أسماء سعد

كانت أشهر طوال وعصيبة تلك التي مرت بها رانيا خلال الفترة الماضية. لازمتها مشاعر الاغتراب والقلق على الطفلين، وغيرت من نظرتها للحاضر والمستقبل. الوباء كان نفسيًا أكثر منه عضويًا. والأجواء حولها مشبعة بغيوم كورونا الثقيلة، التي أفقدتها الأقربين، وأورثتها فوبيا انتقال العدوى.

“مع بداية الجائحة كنت دائمة التشكك في كل شيء وكل دور برد مررت به ظننته كورونا. ومع كل إعلان عن الأعراض كان الذعر يلتهم عقلي. كان خوفي في ذروته خلال مارس وأبريل 2020. كنت أرتجف من مشاهد الموت القادمة من أرجاء العالم عبر وسائل الإعلام ويوتيوب”، تقول رانيا.

Doomscrolling” مصطلح جديد انضم في السنوات الأخيرة إلى مجال الطب النفسي، ويعني “الإفراط في متابعة الأخبار”. وقد حذرت عديد من الدراسات الحديثة من الآثار النفسية لمتابعة الأخبار السيئة الخاصة بكورونا. بينما رأى علماء النفس أن الاكتئاب و”اضطراب الوسواس القهري” أحد المشاكل النفسية المرجح استمرارها على المدى الطويل بعد هذا الوباء.

وهذا ما تشير إليه حالة رانيا، الثلاثينية، العاملة بمجال التعليم. تقول: “أصبح الحزن جزءًا من روحي وعلامة على وجهي لا تفارقني. بت أكثر انعزالية. كل ما أتلقاه من وسائل دعم من حولي لا تجدي نفعًا. والأنشطة التي كانت تسعدني كمشاهدة التليفزيون أو محادثة الأصدقاء فقدت قيمتها. صراحة لا أرى أنني تجاوزت الآثار النفسية لكل ما جرى إلى الآن”.

يتفق الخبراء على أن العلم قد يحتوي صدمات كورونا وتأثيراته العضوية، وأن أحد اللقاحات أو الأمصال، قد يحقق فعالية ناجعة ضد الفيروس، إلا أن الأمر سيكون أكثر صعوبة على الصعيد النفسي منه على الجسدي، فالعالم غير مستعد للوباء النفسي جراء كورونا، والتداعيات تتطلب استعدادات حقيقية من خبراء الصحة النفسية لموجة ثانية أشد وطأة من الأولى، على جميع المستويات النفسية والاقتصادية والحياتية.

توليفة كورونا .. السعال والقلق والحزن

لم يتوقع عبدالغفار محمود (29 عامًا) أن يتحول في بداية حياته الزوجية إلى ضيف دائم على العيادات.

حديثًا يؤكد أنه لم يكن يتصور أن يكون يومًا ما ضيفًا على العيادات النفسية، طلبًا للعون العاجل والمساعدة الطبية والدوائية، حتى لا تتفاقم الأمور عنده بسبب شهور الوباء الأخيرة. يقول: “كنت الأكثر مرحًا بين أصدقائي، لم يكن أحد ينافسني في الابتهاج ونشر السعادة والضحك في أي مناسبة يجتمع بها الأصدقاء، ولكن مع انصرافهم وتفرق الجموع إلى العزل الإجباري والهرولة لتأمين مصاريف الحياة وسط مخاوف الطرد من العمل وإغلاق الشركات”.

كورونا
ستكون صدمة كورونا أكثر صعوبة على الصعيد النفسي

فقد عبدالغفار أصدقاءه. تأثر عمله وفقد نصف راتبه “بسبب أجواء كورونا”، وبالجملة تأثر عمله بإحدى شركات السياحة، إضافة إلى أن حمل زوجته وقت ذروة الوباء كان “ينهشني قلقًا عليها وعلى الجنين”، كما قال.

تسببت كورونا، أو بالأحرى أجواء انتشار الفيروس، في اعتماد عبدالغفار على الحبوب المهدئة، التي يقول إنها باتت بالنسبة إليه بمثابة “طوق نجاة من الوباء النفسي”.

اقرأ أيضًا: “موتى كورونا”.. كثافات الجثث ترهق العالم وترعب الأحياء

وفي حين انصب اهتمام العالم على معالجة آثار كورونا الفسيولوجية، كان الاهتمام أقل بالتأثير النفسي، حتى دق مساعد مدير منظمة الصحة للبلدان العالمية، جاربس باربوسا، جرس الإنذار حين قال: “الحاجة إلى خدمات الصحة العقلية والنفسية، مطلوبة على أشد أوجه السرعة والضرورة”.

وشدد باربوسا في بيان صحفي على أن “الصحة العقلية والجسدية يجب أن تبقى على رأس الأولويات، بينما يتّجه العالم صوب نهاية العام الأول من عمر الوباء، الذي قلب الروتين اليومي لمليارات البشر رأسًا على عقب، ودفع الملايين إلى الانعزال لأشهر طويلة، وخرب الاقتصاد وأدى إلى خسائر بشرية لم تكن متوقعة أبدًا”.

صدمة الوفيات في ظل كورونا

فقدت صفية محمد (50 عامًا) خمسة من أقرب المحيطين بها. تقول إن أسباب الوفاة مجهولة، غير أنها ترجح أن كورونا السبب.

لم تشعر صفية بالذعر جراء انتشار الوباء، لكن فقدان خمسة مقربين منها، على ضوء كورونا، ترك أثرًا نفسيًا تقول إنه أفقدها جزء من توازنها النفسي: “بت أميل للتفكير الدائم في الفراق والموت”.

أجواء حرب

لم يتسلل فيروس كوفيد 19 إلى الحويصلات الهوائية أو مجاري التنفس فقط، وإنما ضرب بتأثيره الفادح في صميم اللياقة النفسية والعصبية، فواحد بين كل خمسة أشخاص أصيبوا بكورونا، تم تشخيصهم بمرض عقلي، وفقًا لدورية لانسيت للطب النفسي، إحدى أبرز المجلات الطبية المتخصصة عالميًا.

وجدت الدراسة التي أعدتها لانسي أن احتمال إصابة المتعافي من كوفيد 19 بمشكلة نفسية أو عقلية، ضعف احتمالات المصابين بأمراض أخرى من إنفلونزا أو كسور أو غيرها، كما أن الضرر النفسي لا يطال المرضى فقط، وإنما الأطباء الذين يتعاملون مع الحالات المصابة، حيث يعاني واحد بين كل خمسة من مقدّمي الصحة من أعراض الاكتئاب.

وأوردت الدراسة أنه في تشيلي مثلاً، انتابت واحد بين كل عشرة من مقدّمي الصحة أفكار عن الانتحار، 75% من هؤلاء قلقون من احتمال التقاطهم عدوى الفيروس، و100% منهم قلقون من نقل المرض إلى أفراد الأسرة.

تحدث “مصر360” إلى مجموعة من الخبراء والأطباء النفسيين، اتفقوا على أن التداعيات النفسية لكورونا لا تقل خطورة عن الآثار الجسدية المباشرة. فاستشاري الطب النفسي محمد الشامي، يقول إن نوبات من الذعر والخوف غير المسبوقة، أصابت عددًا كبيرًا من الناس بسبب الحجر المنزلي وتقييد الحركة، الأمر الذي يترتب عليه مباشرة الدخول في اكتئاب.

يوضح الشامي أن طول مدة معايشة الوباء ومحاولة البحث عن أدوية وعلاجات خاصة به، يؤدي لحالة من الفتور العام، وكلما زادت مدة الانشغال بتلك الأجواء السلبية التي تزدحم بشحنات مرهقة نفسيًا، كلما فقد الناس حماسهم وأصيبوا بهوس في بعض التصرفات التي قد تجعلهم رافضين تمامًا للخروج من المنزل على سبيل المثال.

اقرأ أيضًا: “كورونا” يعبث بمؤشرات التجارة العالمية.. هل ستتأثر مصر؟

كما أن انتهاج بعض العادات الخاطئة بسبب التأثر النفسي، يؤثر بالتبعية على الصحة. يشرح الشامي: “العزلة وقلة الرعاية والاعتناء بالغذاء السليم، وعدم مراعاة تهوية الأماكن التي بتنا نمكث فيها أكثر من أي وقت مضى، يؤدي بنا مباشرة لآثار صحية خطيرة، خاصة أننا نتحدث عن سلوكيات لها طابع المدى الطويل وليس فترات تمر سريعًا”.

على ذلك، يؤكد الطبيب النفسي أن الذين أصيبوا بكورونا، وعاشوا تجربة العزل، يعانون صدمة نفسية تستوجب علاجًا. “علينا العمل على التوعية بأن أوقات الأوبئة كالتي نعيشها، طرق تجاوزها وتخطيها، تكون بالأمصال واللقاحات والعلاجات النفسية أيضًا”.

استشاري الطب النفسي وليد الهندي، يؤكد أيضًا على ضرورة مراعاة الصحة النفسية لمرضى كورونا “لأنها لا تقل أهمية عن الصحة الجسدية”، كما يقول، موضحًا: “أعراض الخوف والذعر التي انتابت الكثيرين، تقلل مناعة الجسم بما يؤثر على جميع الوظائف الحيوية”.

كورونا
يؤكد الأطباء على ضرورة عدم المبالغة في وصف خطورة انتشار كورونا لتسبب ذلك في مزيد من الإجهاد النفسي

لذا فإنه يرى أن تدارك التأثيرات النفسية السلبية لكورونا “ليس رفاهية”. ثم يقدم روشتة “سريعة، على الجميع أن يكون ملمًا بها”، للتعاطي مع الأثر النفسي لكورونا. مثلًا: “علينا ألا نترك بعضنا البعض في حالة عزلة عن باقي أفراد العمل أو الأسرة أو غيرها من الدوائر الاجتماعية المختلفة، يجب ألا نستخف بمشاركة فيلم أو أغنية تجدد الطاقة النفسية وترفع المعنويات، وأن نكثف من الحديث عن الأمور الإيجابية قدر المستطاع”.

يوضح الهندي أن ثمة “علامات واضحة تشير إلى أن هناك آثار نفسية مدمرة متعلقة بالفيروس”، حتى وصف تداعيات كورونا النفسية، بعد عام من انتشار الوباء بـ”موجات تسونامي من الاضطرابات النفسية”.

مدير مستشفى العباسية للصحة النفسية، مصطفى شحاتة، لفت إلى أن بعد آخر للأزمات النفسية الخاصة بكورونا، وهو تأثيرها على الأطفال.

إلى ذلك، يؤكد شحاتة إلى “المسؤولية الكبرى” على الآباء في التعاطي مع التداعيات النفسية لانتشار الوباء على أبنائهم. يبدأ الأمر بجهود الوقاية، وأول أشكالها: “لن ننكر خطورة الوضع، لكن لا بد من عدم المبالغة في وصف خطورته. لا يجب أن نضاعف على أنفسنا جرعات العزلة وإثارة القلق”، مشددًا: “يجب ألا نحدث إجهادًا نفسيًا مجانيًا لأنفسنا والمحيطين بنا”.

تداعيات غير مباشرة

أظهرت دراسات أجراها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن التداعيات النفسية المتعلقة بكورونا، لا تتعلق بالفيروس نفسه في كل الأحوال، فالأوضاع الاقتصادية التي خلفها انتشار الفيروس، أثرت نفسيًا على أعداد كبيرة من البشر، حيث أظهرت الدراسة أن 68% من الأسر الأكثر هشاشة، فقدت سبل عيشها خلال فترة الحجر الصحي، في حين نام 28% من الأطفال الأكثر ضعفًا لياليهم جياعًا خلال أيام الحظر.

لذا تأتي الأرقام الاقتصادية السلبية، ضاربة بجذورها في تأثيرات نفسية واضحة، لمحاولة مجاراة الخسائر، ما يترتب عليه زيادة نسبة عمالة الأطفال والتسرب من التعليم وارتفاع الأمية، الأمر الذي يخلق أعدادا كبيرة من العناصر البشرية التي قد تتورط في أشكال من العنف النفسي والجسدي.

تحدي اللقاح

يتدخل العامل النفسي في بعد هام وربما غريب، وهو أنه يمتد أثره ليشكل حجر عثرة أمام نجاح تجربة تعميم أي لقاح سيتم اعتماده.

ووفقًا لمحللون وخبراء يعولون على اللقاح لازدهار النمو الاقتصادي وعودة الأمور لطبيعتها، يدفعون بأنه بخلاف علاج الآثار النفسية المرهقة لدى المصابين، فإن هناك عامل نفسي آخر يشكل تحدي بالنسبة لمن لم يصابوا، وهو كيفية إقناعهم وتهيئتهم نفسيًا لتلقي لقاح سيكون فيه هامش من الخطأ المحتمل، أو بعض الآثار الجانبية غير المفهومة.