تحولت صفقة اليمامة التي وُقعت بين المملكة العربية السعودية وشركة “بي إيه آي سيستمز” البريطانية المتخصصة في صناعة الأسلحة، منتصف ثمانينيات القرن الماضي، من أكبر صفقة سلاح في العالم إلى أكبر فضيحة فساد مالي وسياسي، بعد أن كشفت التحقيقات والوثائق عن رشاوى بمليارات الدولارات صاحبت عقد المبيعات الذي أبرمته الرياض مع شركة الأسلحة الإنجليزية، وبلغ قيمته 43 مليار جنيه إسترليني (84.4 دولار أمريكي).
ورغم الضجة الإعلامية التي صاحبت تحقيقات قضائية أُجريت بواسطة مكتب مكافحة الاحتيال الخطير في بريطانيا لأكثر من عامين، إلا أن الحكومة البريطانية قررت وقف التحقيقات في الفساد الذي شاب تلك الصفقة في ديسمبر عام 2006. وقال توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني حينها، إن “وقف التحقيقات كان حيويًا للمصالح البريطانية”، معلنًا تحمله شخصيًا مسؤولية وقف هذا التحقيق، لأنه كان سيؤدي إلى “نتائج كارثية لعلاقتنا مع بلد مهم نتعاون معه بشكل وثيق في مجال مكافحة الإرهاب والأمن، وعملية السلام في الشرق، الأوسط، وقضايا أخرى عديدة”.
ومن بين الأسباب التي عرضها بلير على المدعي العام البريطاني لحثه على إصدار قرار وقف التحقيق، أن إلغاء تلك الصفقة سيؤثر على وظائف 10 آلاف بريطاني يعملون في مجال صناعة السلاح.
كان بلير قد بدأ في ممارسة ضغوطه لاستصدار قرار وقف التحقيقات بعد تحذير الرياض من قطع علاقاتها الدبلوماسية مع لندن، وإلغاء صفقة شراء مقاتلات “يوروفايتر”، فضلاً عن وقف كل الأموال التي لها علاقة بصفقات الدفاع مع بريطانيا، والتي تصل إلى 40 مليار إسترليني، وهو ما دفع لوبي شركات التصنيع العسكري إلى التحذير من أن استمرار التحقيقات قد يتسبب في خسارة عقودها مع السعودية.
اقرأ أيضًا: “حقوق الإنسان الأممي”: خاشقجي يحرج السعودية.. والصين وروسيا تتحديان أمريكا
قبل وقف التحقيقات بشهور، نشرت بي بي سي تحقيقًا يشير إلى أن الأمير بندر بن سلطان، السفير السعودي السابق في الولايات المتحدة، ونجل وزير الدفاع الأسبق الأمير سلطان، والذي لعب دور المفاوض عن الجانب السعودي في صفقة اليمامة، كان قد تلقى نحو ملياري دولار على مدى عقد من الزمن كعمولات مقابل دوره في إتمام تلك الصفقة، لكن بندر نفى من جانبه بشكل قاطع تلك الاتهامات.
وقالت صحيفة “صنداي تايمز” أن الرياض سلمت، عبر دبلوماسي سعودي بارز، رسالة إنذار بقطع العلاقات إلى الحكومة البريطانية، فيما أشار مصدر أُطلع على الرسالة، إلى أن السعوديين اتهموا الحكومة البريطانية بخرق وعودها وتعهداتها، فيما يتعلق بالصفقة والحفاظ على سريتها، ومن ثم سعى بلير إلى تهدئتهم.
كما نشرت الجارديان البريطانية، تحقيقًا استقصائيًا أعده الصحفيان ديفيد لي وروب إيفانز، أشار إلى وجود أدلة على طلب أفراد من الأسرة المالكة السعودية عمولات مالية مقابل دورهم في إبرام صفقات سلاح بين السعودية وبريطانيا.
قوى الاستعمار القديم والجديد، لاتزال تتعامل مع دول الشرق الأوسط باعتبارها البقرة التي تدر عليها بدلاً من الحليب نفطًا وأموالاُ وأسواقُا مفتوحة لبضائعهم
اتهامات الفساد طالت أميرًا آخر من آل سعود، وهو تركي بن ناصر، زوج ابنة الأمير سلطان، الذي تلقى ما لا يقل عن 60 مليون جنيه إسترليني من الرشاوى والخدمات العينية، شملت سفريات ورحلات ترفيه له ولأسرته.
ووفقًا لمصارد قضائية تحدثت لوسائل إعلام بريطانية حينها، دفعت شركة “بي إيه آي سيستمز”، مئات الملايين من الجنيهات الإسترلينية للترفيه عن أفراد من العائلة المالكة السعودية في زيارتهم إلى بريطاتيا، وكذلك السفر إلى الخارج، بما في ذلك الفنادق ووجبات المطاعم الفاخرة والسيارات والخدمات الجنسية.
وأشارت التحقيقات الأولية إلى تورط كل من تاجر السلاح السوري المعروف وفيق سعيد في تلقي عمولات غير شرعية، ورجل الأعمال محمد الصفدي، الوزير اللبناني في حكومة رفيق الحريري، وكذا مارك تاتشر نجل رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر، والذي اُتهم بتلقي عمولات وصلت إلى 17 مليون دولار أمريكي.
بدأت التحقيقات الأولية في مزاعم الفساد التي شابت الصفقة عام 1989، أي بعد أربع سنوات فقط من إبرامها. وفي 2006، أعلن مكتب مكافحة الاحتيال الخطير، تحقق تقدم كبير في فك تشابك شبكة شركات وهمية ووكلاء وحسابات مصرفية خارجية استخدمتها شركة السلاح البريطانية لتمرير العمولات إلى الأمراء السعوديين.
في ذلك التوقيت صعدت الحكومة السعودية من ضغوطها لوقف التحقيق، في وقت كانت شركة “بي إيه آي سيستمز” تتفاوض على صفقة أخرى مع الرياض، وقيل إن هذه الصفقة ستكون في خطر إذا استمرت التحقيقات، حتى تدخل توني بلير على النحو المذكور سلفا.
ونتيجة للضغوط السعودية وتدخل توني بلير، أعلن المدعي العام البريطاني جولد سميث عن وقف مكتب مكافحة الاحتيال الخطير التحقيقات في صفقة اليمامة، حفاظًا على مصالح بريطانيا، فيما حذر أعضاء في مجلس العموم من الضرر الجسيم الذي سيلحق بسمعة بلادهم إثر قرار وقف التحقيق.
أثار قرار وقف التحقيق جدلًا كبيرًا. ودشنت منظمات غير حكومية وجماعات ضغط تعمل ضد تجارة السلاح حملات لاستئناف قرار وقف التحقيقات. وصدر بالفعل حكم قضائي بأن إلغاء التحقيق غير قانوني. وأُيّد الحكم في محكمة استئناف، لكنه نُقض في مجلس اللوردات البريطاني، ثم أيدت المحكمة العليا قرار النقض.
وبعد أن هدأت عاصفة فساد صفقة اليمامة، عادت إلى الواجهة مجددًا في نوفمبر عام 2017، بعد أن قالت عضو البرلمان البريطاني عن حزب العمال آن كلويد، إنها ستقدم طلبًا للجنة العلاقات الخارجية لإعادة فتح التحقيق في قضايا الفساد المرتبطة بالصفقة.
وأشارت كلويد إلى أن إعادة فتح التحقيق في صفقة اليمامة سيكون مناسبًا في سياق الاعتقالات التي طالت أمراء ورجال أعمال في المملكة السعودية في ذات العام على خلفية قضايا فساد، في إشارة إلى الحملة التي شنتها اللجنة العليا لمكافحة الفساد التي شكلها الملك سلمان بن عبد العزيز برئاسة ولي عهده محمد بن سلمان، وطالت عددًا من الشخصيات البارزة، بينهم أمراء ووزراء حاليين وسابقين ومسؤولين ورجال أعمال.
انتهت قصة صفقة اليمامة، التي يستدعيها من آن إلى آخر كتاب ومحللون للهجوم على الأسرة الحاكمة في المملكة العربية السعودية التي تُحكم “على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم”، وفق ما ورد في باب نظام الحكم بوثيقة “النظام الأساسي للحكم” (بمثابة دستور في السعودية)، بينما يتورط أمراؤها في صفقات فساد ورشاوى مالية وجنسية.
خلاصة القصة بعيدًا عن الهجوم على آل سعود، فإن قوى الاستعمار القديم والجديد، لاتزال تتعامل مع دول الشرق الأوسط باعتبارها البقرة التي تدر عليها بدلاً من الحليب نفطًا وأموالاُ وأسواقُا مفتوحة لبضائعهم. وفي بعض الأوقات لا ترقى دول المنطقة بالنسبة لحكومات الغرب إلى مرتبة البقرة، فتلك الأخيرة لها حقوق لا تحظى بها بلادنا عندما يتعلق الأمر بالمصالح العليا لدول الاستعمار القديم والجديد، أو فيما يتعلق بالحفاظ على أمن وتفوق دولة الاحتلال الإسرئيلي على جيرانها العرب.
على مدار الخمس سنوات الماضية شكلت صادرات الأسلحة الغربية الجزء الأكبر مما استوردته دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من السلاح، بحسب تقرير نُشر مؤخراً لمركز السياسة الدولية (CIP)، بواشنطن.
وبحسب التقرير الذي نشر في سبتمبر الماضي، حازت الولايات المتحدة نصيب الأسد بحصة بلغت حوالي 50%، فيما فازت فرنسا وبريطانيا وألمانيا بما يقارب 24% من مشتريات دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من السلاح.
التقرير ربط بين الأسلحة التي تصدرها تلك الدول إلى المنطقة، وبين الحروب والنزاعات التي لا تنتهي، للدرجة الذي دفعت البعض إلى اتهام تلك الدول بالتسبب في إذكاء النزاعات والقلاقل في المنطقة أو على الأقل عدم حرصها على وقفها. “العائدات الاقتصادية المباشرة وخلق الوظائف هل هي الدافع وراء بيع السلاح لتلك الدول؟”، يتسأل بيتر فيزيمان، باحث رئيسي في معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي.
وبحسب تقرير لمعهد ستوكهولم، فإن “تجارة الموت” تشكل نحو ثلث تجارة الأسلحة بالعالم”. يقول التقرير: “هناك ثلاث بلدان عربية، ضمن قائمة الدول الخمس الأكثر شراءً للسلاح على الصعيد الدولي”، وذلك خلال الفترة ما بين 2013 و2018. وأشار التقرير إلى أن السعودية ومصر والإمارات احتلوا المراكز الثاني والثالث والرابع على التوالي في سباق التسلح.
اقرأ أيضًا: حقوق الإنسان في السعودية: محاولة اغتيال خاشقجي جديد وناشطات في السجون
ويبدو أنه كلما زادت الضغوط الغربية في ملفات انتهاك حقوق الإنسان وغياب الديمقراطية، كلما ارتفعت فواتير صفقات السلاح التي تدفعه دول المنطقة إلى شركات الأسلحة في الغرب، حتى تتغاضى بلدانها عن تلك الانتهاكات.
رهان بعض النشطاء في بلادنا على تحقيق أي تقدم في ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان بضغوط أوربية وأمريكا، هو رهان خاسر
ما حدث من فساد في صفقة اليمامة وما تلاها من صفقات، يدلل على غلبة المصالح على المبادئ في تلك الدول التي تروج للديمقراطية والحرية، وتصدر للعالم تمسكها بقيم العدالة والنزاهة واستقلال القضاء. لكنها تغض الطرف عن الانتهاكات والفساد ويصل بها الأمر إلى الضغط على القضاء حتى لا تتأثر مصالحها المادية.
حديث دول الغرب عن حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية في دول الشرق الأوسط في العلن وأمام الكاميرات، يختلف عما يدور في الغرف المغلقة مع القادة العرب فلغة المصالح والصفقات هي التي تحكم العلاقات بين الغرب ودول المنطقة العربية.
رهان بعض النشطاء في بلادنا على تحقيق أي تقدم في ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان بضغوط أوربية وأمريكا، هو رهان خاسر. ورسالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن صفقات بلاده مع مصر ليست مشروطة بتحسين حقوق الإنسان، كانت كاشفة لتوجهات بلاده وغيرها من دول الغرب، فرغم تصاعد الانتقادات للرئيس الفرنسي بعد الإعلان عن استقباله لنظيره المصري عبدالفتاح السيسي الذي تتهم منظمات حقوقية فرنسية وأوروبية، حكومته، بانتهاك حقوق الإنسان؛ رفض ماكرون خلال المؤتمر الصحفي الذي جمع الرئيسين الربط بين الصفقات التجارية وملف حقوق الإنسان، وعزا ذلك إلى أنه لا يرغب في إضعاف قدرة القاهرة على مكافحة الإرهاب في المنطقة.
الأنظمة العربية خبرت جيدًا كيف تشتري ولاءات وذمم حكومات الغرب، حتى تتغاضى الأخيرة عن استبدادها وانتهاكاتها لحقوق شعوبها.