“لست والله خائفاً الآن. فأنا أشهد الله بأني لم أقصر في أداء الواجب وتحمل الأمانة. أرجو من الله أن يتقبلها خالصة لوجهه الكريم. أن يجعل عملنا ومرضنا هذا في ميزان حسناتنا يوم نلقاه. كل ما أرجو إن بادر بي الأجل وحانت لحظة الفراق أن يتكفل الله برعايته وحفظه أسرتي وأطفالي، الذين افتقدهم بشدة، ويعتصر قلبي فراقهم”. كانت رسالة الدكتور الراحل أحمد ماضي، أحد أطباء مستشفى العزل الصحي بالعجمي، في أغسطس الماضي، كاشفة لمخاوف مشروعة حول مصير عائلات فقدت أطباء سقطوا وآخرين أصيبوا في معركة مواجهة فيروس كورونا.
معاش شهيد
هذه الوفاة المؤثرة ورسالة الرحيل التي تركها ماضي خلفه. قبل أن ينضم لغيره ممن سبقوه ولحقوا به ضمن ضحايا كورونا، دفعت نقابته إلى تدشين حملة “معاش شهيد”. وهي حملة جديدة تطالب بحقوق أعضاء الفرق الطبية، الذين فقدوا 236 ضحية. وذلك بنسبة وفيات تخطت 3% من إجمالي وفيات كورونا بمصر، وصُنفت الأعلى بين نسب وفيات الأطباء في العالم، بحسب رصد نقابة الأطباء.
إقرار سريع بمعاش استثنائي للمتوفين، وإنهاء العقبات الإدارية والقانونية التي تمنع تسجيل وصرف معاش الوفاة وإصابة العمل لأسر الضحايا، كانا المطلبين الرئيسيين للحملة، التي حصدت حتى اليوم الثلاثاء ما يزيد عن 2450 توقيعًا.
وفي رسالة مرفقة إلى رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، أشارت الحملة إلى الدور الذي يقوم به الفريق الطبي. ولذلك طالبت بضم أسر شهداء كورونا للفئات المستفيدة من صندوق “تكريم أسر شهداء الإرهاب من العسكريين والمدنيين”، المنشئ بـقانون رقم 16 لسنة 2018.
أبسط الحقوق
“باذلاً وسعي في استنقاذها من الموت والمرض والألم والقلق”؛ يردد الدكتور هاني مهنى جراح القلب قسم الأطباء، متساءلاً عن مصير أسر زملائه الذين قضوا جراء الفيروس. ويضيف: “أغلب الشباب من شهداء الأطباء إن لم يكن كلهم قد غادرونا وتركوا خلفهم أطفالاً صغار بعضهم لا يزال في المهد وزوجات مكلومة.. أبسط حقوقهم أن تقوم الدولة بتأمينهم بمعاش شهري استثنائي يصرف لجميع هذه الأسر”.
يشير مهنى إلى معاش شهداء الأطباء من الشباب باعتباره “ضعيفًا للغاية.. لا يكفى أبدًا لحياة حتى شبه كريمة”. وهو رقم تحدده عدد السنوات التي مارسوا فيها المهنة، وبالتالي فهو متدن. ويضيف أن “أغلب هؤلاء الأطباء لم يترك خلفه سوى السمعة الطيبة، فلا عيادة تدر دخلاً ولا رصيد في البنك”، مذكرًا بأطفالهم الذين يواجهون الحياة الآن دون سند ورعاية ومال يحقق كفافهم.
مكافحة عدوى
“بينما أنا راقد على سريري في العناية المركزة، أكافح كي أتنفس الهواء بصعوبة. وأعاني ألم رهيب ينهش كل قطعة من جسدي. أراقب نظرات زملائي من الأطباء والتمريض ما بين خوف ورجاء. وتحركات سريعة ومضطربة لتجهيز جهاز التنفس الصناعي لهبوط حاد في نسبة الأكسيجين بالدم أعلن فشل جهازي التنفسي الرباني في العمل وبداية طريق أنا أعلم بنهايته المحتومة”.
عمل الدكتور هاني السحن، مديرًا لقسم الطوارئ بمستشفى البحيرة. ورغم تخصصه في التخدير لم يكن بمعزل عن التعامل مع حالات اشتباه كورونا، فأصيب وعزل نفسه وبعدها نُقل إلى مستشفى العزل في العجمي مصابًا. ظل هناك في حجره الصحي شهرًا، قبل أن يخضع لجهاز التنفس الصناعي في آخر 3 أيام، ثم فارق الحياة.
كان الدكتور هاني ملتزمًا بالإجراءات الوقائية المتوفرة بالمستشفى وأخرى كان يوفرها هو لنفسه، لكنه لم يسلم من الإصابة؛ تقول زوجته.
معاملة شهداء الشرطة والجيش
في مايو الماضي، أعلنت نقابة الأطباء الاتفاق على معاملة الأطباء المتوفين نتيجة الإصابة بفيروس كورونا كـ “شهداء” الجيش والشرطة من الناحية المالية. وذلك بعد اجتماع لنقيب الأطباء حسين خيري مع رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، ومستشار الرئيس المصري للصحة والوقاية محمد عوض تاج الدين.
وكان ذلك بعد أيام من الأزمة التي اندلعت بين النقابة ووزارة الصحة، إثر وفاة أحد الأطباء مصابًا بكورونا، دون تقديم الرعاية الطبية المناسبة له، بحسب نقابة الأطباء.
هنا، تضيف الدكتورة منى مينا، أن التواصل مع الحكومة منذ مايو الماضي، والتأكيد على معاملة الأطباء الشهداء كشهداء الجيش والشرطة، بصرف معاشات لهم، كان مجرد حديث يفتقر إلى التنفيذ حتى اللحظة، على حد قولها.
وتقول مينا: “مطالبتنا بضم شهداء الفرق الطبية للحصول على معاش استثنائي ليست بدعة وليست خارج القانون 16 لسنة 2018. فكورونا هي أحد أوجه الأرهاب التي تواجه المجتمع كالإرهاب الفكري تمامًا”. وتضيف أن القانون نفسه يتيح لرئيس الوزراء ضم فئات جديدة من المستفيدين. ولذلك فإن تنفيذ ذلك المطلب ليس بالصعب، خاصة بالنظر إلى مصادر دعم الصندوق المتتعدة.
وتشير إلى أن معاشات شهداء كورونا لن تكلف الدولة أكثر من 50 مليون جنيه تقريبًا في السنة. وهذا أقل تقدير لهذه الفئة ومبلغ هزيل بالنسبة للحكومة. لكنه باهظ على النقابات لتسدده.
معاش إصابة عمل
“لطالما شاهدته وأنا الطبيب المسؤول عن علاج هذا المرض اللعين. أستطيع أن أرى نهايته الآن بوضوح. منذ أيام ودعت زميلاً لي كان يرقد على بعد خطوات مني وكان قد سبقني إلى ما أنا ذاهب إليه الآن”.
طالبت حملة “معاش شهيد” بضرورة إدراج فيروس كورونا إلى جدول الأمراض المهنية. مع ضرورة إنهاء العقبات الإدارية والقانونية التي تمنع صرف معاش وفاة إصابة عمل لأي من أسر الشهداء.
بينما قدر وزارة الصحة عدد الإصابات بين الأطقم الطبية في مايو الماضي بـ 291 إصابة. وقالت إن الوفيات بلغت 11 شخصًا، تشير نقابة الأطباء إلى وفاة 23 طبيبًا وإصابة أكثر من 300 من الطواقم الطبية بفيروس كورونا.
تشير الدكتورة منى مينا إلى ضرورة إثبات أن الشهداء من أعضاء الفريق الطبي توفوا بكورونا على مستخرج شهادة الوفاة. وتضيف أن مكاتب الصحة لا تكتب سوى التهاب رئوي حاد دون ذكر كورونا. وذلك ما يؤدي إلى عرقلة احتساب الوفاة نتجت عن إصابة العمل، وبالتالي استحقاق معاش الوفاة الناتجة عن إصابة عمل.
مثال على ذلك، تقول زوجة الشهيد الدكتور هاني السحن، لـ مصر 360، إنه بعد وفاة زوجها تم استخراج شهادة الوفاة من مكتب الصحة وقد دوّن بها التهاب رئوي حاد أدى إلى فشل في التنفس. هذا الأمر لم ترضاه الأسرة التي تمكنت من الحصول على تقرير رسمي من المستشفى ممهورًا بختم النسر، يبين أن سبب الوفاة كورونا.
كورونا ليست مدرجة في نظام الكمبيوتر ليتم كتابتها؛ هكذا رد طبيب مكتب الصحة على استفسار الدكتور وائل علاء، الذي سأل عن سبب تدوين جملة “وفاة بالتهاب رئوي دون ذكر كورونا” في شهادة وفاة زوجته الدكتورة رغدة الدخاخني.
توفيت الدكتورة رغدة، تاركة خلفها 3 أطفال، أصغرهم الرضيعة التي وضعتها قبل الوفاة بأسبوع. ومثلها ترك الشهيد الدكتور وائل السحن طفلة في مراحل تعليمها الأولى، وزوجته ربة المنزل، التي لم تحصل من مستحقات زوجها الراحل سوى معاش مقرر بحوالي 800 جنيه وآخر من النقابة يُقدر بـ600 جنيه، رغم وفاته في 28 أكتوبر الماضي.
“وصيتي إليك يا الله أطفالي الذين لن أفرح بهم وأن تذكروني إخوتي بكل جميل ولا تنسوني من صالح دعائكم.. ”