التي تعاني من نقائص من عدم توصيل شبكات الماء والكهرباء والغاز، وانعدام الرعاية الصحية وغياب المدارس ومراكز الترفيه والرياضة، فضلاً عن قنوات النقل سواء الطرقات بين الأحياء أو الطرقات الرابطة بينها وبين الولاية. 

كما يقطن هذه المناطق ما يربو عن 8 ملايين ساكن من بين 43 مليون مواطن جزائري، وفي مقابل ذلك كشفت السلطات عن تخصيص ما يقارب 800 مليون دولار أمريكي لتهيئة هذه المناطق، وتأهيلها، ضمن مشروع قانون المالية 2021، وذلك لتنفيذ برامج تنموية في البلديات قدرتها بــ 2200 مشروع تنموي.

جغرافيا، تقع مناطق الظلّ إمّا في مساحات فاصلة بين ولايتين أو ثلاث ولايات، ما يُشكّل لها عقبات في التسيير المحلي، فلا هي استفادت من ميزانية الولاية القريبة إليها لا هي كانت ضمن اهتمامات الولايات المجاورة.

يقول محمد السعيد حدّو، النّاشط في جمعية “المجتمع المدني” ببلدية “سيدي لعجال” بولاية الجلفة غربي العاصمة الجزائرية، موضحا لــــ” مصر 360″ أن هذه الولاية لوحدها تضم أكثر من 390 منطقة فقيرة وتنتظر استكمال برامج تنموية، لافتا إلى أنها تضم الأحياء السكنية الواقعة في الجبال الوعرة، أو على مستوى الصحراء الجزائرية وعلى مستوى الحدود ما بين الدول المحيطة بالجزائر.

اقرأ أيضًا : الجزائر: عام من”الحراك” و”محلك سر “

” المسلولة” وأخواتها: 30 عاما من الإهمال 

آلاف العائلات تعيش في الهامش، بسبب انعدام مرافق التنمية، وتُعرّي حقيقة حياتهم اليومية في بلد غني بالثّروات، مفارقة تثير الكثير من الأسئلة، إذ وجّه المواطن أصابع الاتّهام للمؤسّسات التي استقالت من التّخطيط التنموي وتوفير إمكانيات العيش الكريم والاهتمام بالاستثمار في الفرد ودعمه وخلق مشاريع لامتصاص البطالة، في مقابل حِرمان عديد المناطق في الجزائر من مشاريع التنمية أوصلت البلاد إلى تراكم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية لأزيد من ثلاثة عقود من الزمن.

 في منطقة “المسلولة” التابعة إداريًا لبلدية ” العوينات” بولاية “تبسّة” شرقي الجزائر، رفع شبابها شعار: “هنا تنتهي الحياة”، في هذه المنطقة المعزولة تحطّمت أحلام الآلاف من الشباب والعائلات التي ظلت لأزيد من ثلاثة عقود تنتظر تحقيق الوعود وإيصال أنابيب الغاز الطبيعي، للبيوت.

يبدو أن هذا الحلم لن يتحقق، كما يرى كريم لعضايمية الذي لم يتجاوز سن الـ 28 سنة، تنقّل قبل عش سنوات إلى عاصمة الشرق الجزائري “قسنطينة” لمزاولة دراساته العليا بكلية العلوم القانونية والحقوق، يبحث عن “شهادة علمية وعن حقّ في بلدته الصغيرة” كما قال لـ” مصر 360″، بلدة صارت أحد مناطق الظلّ، وأضحت تعاني الفقر والتهميش والبطالة.  

آلاف القرى والأحياء تعيش في عزلة وبطالة

رحلة هذا الشاب من ولاية غنية بالفوسفات والأراضي الفلاحية، تضم 452 “منطقة ظلّ”، رقم يعتبر وجه من أوجه رحلات الآلاف من شباب الجزائر هربًا من العزلة والتهميش، من قرى ومداشر طحنها الفقر وأنهكها الانتظار، فالمشاريع متوقّفة، من بينها مشاريع عرت الفساد القائم على المستوى المحلي.

وأدخلت العشرات من المسؤولين فترة حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة للسّجون، مخلّفة وراءها الآلاف من القرى والأحياء في البلديات تعيش في العزلة والتهميش والبطالة. 

لقد أيقظت هذه الحقيقة المرّة، الكثير من التساؤلات إذ تشير المعطيات أن أغلب هذه المناطق، تشترك في انعدام النقل والمشاريع السكنية وتفاقم نسبة البطالة، وهو ما يدفع بالكثيرين إلى الانتقال نحو المدن للاستفادة من ظروف العيش المتاحة هناك، وهو ما حدث في بداية تسعينيات القرن الماضي، تزامنا مع الأزمة الأمنية التي عصفت بالبلاد.

الأزمة وموجة النزوح 

تكبدت فيه الجزائر خسائر كبرى لمحاربة الجماعات المسلحة، كما قال الناشط السياسي الباحث في العلوم السياسية محمد دهيلي لـ “مصر 360″، في وقت ركزت معظم جهودها في استرجاع الأمن والاستقرار وأهملت فيه جانب البناء والتنمية، لافتا إلى أن العزلة، الهامش والحرمان، في هذه المناطق جعلها تتسع أكثر فأكثر على أطراف المدن لأسباب أهمها هروب الجزائريين من جحيم الإرهاب”.

استغرقت هذه الأزمة أكثر من 15 سنة، ولا زالت ليومنا هذا تلقي بتداعياتها على المجتمع الجزائري، إذ تراكمت المشاكل الاجتماعية والاقتصادية وتشعّبت، دون إيجاد حلول مع مرور السنوات.

وأضاف دهيلي، خاصة وأن الجزائريون وقتذاك كانوا “يبحثون عن الأمن والسّلم”. 

تركت هذه الأزمة جرحًا نازفا في قلوب الجزائريين، كما خلّفت مشاكل بالجملة، كما قالت المختصة في الهندسة المعمارية سعيدة بوحرّاتي لــ” مصر 360″ : “أهم معضلة تواجهها الجزائر من تبعات الفترة الأمنية العصيبة هي تكاثر للأحياء الهشّة، التي أنتجها البناء الفوضوي، مما أفضى إلى توسّع مدن الصفيح على أطراف المدن الكبرى”. 

اقرأ أيضًا : الجزائر.. دستور جديد يقلص صلاحيات رئيس الجمهورية وانتخابات تشريعية مبكرة

مفارقات في بلد بحجم قارة  

في مفارقة عجيبة، كشفت وزارة الداخلية عن وجود 299 “منطقة ظل” في محيط العاصمة الجزائرية، بتعداد سكاني فاق مليون شخص، إذ قالت المختصة في علم الاجتماع السكان نبيلة بلعالية لـ”مصر 360 ” إن “العاصمة الجزائرية عاصمة التناقضات، فهذه الأحياء قريبة من المركز وبعيدة عن التّنمية”.

وكمثال على ذلك، حي” سيدي مبارك” بحي “بئر خادم”، وهو حي يبعد مركز العاصمة بـ9 كيلومترا فقط، لكن تنعدم فيه شروط الحياة الكريمة، انعدام قنوات الصرف الصحي، وغياب الماء الصالح للشرب، وأكثر من ذلك انتشار كبير للقاذورات وتسجيل إصابات عديدة لساكنيه من الربو والأمراض الجلدية بسبب الرطوبة. 

أما المفارقة الثانية، تتمثل في إحصاء أحياء سكنية ومناطق قريبة من الولايات الكبرى – الحواضر الكبرى، مثل: (قسنطينة ووهران وعنابة سطيف والجلفة وورقلة وتلمسان)، ولكنها تحصي أكبر عدد من مناطق الظل، يفوق الـــ 6 آلاف منطقة تشكو النقص الفادح في التنمية، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات في توزيع الثّروة، وتوزيع المشاريع التنموية، إذ لا تتوفر مختلف الأحياء السكنية القريبة من هذه الولايات على الماء والكهرباء في غياب الغاز.

وتشير المعطيات أيضا إلى أن أغلب المناطق التي تعاني من عدم توفر المرافق العمومية، من مستشفيات ومدارس وطرقات هي الولايات الجنوبية في البلاد، الغنية بالثّروات الطبيعية (الغاز والبترول والذّهب) ولكنّها تفتقر للمياه والمرافق الطبية، كما أحيل العشرات من شبابها المتخرّج من الجامعات على البطالة، في مفارقة أخرى، تُعرّي واقع مرير لساكنة الصحراء الجزائرية. 

اقرأ أيضًا: حقوق المرأة في الجزائر: كثير من التمكين وكثير من العنف

وكشف عبد الكريم تامولت القاطن بمنطقة “حاسي مسعود” لــ” مصر 360″ أنه يقطن في منطقة غنية جدا بالثروات الطبيعية وخاصة آبار استكشاف النفط والشركات الغازية، غير أنّ سكانها يعيشون على وقع انتظار صهاريج المياه الصّالحة للشّرب، التي تجوب الحواري والأحياء مرّة واحدة كل أسبوع. 

وأضاف المتحدث أن “أكبر معضلة يواجهها سكان الجنوب هي مشاكل المتعلقة بالصحةـ رغم توفر قاعات للعلاج العمومية، إلا أنها لا تتوفر على مختلف الخدمات الصحية لعلاج ومتابعة لمرضى في مختلف التخصصات، موضحا “عدم توفر جهاز الأشعة أو أطباء متخصصين يدفع المرضى إلى التنقّل على مسافات طويلة تتعدى الألف كيلومترا من الجنوب نحو أقرب مستشفى جامعي في الشمال”.  

خلل كبير في العدل بين المناطق

هذه الصورة ليست وليدة الأمس، بل هو واقع نتاج تراكمات لـــ”خلل كبير في العدل بين المناطق”، يقول الخبير في التنمية الاقتصادية من جامعة الجزائر عبد النور سلاقجي، حيث عزا هذه التراكمات إلى حصر التنمية في المركز أي في قلب المدن، مع تهميش الأحياء-الحواشي، حيث ظلّت هذه النقاط السوداء لسنوات على هامش مخططات الإنعاش الاقتصادي والمشاريع الكبرى التي تعلن عنها الحكومة الجزائرية، على حدّ تعبيره.

ولتوضيح ذلك أكثر، قال إن  الحكومة الجزائرية رصدت منذ وصول الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة إلى سدة الحكم ( 1999-2019) ما يقارب 650 مليار دولار أمريكي، موزعة على مخططات التنمية الخماسية كالآتي:” 10 مليار للمخطط الخماسي ما بين 2001 و2004، وأكثر من 158 مليار دولار للمخطط الخماسي ما بين  2005 و2009، ثم 286 مليار دولار ما بين 2009 و2014، وأكثر من 200 مليار دولار  ما بين 2014 و2019.

وأوضح أن هذه الأغلفة المالية أنفقت منها 40 في المائة للتنمية، والبنية التحتية، خاصة منها انجاز مشروع الطريق السيار شرق غرب على مسافة 1200 كيلومتر، فضلا عن انجاز مشاريع سكنية والسكة الحديدية وتجهيز مطار دولي جديد، علاوة على تحسين أجور الموظفين وتقديم مختلف الدعم والمساعدات الاجتماعية. 

وفي غضون ذلك، توسعت الأحياء السكنية الفوضوية، على حساب العمران لتتشكّل حسبه “مدن الصفيح وأحياء بلا روح ولا حياة”.

اقرأ أيضًا : حقوق الإنسان في الجزائر.. الحراك كأنه لم يكن

وعود: إشعال شمعة في ظلام اليأس

في واقع الأمر، يشير المختصون في الجزائر إلى أن مشكلة التنمية في الجزائر تلخّصها ثنائية العدل بين الريف والمدينة، وبين المركز والأطراف، بين قلب التجمعات السكينة وحواشيها، بين الشمال والجنوب، دون مراعاة خصوصية المكان في مختلف البرامج التنموية.

وتعكف خطة الحكومة الحالية على إدراج مخطط وصف بــ”المستعجل” لتنفيذ أكثر من 10 آلاف مشروع أهمها 250 مشروع لتوصيل المياه الصالحة للشرب في الأحياء الفقيرة، وتعبيد 190 طريقا ريفيا، وتشييد 80 مركزا صحيا عبر عدة مناطق أهمها الولايات الجنوبية، فضلا عن 130 مشرع لإعداد شبكات الكهرباء والغاز، وبناء أكثر من 170 مدرسة في القرى على مستوى المناطق الجبلية. 

بالنتيجة، ظلّت أرقام المشاريع مبهرةِ لساكنة مناطق الظل في الجزائر، إذ تعطي لهم أملا لتحسين أوضاعهم، رغم أن الانتظار هو الحِرفة اليومية المشتركة بين الملايين من الجزائريين، وحال لسانِهم يقول:” انظُر وانتظِر واحلُم”.