بعد عدوان يونيو 1967، أدركت مصر بوضوح أنه لا يوجد حل عسكري للصراع مع إسرائيل، ومن ثم بدلت مقولة تحرير فلسطين بمقولة إزالة آثار العدوان، أي العودة إلى حدود ما قبل عدوان الخامس من يونيو 1967.

وعنما تعنتت إسرائيل وأصابها الغرور بفعل ما حققته من وراء العدوان، كان القرار المصري بشن حرب أكتوبر 1973 من أجل عبور القناة واقتحام خط بارليف وتحرير شريط بعرض عشرة كيلومترات شرق القناة، والاستعداد لمفاوضات تالية لتحرير باقي الأراضي التي احتلت في عدوان يونيو. وبدأ الرئيس الراحل أنور السادات مخططه بإعلان نيته في تحقيق السلام مع إسرائيل حتى لو تطلب الأمر زيارة القدس.

رفضت منظمة التحرير والدول العربية مخطط السادات، واتهموه بالخيانة والتفريط، وما أن وُقع اتفاق كامب ديفيد عام 1987 حتى جرى عقاب مصر ومقاطعتها ونقل الجامعة العربية إلى تونس، وتشكلت جبهة الرفض أو الصمود والتصدي.

حرصت مؤسسات الدولة المصرية على ضبط العلاقات مع إسرائيل، وحصرها في النطاق الرسمي وتجميد كافة الجهود الرامية إلى تطوير التطبيع مع تل أبيب

حدث ذلك رغم محاولات مصر لإقناع الفلسطينيين والسوريين بالسير معها في طريق التسوية السياسية، لأنه لا يوجد حل عسكري للصراع. ورفضت منظمة التحرير والدول العربية الرؤية المصرية، فسار السادات في طريق التسوية السياسية، وانسحبت إسرائيل من كافة الأراضي المصرية إلى الحدود الدولية، واستردت شبه جزيرة سيناء بالكامل (حوالي 64 ألف كم مربع) أو ما يوازي مرتين ونصف مساحة أرض فلسطين التاريخية (حوالي 25 ألف كم مربع).

اقرأ أيضًا: “الصفقة الحرام”.. إسرائيل تتسلل لمنابع النيل من الأبواب الخلفية

ونظرًا للضغوط العربية الشديدة ورغبة مصر في مواصلة الضغط على إسرائيل لإتمام التسوية مع باقي الدول العربية، ولإدراك مصر أن إسرائيل تظل عدو استراتيجي أو على الأقل مصدر رئيسي للتهديد أو الخطر، فقد حرصت مؤسسات الدولة المصرية على ضبط العلاقات مع إسرائيل، وحصرها في النطاق الرسمي وتجميد كافة الجهود الرامية إلى تطوير التطبيع مع تل أبيب في كافة المجالات، وذلك فيما سمي بضبط عملية تطبيع العلاقات، وهو ما كان يثير استياء إسرائيل باستمرار وتحفظ الولايات المتحدة أيضًا، ومن ثم حرمت مصر نفسها من جني ثمار التطبيع مع إسرائيل، واستمرت العلاقات المصرية الإسرائيلية تتراوح ما بين السلام البارد والحرب الباردة، حسب توصيفات الإعلام الإسرائيلي والأمريكي.

بمرور الوقت تصاعدت الاتصالات السرية بين عدد من الدول العربية مع إسرائيل. كانت هناك اتصالات منذ الخمسينيات بين إسرائيل والمملكة الأردنية، وأيضًا المملكة المغربية. وبمرور الوقت ومع بدء عملية التسوية السياسية بانعقاد مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر 1991، اتسع نطاق الاتصالات بين تل أبيب ودول عربية أخرى، لاسيما بعد توقيع اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في سبتمبر 1993، ثم اتفاق السلام الأردني الإسرائيلي في العام التالي.

طوال هذه الفترة كانت مصر تسعى إلى دعم الجانب الفلسطيني وفي نفس الوقت قدمت نفسها للولايات المتحدة والدول الأوروبية باعتبارها الطرف القادر على لعب الدور الجوهري في التسوية السياسية، وأن هذه التسوية سوف تفتح الباب أمام تطبيع شامل في العلاقات بين إسرائيل والدول العربية على النحو الذي عكسته المبادرة العربية التي طرحها العاهل السعودي الراحل الملك فهد عام 2002: سلام شامل مقابل تطبيع شامل.

ومع الفوضى التي سادت عدد من الدول العربية اعتبارًا من أوائل 2011، أو ما سمي بالربيع العربي، انفرط العقد ودخلت دول الصمود والتصدي في حروب أهلية، وحرصت دول عربية على تأمين أوضاعها الداخلية، وفي نفس الوقت ارتكبت منظمات فلسطينية أخطاء قاتلة، وتحديدًا حركة حماس أو الفرع الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين، بحق مصر وسوريا، وعملت الحركة الأم، أي جماعة الإخوان، على هز الاستقرار الداخلي لعدد من الدول العربية وعلى رأسها دولة الإمارات العربية والمملكة العربية السعودية والبحرين، كما ارتكبت السلطة الوطنية الفلسطينية مجموعة من الأخطاء والخطايا، عبر الانفتاح على تركيا وقطر.

من ثم تراجعت القضية الفلسطينية لدى الرأي العام في عدد كبير من الدول العربية وفي مقدمتها مصر، ووجدت عديد من الدول العربية أن تمسكها بالموقف المشترك الذي يربط التطبيع مع إسرائيل بتسوية القضية الفلسطينية، بات ضارًا بمصالحها الوطنية التي تقدمت على ما عداها من مصالح واعتبارات أو ارتباطات، وتطور الموقف في عهد الرئيس الجمهوري دونالد ترامب الذي وقع إقرارًا بضم القدس الشرقية إلى إسرائيل، وكذا الجولان السوري المحتل، ثم نقل السفارة الامريكية إلى القدس الشرقية المحتلة في عدوان يونيو 1976.

وضغط الرئيس الأمريكي على عدد من الدول العربية كي تقيم علاقات دبلوماسية وتدخل في عملية تطبيع شامل مع إسرائيل. ووظف مصالح هذه الدول للدفع باتجاه تطبيع العلاقات مع إسرائيل. واستغل مخاوف بعض الدول العربية من الخطر الإيراني في دفعها لإقامة علاقات رسمية مع إسرائيل، وهو ما نجح مع الإمارات ثم البحرين. واستغل حاجة السودان للخروج من لائحة الدول الداعمة للإرهاب والاندماج مجددًا في المجتمع الدولي، فكان قرار الخرطوم بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وبعده مباشرة جرت الصفقة بين واشنطن والمغرب، باعتراف أمريكي بمغربية الصحراء الجنوبية، مقابل إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، وهو ما تحقق بالفعل وأشادت به قطاعات واسعة من المجتمع المغربي الذي لم يتوقف لحظة عن الهجوم على مصر بسبب علاقاتها الرسمية بإسرائيل.

هناك دول عربية عديدة في طريقها لإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وربما في غضون خمس سنوات سيكون هناك تطبيع عربي إسرائيلي شامل.

وفي تقديري أن هناك دول عربية عديدة في طريقها لإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وربما في غضون خمس سنوات سيكون هناك تطبيع عربي إسرائيلي شامل.

السؤال المطروح هنا: ما أثر ذلك على الدور المصري في المنطقة وعلى المصالح المصرية؟

في تقديري أن مصر ضبطت آلية التطبيع مع إسرائيل حتى تفرض دورها في التسوية السياسية وتحافظ على مكانتها لدى واشنطن. لكن ما حدث بالفعل هو تجميد التطبيع مع إسرائيل. وجاءت خطوات التطبيع بين دول عربية وإسرائيل، ليجعل الموقف المصري منكشفًا، فقد قطعت بعض الدول العربية في علاقاتها مع إسرائيل، في أسابيع ما لم تحققه مصر في أربعة عقود، فقد اندفعت دول عربية في تطبيع شامل مع إسرائيل في كافة المجالات، ورأت إسرائيل في ذلك نجاحًا منقطع النظير في إحراق الورقة المصرية التي كانت تقدم القاهرة باعتبارها الطرف الوحيد القادر على لعب دور وساطة أو رعاية إقليمية للتسوية السياسية، والمروج لمقولة أن التسوية السياسية للقضية الفلسطينية ستكون المدخل الوحيد للتطبيع العربي مع إسرائيل، فالتطبيع يسير بخطى سريعة، والتعاون يقتحم مجالات متنوعة ومتعددة، ولم يعد لمصر ثقل أو وزن في هذا المجال.

طبعًا مصر أكبر دولة عربية وفاعل إقليمي رئيسي، ومن ثم فدورها كقوىة إقليمية سوف يستمر، ولكن ثقلها في القضية الفلسطينية والتطبيع العربي الإسرائيلي تراجع، وسوف يتراجع. ويمكننا القول إن وتيرة التطبيع العربي الإسرائيلي أسقطت وسوف تسقط، أوراق قوة وبعض مكونات دور مصر الإقليمي، الأمر الذي يفرض على صانع القرار المصري إعادة صياغة الدور المصري، وتجديده وتنشيطه، وإلا فإن مزيدًا من التراجع سوف يصيب الدور المصري.