“الوصم الجغرافي” مصطلح غير شائع بين عموم الناس، إلا أن مفهومه ممارس بشكل يومي تقريبًا ومنذ عشرات السنين. وذلك تنوعًا بين دعابة وسخرية وأحيانًا تهكم وتحقير. ستسمع، أو لعلك سمعت بالفعل، تعبيرات تشير إلى الانتماء الجغرافي، لا تخلو من احتقار يستدعى. مثلاً: “فلاح ساذج” أو “صعيدي غشيم” أو “عرباوي غدّار”.
الوصم الجغرافي من القاهرة.. “المركز” يسود
يتفادى محمد علي ذكر أنه من إمبابة، تلك المدينة التي ولد ويعيش بها. فعلى الرغم من أن إمبابة تطل على النيل وتقترب من أحياء راقية مثل المهندسين والعجوزة والزمالك، لكنها دائمًا ما توصم بالبلطجة. “حينما أذكر إمبابة، ينظر إلي بتوجس وخيفة”.
“علي” صاحب الـ 29 عامًا، الذي يعمل مدرسًا، دائم الحرص على إخفاء مدينته؛ خوفًا من أمرين. يقول عن الأمر الأول: “البعض يعتقد أن إمبابة منطقة عشش يتوغل فيها البلطجية ليل نهار. وذلك بسبب الصورة الذهنية لدى البعض الناتجة عن أفلام السينما التي صورتنا على أننا جمهورية البلطجة”. بينما يتلخص الأمر الثاني في أنه خلال إجرائه اختبارات للحصول على شهادة إتقان لغة أجنبية كان يختلط بطبقات اجتماعية عالية، وكثيرًا ما كانت تنقطع العلاقة بعد الإفصاح عن مكان سكنه. “لذلك قررت أن أنسب محل سكنه إلى المحافظة ذاتها.. بقيت اختصر الموضوع وأقول أنا من الجيزة لأن إمبابة هتجيب وجع دماغ”.
خلال التحاق ياسر مرزوق، 28 عامًا، بمعهد الدراسات المتطورة في منطقة الهرم، كان كثير الاختلاط بالمغتربين من محافظات الصعيد. وكان يتعرض لمضايقات بسبب لون بشرته. يقول: “كان معايا ناس من الصعيد فاكرني عيل فرفور، عشان شكلي كويس وبروح المعهد بملابس نظيفة”. ويضيف مرزوق: “خلال فترة دراستي كنت أسكن في الهرم، وبسبب ذلك الأمر كان يظن زملائي أني كثير الذهاب إلى الملاهي الليلة في المنطقة”.
يستكمل ضاحكًا: “لك أن تتخيل لمجرد أني أسكن في حي الهرم بقيت بروح كباريهات”.
حينما قدم الأسواني مصطفى عبدالغني إلى القاهرة، وجد أن سكانها ينظرون إلى القادمين من الصعيد تحديدًا على أنهم غير مهندمين، وأشداء في تعاملاتهم.
لم يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل انتقل إلى التمييز السلبي ضد عبدالغني في اللون. يوضح: “أنا من أسوان الذي يشاع أن أهلها من داكني البشرة وأنا أميل إلى البشرة الفاتحة لذلك يستنكر الجميع ذلك عندما أقول أني من أسوان ويقولون كيف ذلك أنت أبيض أزاي؟”.
ووفق عبدالغني، فإن كثير من شباب الأقاليم يتخلى عن لهجته وأسلوب معيشته حتى يواكب طريقة العيش ولا يتعرض إلى السخرية. “النظام الشمولي في مصر والمركزية في القاهرة جعلت عموم الناس تقولب المواطنين وتضطهد المختلف سواء باللون أو اللهجة أو اللبس” حسب عبدالغني.
اقرأ أيضًا: ليس الفقر وحده سببا للهجرة.. هناك عوامل أخري
كيف يكون الوصم الجغرافي؟
لا يوجد تأريخ حقيقي لبداية هذه الظاهرة، وكذلك تندر الأبحاث الاجتماعية في هذا الشأن. ولم ينتج باحث من قبل دراسة حول ظاهرة وصم الإسكندرانية للفئات الأخرى بالفلاحين مثلاً، كلما رأوا مصريين مثلهم يسيرون على الكورنيش بملابس البحر. ولم تسلم النساء المحجبات اللواتي يغطسن بمايوه شرعي أو نقاب من تنمر.
كل هذه المشاهد رسخت صورًا ثابتة في الأذهان عن أبناء مدينة الرب، لذا كانت الردود بالمثل حينما جاب شبان أحياء مدينة الثغر احتجاجًا على فيروس كورونا العام الحالي. الأمر الذي استغله أبناء الصعيد والريف والقاهرة ووجدوا فيه مادة سخرية ممتازة يثأرون بها لسخريات الماضي.
الوصم الجغرافي يظهر من منطقة لأخرى ويكون ناتجًا عن قصور فكري؛ يقول الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، الذي يرى أن سخرية أبناء محافظة من أقرانهم بأخرى أو انتشار السخرية من منطقة ما، يكون له جذور إما سياسية أو اجتماعية.
عالم الاجتماع الكندي، إرفينغ غوفمان، يعرف الوصم في كتابه الذي يحمل الاسم ذاته، بأنه كل خاصية يمكن أن تنزع عن الفرد رمزية العادي. وتٌبعده عن معايير المجتمع الأخلاقية والجمالية وتمنحه في المقابل صفة الدوني.
المجتمعات الموصومة
يقول غوفمان، إن الوصم الجغرافي نوعًا من العلاقة بين خاصية معينّة وصورة نمطية، وبهذا لا تعتبر الخاصية سواء كانت نفسية أم جسدية وصمًا، إلا عندما تكون مسجلة في لائحة الخصائص الدونية.
وتشير دراسة “التمييز والوصم واستراتيجيات المقاومة” إلى أنه حينما يوصم قاطنو أحياء ما بصفات غير مرغوب فيها يصبح آنذاك نبذهم وإقصائهم والحطّ منهم قيمة مبرّرة.
تذكر الدراسة أن الأحياء والمجتمعات الفقيرة الموصومة تعيش دائمًا تحت وطأة الحرمان المادي. تعاني من صعوبة ولوج إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية كالصحة والتعليم والسكن اللائق. فضلاً عن معاناتها النفسية مع مشاعر جلد الذات والإحراج الدائم.
وبحسب عالم الاجتماع العراقي معن خليل عمر، يمر الشخص الموصوم بـمراحل عدة خلال انخراطه في المجتمع. تبدأ هذه المراحل برد فعل تجاه المجتمع، ويتكرر الفعل مع زيادة النسبة.
ويشير في كتابه “التخصص المهني في مجال الرعاية اللاحقة”، أن الانحراف يزداد للرد المباشر على موقف المجتمع نحوه. وتبدأ شخصية الموصوم تتغير. وفي المرحلة الأخيرة يقبل الفرد التوافق مع شخصيته ودوره كشخص منبوذ في مجتمعه، ويشعر بالوصمة الاجتماعية تجاهه.
من الأكثر وصمًا؟
تحتل محافظة القاهرة النسبة الأعلى في الهجرة الداخلية بنسبة 38.7%، ويعمل غالبيتهم في أعمال البناء والتشييد والنقل والصناعات التحويلية، وذلك بحسب بيانات رسمية للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
وبحسب بحث عمراني، يلاحظ أن غزو الهجرة من الريف إلى القاهرة الكبرى اشتد في العقدين السادس والسابع من القرن العشرين.
تلك الوظائف المذكورة في الأعلى التي نتجت في الأساس من مركزية القاهرة أصلت لصورة ذهنية لدى سكان الأقاليم عن القاهريين أنهم إما سكان عشوائيات وبلطجية أو مرفهين يعيشون في ترف ولا يمكنهم العمل في وظائف تحتاج إلى جهد بدني وقوة.
“القاهريين واخدين حقهم”
القاهرة الأقل بين المحافظات في التعرض للوصم الجغرافي. بينما يأتي الصعيد في بداية المتضررين بالوصم الجغرافي، ثم الإسكندرانية ويليهم المنايفة والدمايطة. وينقسم التنمر فيما بعد بين الصعايدة فيما بينهم، وفق ما يوضح الدكتور جمال فرويز استشاري الطب النفسي وأمراض المخ والأعصاب.
“القاهرة هي العاصمة وينصب فيها كل الاهتمام وليس لديها يد تمسك منها ولا يوجد فيها عائلة أصلية قاهرية وده بيخلي الناس تتكلم على القاهريين لأنهم واخدين حقهم وزيادة” يتايع استشاري الطب النفسي.
الوصم الجغرافي سخرية متعمدة، يكون الغرض منها شخص واحد، لكنه يمتد إلى التعميم على الكل. وذلك لغرضه يكون في أوقات كثيرة سياسيًا وليس دينيًا أو اجتماعيًا، كما يوضح الاستشاري، الذي يلفت إلى أن الوصم تجاه القاهرة محدود ويكون ضيق لأنها تحتوي على أصول وجذور متنوعة ومختلفة يصعب تحديدهم في وصم.
مدينة بها اثنين أو ثلاثة من البخلاء يعمم الأمر على الجميع. يشاع هذا الأمر على محافظتي دمياط والمنوفية، مثلاً، كما يوصم أهل الصعيد بالسذاجة.
يشير فرويز إلى أن البداية في تعميم السيئ تأتي من الطفل وهو في ١٣ سنة. حينما يبدأ باستخدام اللفظ في معناه الظاهر وليس المراد أو الباطن. ولذلك فإن عدد كبير من الأطفال يعمم الكلمة على الجميع “زي الطفل يعتبر كل الرجال بابا وهو في عمر سنتين”.
وعن تأثير كلمات مثل (منايفة وسواحلية ومصاروة) على النفس، يقول إنها تنعكس على المتلقي بشكل سلبي وتترك آثارها في نفسيته لفترة ما. لأنها تحمل في طياتها معاني سلبية وغير حقيقية، وتحدث شعورًا بالغربة في وطنه ومن مواطنين مثله.
اقرأ أيضًا: في السينما المصرية.. التنمر مُباح من أجل الضحك (كروس ميديا)
“نص الشعب فلاحين”
الآثر النفسي الذي يتحدث عنه فرويز تجلى بشدة في حديث سابق لنقيب الفلاحين حسين عبد الرحمن أبو صدام، حين خرج يتصدى لحملة ضد نجم منتخب مصر محمد صلاح، عقب وصفه بالفلاح، لدعمه زميله عمرو وردة على خلفية واقعة تحرش سابقة.
صلاح قاد حملة التصدي لاستبعاد وردة خلال معسكر الفراعنة في كأس الأمم الأفريقية الأخيرة، ما جعله يتعرض لانتقادات واسعة “محلية وأجنبية” لدفاعه عن لاعب متحرش. ومن بين الانتقادات التي طالته حيذاك أن أصوله الريفية طغت على سلوكياته كنجم مشهور.
أبو صدام قال وقتها إن “نصف الشعب المصري فلاحين والنصف الآخر من التجار والصناع وكل المهن الأخري تعيش على الإنتاج الزراعي”. ولم يكتف بالدفاع عن صلاح، ابن الغربية، بل طالب مجلس النواب بإقرار تشريعات تصون وتحمي الفلاحين وتجرم إهانة مهنة الفلاحة.
كما شارك أبو صدام في حملة أخرى لرفض التنمر ضد الفلاحين بعد مقال سابق للإعلامية إسعاد يونس استخدمت فيه لفظ فتحية الفلاحة، ما اعتبره متابعون أن المقال ورد به عبارات تحمل احتقارا وازدراء للطبقة الفقيرة وللفلاحين.
الوصم الجغرافي سياسيًا واجتماعيًا
وفي سياق منفصل، يقول استشاري الطب النفسي، إن الوصم الجغرافي كان يستخدم في إطار سياسي بين الحين والأخر. ويوضح أنه بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، والذي يرجع أصله إلى محافظة أسيوط، خرجت نكات على الصعايدة تنعتهم بالغباء أو فعل أمور غير مناسبة في أوضاع غريبة.
ويشرح فرويز: “حدث الأمر ذاته لأغراض سياسية واجتماعية مع السادات ومبارك”. والتعميم يحدث نتيجة خوف من بطش تلك الشخصيات. لذلك يسهل وصم المنطقة بالكامل على أن توصم عائلة أو فرد”.
من وجهة نظر الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية، يكون الوصم الجغرافي عادة من سكان العاصمة المركزية تجاه سكان الأقاليم والمحافظات. ونادرًا ما يحدث هذا النوع من الوصم بين محافظتين ساحليتين أو في الدلتا، لأن بينهما سمات مشتركة.
ويستكمل: “أهل المدن يعتقدون أنهم التحضر والحضارة والتمدن، أما الريف فهو التخلف والإهمال”. والأمر لا يقتصر على مصر تحديدًا لكنه منتشر في دول العالم. ومثال على ذلك تجد سكان الشمال يضطهدون سكان الجنوب في إيطاليا. فيقال أهل صقلية فلاحيين. وهي نظرة دونية بعيدة عن مهنة الفلاحة.
ويتابع: “الإهمال والدونية تجاه كل من هم خارج المركزية القاهرة جعل المواطنين يشعرون بأن ثقافتهم وأسلوبهم غير مقبول في الدولة”. وذلك نتيجة الصور الذهنية المترسخة عن كل إقليم.