يشكل وجود قاعدة عسكرية روسية في السودان تطور مهم يشير إلى نجاح موسكو في العودة إلى القرن الأفريقي والبحر الأحمر. وذلك بعد أربعة عقود من الغياب عن منصة ميناء بورسودان.

المصالح السودانية من هذا الاتفاق تبدو واضحة. تحديث قدرات الدولة العسكرية البحرية، وذلك في ضوء ما تشمله منظومة التسلح من مكون روسي ربما يزيد عن النصف.

الاتحاد السوفيتي هو من ساهم في بناء المنظومة البحرية عام ١٩٥٩

وبطبيعة الحال سيكون لتعزيز قدرات السودان العسكرية أثرًا على وزنها الإقليمي، وقدرتها على حماية مصالحها، في ضوء ممارسة إثيوبيا نوعًا من التغول الإقليمي في الفترة الأخيرة.

روسيا وأفريقيا.. علاقة تبادل المنفعة 

بدأت السودان تفاعلها مع المطلب الروسي في إقامة قاعدية عسكرية لها داخل الحدود البحرية السودانية مع زمن الرئيس المخلوع عمر البشير. لكن هذا الاتجاه تعزز مع حصول السودان خلال المنتدى العسكري الروسي (أغسطس 2020) على صفقات تسلح حديثة. حيث سلمت روسيا للبحرية السودانية سفينة تدريب حربية في أكتوبر 2020 كهدية. وذلك في إطار البرنامج العسكري المشترك.

على الصعيد الروسي، يحقق التواجد الروسي في البحر تعزيزًا للوزن الدولي لروسيا، التي ستتلقى تسهيلات بحرية لسفنها من المنصة السودانية. وهو ما يعزز استراتيجياتها في المحيط الهندي، وعلاقاتها مع الكتلة الآسيوية. خصوصًا كل من الصين والهند.

كانت نقطة الإنطلاق الروسي نحو أفريقيا تتمثل في وثيقة السياسة الخارجية للاتحاد الروسي التي وقعها الرئيس بوتين في 2016. وأشارت إلي أن روسيا ستتوسع في علاقاتها مع دول قارة أفريقيا في مختلف المجالات؛ سواء على المستوى الثنائي، أو المستوى الجماعي. وذلك عبر تحسين الحوار السياسي، وتكثيف التعاون الشامل؛ السياسيّ، والتجاريّ والاقتصادي، والعسكري، والفني، وفي مجال التعاون الأمنيّ. وكذلك التعاون في الشأن الإنساني والتعليمي، بما يخدم المصالح المشتركة. فضلاً عن المساهمة في تسوية الصراعات والأزمات الإقليميَّة، فضلا عن تعزيز علاقات الشراكة مع الاتحاد الأفريقي هو بمثابة عنصر مهم في السياسة الروسية إزاء أفريقيا.

مداخل روسيا لتحقيق أهدافها بأفريقيا

أما المداخل الروسية لتحقيق أهدافها فهي متعددة؛ منها إطلاق المنتدى الروسي الأفريقي عام 2015 بهدف تأسيس إقامة علاقات سياسية واقتصادية وتجارية جديدة بين الطرفين، حيث تعد الدول المشاطئة للبحر الأحمر من أهم نقاط ارتكاز السياسيات الروسية في أفريقيا. وتعد مصر في مقدمة الدول التي تهتم بها روسيا في منطقة شمال أفريقيا، حيث عملت موسكو على دعم علاقتها مع القاهرة من خلال إبرام عقود وصفقات أسلحة مع القاهرة وإنشاء مفاعلات نووية ودعم العلاقات الثنائية على الأصعدة العسكرية والاقتصادية والثقافية وغيرها. وتعتبر موسكو القاهرة البوابة الحقيقية لتمدد النفوذ الروسي نحو أفريقيا جنوب الصحراء، من خلال الرغبة الروسية في الحصول على صفقات التنقيب عن المواد الخام والثروات الطبيعية هناك.

أما فيما يخص دول القرن الأفريقي، فإن مكافحة الإرهاب وتعزيز السلم من أهم المداخل الروسية في هذه المنطقة؛ حيث تلعب روسيا دورًا نشطًا في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في القارة السمراء. وتشارك قوات روسية في حفظ السلام في دول إريتريا وأثيوبيا، والسودان، وجنوب السودان، والكونغو الديمقراطية، إضافة إلى كوت ديفوار وليبيريا، والصحراء الغربية.

تجارة السلاح

ويتجاوز حجم الجنود الروس المشاركين في تلك العمليات حجم نظرائهم من دول فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. فضلاً عن الترحيب الروسي بتسوية الخلافات والصراعات الإقليمية الراهنة في منطقة القرن الأفريقي، بما يعزز استقرار وأمن المنطقة.

كما تستخدم روسيا التجارة في السلاح كمدخل مهم لتوسيع شراكاتها في المنطقة، وتعميق العلاقات السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة مع دول المنطقة. فقد قامت شركة Rosoboron Export خلال الفترة من 2011-2013 ببيع أكثر من 12 طائرة هليكوبتر هجومية من طراز Mi-24 وطائرات نقل هليكوبتر Mi-814 للحكومة السودانية، والوقوف ضد قرارات الأمم المتحدة بفرض حَظْر الأسلحة على بعض دول المنطقة التي تعاني من صراعات ممتدة مثل جنوب السودان، فضلاً عن بيع روسيا للأسلحة للطرفين الإثيوبي والإريتري في حربهما في الفترة من 1998-2000.

واعتمدت روسيا أيضًا سياسة تخفيض عبء الديون عن قارة أفريقيا؛ حيث ألغت ديون بقيمة 20 مليار دولار في عام 2012. وكانت روسيا أعفت الدول الأفريقيَّة من الديون بقيمة 16 مليار دولار في عام 2008. كما خفضت عبء الديون لعدد من دول القرن الأفريقي مثل إثيوبيا، في إطار مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون، في الوقت الذي قدَّمت فيه مساعدات إنسانية لبلدان المنطقة، مثل إثيوبيا والصومال، بما يشكل تطورًا إيجابيًا في مسار العلاقات الروسية مع دول المنطقة.

اقرأ أيضًا: مخاوف أمريكية من تزايد نفوذ الصين وروسيا في إفريقيا

في السياق نفسه، تلعب المراكز الثقافية الروسية للعلوم والثقافة دورًا في تعزيز الوجود الروسي في المنطقة. وتعمل بشكل مثمر في إثيوبيا إلى جانب تنزانيا والكونغو وزامبيا. كما تقوم روسيا بتقديم المنح والتدريب للطلبة الأفارقة في الجامعات الروسية.

في عام 2017 درس أكثر من 1800 شاب أفريقي في روسيا. وبشكل عام، هناك 15 ألف شاب أفريقي يدرسون في روسيا منهم 4000 في منح دراسية ممولة من الحكومة الروسية.

وتبدو الأهداف الروسية من التواجد والتأثير في المنصة الأفريقية متعددة؛ منها ما هو استراتيجي مرتبط بموقعها في النظام الدولي، وما يرتبط به من تفاعلات في نادي أقطاب العالم الكبار. وهو الأمر الذي يتيح لها الولوج إلى الموارد الطبيعية الأفريقية المعززة لاقتصاداتها، فمثلاً الحصول على الذهب والماس واليورانيوم من أهم الدوافع الرئيسية لروسيا بشأن التواجد في أفريقيا الوسطى، حيث تعتبر الأخيرة دولة غنية بهذه الموارد. كما عبرت روسيا عن ذلك بشكل صريح. وأعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقب لقائه برئيس أفريقيا الوسطى في مايو 2018، عن سعى بلاده لتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين.

وعلى المستوى السوداني، فإن شركات التنقيب الروسية عن الذهب والغاز حققت اكتشافات واعدة في السودان عام 2015، توازت مع تسريبات حول ظهور عناصر تابعة لمجموعة فاجنر الروسية شبه العسكرية لتأمين مواقع تلك الشركات. ثم حصلت شركة التعدين الروسية M Invest على عقد خاص باستخراج احتياطات الذهب السودانية عام 2017. إضافة إلى بناء مصفاة لتكرير النفط بطاقة إنتاجية تصل إلى 200 ألف برميل في اليوم الواحد، والتي ستوظف أيضًا لصالح جنوب السودان، في إطار الاتفاقيات المشتركة في بين دولتي السودان . كما تسعى روسيا إلى التفاعل مع القضايا الإفريقيَّة على الصعيد الدولي، ومنها الدعوة الإفريقيَّة إلى إصلاح الأمم المتحدة، وأحقية حصول قارَّة إفريقيا على مقعد إفريقي دائم في مجلس الأمن الدولي، لكي تُعَزِّز من تواجدها.

فرصة الانسحاب الأمريكي

وتزامن هذا التواجد الروسي مع دراسة البنتاجون لانسحاب القوات الأمريكية من أفريقيا، وهو ما يعتبر امتدادًا لاستراتيجية الجيش الأمريكي توافقًا مع استراتيجية الأمن القومي لإدارة الرئيس دونالد ترامب للتركيز على مواجهة التهديدات المتنامية من روسيا والصين. وتعرض القوات الأمريكية للخطر في أفريقيا وخاصة في النيجر. وهو أمر يعزز من فرص الحضور الروسي، من خلال تقديم نفسها كشريك جديد. خاصة في ظل وجود صورة ذهنية إيجابية للاتحاد السوفيتي، الذي تلقى فيه العديد من المسؤولين الأفارقة تعليمهم.

وحققت روسيا اختراقًا مهمًا علي الساحة الأفريقية، حينما استطاعت أن تحصل على موافقة أممية بتسليم الأسلحة لأفريقيا الوسطى عام 2017. والقيام بتدريب الجنود على استخدام الأسلحة في أفريقيا الوسطى، التي يفرض عليها حظر أممي منذ 2013 بسبب النزاع المسلح بين الطوائف، وذلك في ديسمبر.

في هذا السياق، تمت الاستجابة لطلب من رئيس أفريقيا الوسطى بالحصول على الأسلحة، وقامت روسيا بتسليم أسلحة خفيفة وقوات لتدريب في يناير 2018، وكذلك عقدت صفقة أسلحة أخرى في أغسطس 2018.

مستشارو فاغنر

لم تكتف روسيا بالأسلحة فقط. فقد أصدرت مجلة أتلانتك الأمريكية تقريرًا  يشير إلى وصول 170 مستشارًا مدنيًا واعتبارهم من قوات شركة عسكرية خاصة “فاغنر” إلى السودان. وذلك لتدريب القوات الحكومية. كما تمت الإشارة إلى ظهور 500 آخرين من مقاتلي “فاغنر” على حدود السودان – جمهورية أفريقيا الوسطى، فضلًا عن توفير قوات خاصة لتأمين السيد فوستين ارشانج تواديرا، رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى. كما تمت الإشارة إلى ظهور  شركة عسكرية آخرى تسمى باتريوت، التي يبدو أنها تمتلك صلات جيدة بمسؤولي وزارة الدفاع، وتقدم أجورًا عالية تصل إلى مليون روبل في الشهر. الأمر الذى يزيد من احتمالية استمرار التواجد في أفريقيا الوسطى، والانتشار في مزيد من الدول الأفريقية.

ساهمت روسيا بشكل أساس في إدارة اتفاق السلام بأفريقيا الوسطي تحت مظلة الاتحاد الأفريقي وبتسهيلات واضحة من السودان منذ يوليو 2017، وحتى توقيع الاتفاق في أغسطس ٢٠١٨. وذلك بإدارة مفاوضات بين الجبهة الشعبية لنهضة أفريقيا الوسطى، الحركة الوطنية لأفريقيا الوسطى، حركة الأنتي بلانكا،  الوحدة من أجل سلام أفريقيا الوسطى. وتبع ذلك تعزيز التعاون في مجال التعليم، والتبرعات الروسية في بناء مستشفيات وتوفير قوات خاصة لتأمينها ومراقبة توصيل مواد البناء لاستكمال العديد من المستشفيات.