كانت “ك. ن” امرأة جميلة، تداوم على لقاء الصديقات، تجلس ورفيقاتها على مقربة من جلستي المعتادة، وفي كل يوم أسمعها تشكو. تتنوع الشكوى اليوم من أطفالها الذين لم ينصفها الله فيهم، ومرة أخرى زوجها الذي لا يلتفت لكل ما تفعله، ثم حماتها، وصديقتها التي لم يتمر فيها كل ما فعلته من أجلها. كانت شكاوى “ك. ن” تجعلني أسأل نفسي: ألا تجد هذه المرأة شيء حلو في الدنيا؟ لماذا يسيطر حس المظلومية عليها بهذا الشكل؟
لماذا يشعر أحدهم بأن كل العالم يتآمر ضده، كيف لامرأة مستمرة في حياتها أن يكون بداخلها كل هذا الإحساس بالظلم، وكيف لامرأة تفعل أشياء بإرادتها أن تقف وتجد أن ما تفعله هو شيء لا يتم تقديره، وتجلس بين الندم علي ما فعلت، وبين احساسها بعدم التقدير؟ هل يضعنا الآخرون في موقع الهزيمة فنتذكر أسلحتنا ونبرر هزائمنا، أم نحن من نختار الهزيمة؟
تدفعني الشكوى التي أسمعها في مواقع عديدة أن أُفكر، ليست فقط تلك التي تصل لأذني وأنا أجلس في مكان ما، بل هناك التي تظهر في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث نرى الكثير، نجلس في مقاعد المشاهدين، ونُطل على شريحة من المجتمع الذي نختاره، وفي لقطة أخرى نكون نحن من يُشاهدنا الآخرون. تلك الدائرة لا نخرج منها. نتبادل المقاعد في هدوء وانسيابية.
دأبت إحداهن على الشكوى. كل يوم مشكلة جديدة. كل يوم متعاطفين ومتعاطفات. أتفهم هذا النوع من منشورات هوس البعض بالاهتمام، والرغبة في أن تكون محط الأنظار والتعاطف. لكن ذلك يدفعنا لنقطة أخرى. في المثل الشعبي: “الشكوى رأوة”، أي أن كثرة الشكوى تحمي صاحبها من الحسد، ربما!
اقرأ أيضًا: والخير يجيبه البحر
تعتمد بعض النساء طريق الشكوى كدرع وقاية وجلب تعاطف. يُمكن أن نتفهم ذلك أحيانًا؛ قد تكون الشكوى حدث عابر، غير أن بعض النساء يسلكن هذا الطريق، بحيث يقدمن أنفسهن كمظلومات دومًا، ولا يجدن خيرًا في صديق. فكيف نفهم ذلك؟
ربما بعض النساء تخافن من الحسد. نعم الحسد الذي نتحدث كلنا عنه، ويؤمن به الكثير منا رجالًا ونساءً، وإن كانت مساحة مصدقينه أكبر بين النساء، كون المرأة تهتم بالتفاصيل، وفي الغالب هي شخص عاطفي.
وبعيدًا عن موقفي أو موقفك الشخصي من فكرة الحسد، فلا يُمكن أن ننكر أن التعامل مع فكرة الحسد أحد الأفكار المسيطرة في مجتمعنا، ومن ثم فإن كثيرات يحاولن أن يصرفن النظر عنهن بكثرة الشكوى، وادعاءات الفقر والمرض وضيق الحال.
السقوط في بئر الهزيمة أكبر فخ يمكن أن يقع فيه إنسان وبالأخص النساء، ذلك أننا نعيش في مجتمع تُديره النساء بينما كثيرات لا يُقدرن دور المرأة فيه
هذ نمط من الشكوى لا نستطيع الهروب منه. من تقوم بالشكوى لا ترى نفسها مخطئة، ومن يستمعن لها، قد يدرن ظهورهن، وتبدأ بعضهن في التهكم وإعادة اجترار شكواها بكثير من التسفيه والتقليل. فصاحبة الشكوى، كي تتقن ما تفعله، تصدق أنها في هذا الجانب. وهذا يؤدي إلى عدم رضا، وعلى الجانب الآخر مع الوقت تفقد لثقة في نفسها.
السقوط في بئر الهزيمة أكبر فخ يمكن أن يقع فيه إنسان وبالأخص النساء، ذلك أننا نعيش في مجتمع تُديره النساء، بينما كثيرات لا يُقدرن دور المرأة فيه. ترى بعض النساء أنفسهن مظلومات، ولا يكترثن بتغيير وضع المظلومية؛ الأبناء مزعجين لماذا لا تجتهد في تربيتهم؟ ذلك أن المظلومية أريح كثيرًا، كما أن نمط الحياة التي نعيشها والتداخل والأدوار تجعل الشكوى طريقة أسهل لتحقيق بعض الدعم والمساندة.
صحيح أن بعض النساء يلجأن للشكوى كدرع حماية من الحسد. لكن كثيرات يفعلن ذلك جلبًا للتعاطف والاهتمام، فهل جربنا أن نتعامل بشكل آخر مع من يشكو؟ هل جربنا أن نهتم ونتعاطف قبل الشكوى؟ هل قامت امرأة بشكر ابنتها أو أمها أو صديقتها على ما تفعله؟
اقرأ أيضًا: نار الغيرة
الظروف الاجتماعية الضاغطة، والتغيرات الثقافية والقيمية في العقود الثلاثة الماضية أظهرت تحولات اجتماعية وسلوكية متنوعة، فالود آخذ في التلاشي. التقدير والشكر صار باهتًا، ونحن مدفوعون صوب توفير احتياجاتنا الأساسية. وحين نسمع إحداهن تشكو، نمصمص الشفاه، ونسخر في داخلنا، نقول كلمات جوفاء لنتجاوز الموقف، وفي أحاديثنا الجانبية نسخر من كثرة الشكوى، بينما الشاكية تستمرء موقفها وتستمر طلبًا للاهتمام والتعاطف.
دائرة مفرغة: من تشكو تحتاج كلمات الدعم، وكلما سمعت دعمًا زادت رغبتها في سماع المزيد، وكلمة وشكوى ثم سقوط في فخ المظلومية، ومن حولها يستمعون يعطون الدعم الذي تحتاجه، ويستخدمون شكواها مادة للسخرية في غيابها.
تتسع الفجوة، ونتحول بشكل لا واعي لعلاقات مريضة، نسخر ولا نصدق الشكوى، بينما تستمرء بعض النساء الشكوى، تجد فيها سندًا لاختفاء التقدير، في حين أن الحلول بسيطة، فهل تعلمنا أن نشكر ونقدر ونرد الفضل لأصحابه؟